والتوجه إلى الله بالعبادة ، ودعاؤه والتضرع إليه ، مما يشفي الصدور من الكبر الذي تنتفخ به ، فيدعوها إلى الجدال في آيات الله بغير حجة ولا برهان . والله - سبحانه - يفتح لنا أبوابه لنتوجه إليه وندعوه ، ويعلن لنا ما كتبه على نفسه من الاستجابة لمن يدعوه ؛ وينذر الذين يستكبرون عن عبادته بما ينتظرهم من ذل وتنكيس في النار :
( وقال ربكم : ادعوني أستجب لكم . إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين ) . .
وللدعاء أدب لا بد أن يراعى . إنه إخلاص القلب لله . والثقة بالاستجابة مع عدم اقتراح صورة معينة لها ، أو تخصيص وقت أو ظرف ، فهذا الاقتراح ليس من أدب السؤال . والاعتقاد بأن التوجه للدعاء توفيق من الله ، والاستجابة فضل آخر . وقد كان عمر - رضي الله عنه - يقول : " أنا لا أحمل همّ الإجابة إنما أحمل همّ الدعاء . فإذا ألهمت الدعاء كانت الإجابة معه " وهي كلمة القلب العارف ، الذي يدرك أن الله حين يقدر الاستجابة يقدر معها الدعاء . فهما - حين يوفق الله - متوافقان متطابقان .
فأما الذين يستكبرون عن التوجه لله فجزاؤهم الحق أن يوجهوا أذلاء صاغرين لجهنم ! وهذه نهاية الكبر الذي تنتفخ به قلوب وصدور في هذه الأرض الصغيرة ، وفي هذه الحياة الرخيصة ، وتنسى ضخامة خلق الله . فضلاً على نسيانها عظمة الله . ونسيانها للآخرة وهي آتية لا ريب فيها . ونسيانها للموقف الذليل في الآخرة بعد النفخة والاستكبار .
60- { وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين } .
فتح الله بابه للداعين ، وفتح رحمته للمسترحمين ، وحث عباده على الالتجاء إليه ، وذلك بعد التوبة النصوح ، وأكل الحلال والبعد عن الحرام ، ونظافة القلب ، وخشوع الإنسان وتذلله لخالقه ، والصدق في الدعاء ، عندئذ يقبل الله عبادة العابد ، ودعاء الداعي ، ويطلق الدعاء على العبادة ، وفي الحديث : " الدعاء مع العبادة "
والعبادة توجه إلى الله في إخلاص ومحبة وتوقير ، والدعاء اعتراف لله بان بيده الخلق والأمر ، والنفع والضرّ .
ويمكن أن نفسر الدعاء بواحد من اثنين :
أي : اتجهوا إليّ بالدعاء فإني أستجيب لكم ، أو اعبدوني حق العبادة أحقق لكم سعادة الدنيا ، والفوز بالجنة في الآخرة .
{ إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين } .
إن الذين يتكبرون عن عبادة الله ، ويستعلون عن الخضوع لأوامره ، ويتّبعون أهواءهم ولا يخضعون لأمر ربهم ، هؤلاء الذين تكبروا على عبادة الله ، ولم يتجهوا إلى دعاء الله والتضرع إليه ، سيدخلون النار أذلاء صاغرين ، فالعزّ الحقيقي في طاعة الله والخضوع لأمره ، وإتباع ما أمر به والبعد عما نهى عنه .
ولا تنافي بين تفسير الدعاء هنا بالسؤال والتضرع إلى الله تعالى ، وبين تفسيره بالعبادة ، لأن الدعاء هو لون من ألوان العبادة ، بل هو مخّها ، أي أهم شيء فيها ، حيث يشتمل الدعاء على التوجه إلى الله واليقين بقدرته .
قال تعالى : { ونوحا إذ نادى من قبل فاستجبنا له . . . } ( الأنبياء : 76 ) .
كما أجاب الله دعاء زكريا وأيوب وداود وسليمان ويونس وامرأة عمران ، وغيرهم من الصالحين والصالحات .
وقد أورد القرطبي وابن كثير وغيرهما طائفة من الأحاديث النبوية الشريفة في هذا المقام ، ومن ذلك ما ورد في تفسير القرطبي :
حكى قتادة أن كعب الأحبار قال : أعطيت هذه الأمة ثلاثا لم تعطهن أمة قبلها إلاّ نبي : كان إذا أرسل نبي قيل له : أنت شاهد على أمتك ، وقال تعالى لهذه الأمة : { لتكونوا شهداء على الناس . . . } ( البقرة : 143 ) .
وكان يقال للنبي : ليس عليك في الدين من حرج ، وقال الله لهذه الأمة : { وما جعل عليكم في الدين من حرج } ( الحج : 78 ) .
وكان يقال للنبي : ادعني أستجيب لك ، وقال لهذه الأمة : { ادعوني أستجب لكم . . . } .
ومثل هذا لا يقال من جهة الرأي وقد جاء مرفوعا ، رواه ليث ، عن شهر بن حوشب ، عن عبادة بن الصامت قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " أعطيت أمتي ثلاثا لم تُعط إلا للأنبياء : كان الله تعالى إذا بعث النبي قال : ادعني أستجب لك ، وقال لهذه الأمة : { ادعوني أستجب لكم . . . } وكان الله إذا بعث النبي قال : ما جعل عليك في الدين من حرج . وقال لهذه الأمة : { وما جعل عليكم في الدين من حرج . . . } وكان الله إذا بعث النبي جعله شهيدا على قومه ، وجعل هذه الأمة شهداء على الناس " .
ذكره الترمذي الحكيم في ( نوادر الأصول ) {[625]} .
{ إن الذين يستكبرون عن عبادتي } : أي عن دعائي .
{ سيدخلون جهنم داخرين } : أي صاغرين ذليلين .
وقوله تعالى : { وقال ربكم ادعوني استجب لكم } . إنه لما قرر ربوبيته تعالى وأصبح لا محالة من الاعتراف بها قال لهم : { وقال ربكم ادعوني استجب لكم } أي سلوني أعطكم وأطيعوني أثبكم فأنتم عبادي وأنا ربكم . ثم قال لهم : { إن الذين يستكبرون عن عبادتي } ودعائي فلا يعبدونني ولا يدعونني سوف أذلهم وأهينهم وأعذبهم جزاء استكبارهم وكفرهم وهو معنى قوله : { سيدخلون جهنم داخرين } أو صاغرين ذليلين يعذبون بها أبداً .
- فضل الدعاء وقد ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ليسأل أحدكم ربه حاجته كلها حتى شسع نعله .
وللدعاء المستجاب شروط منها : أن يكون القلب متعلقا بالله معرضا عما سواه وأن لا يسأل ما فيه إثم ، ولا يعتدي في الدعاء فيسأل ما لم تجر سنة الله به كأن يسأل أن يري الجنة يقظة أو أن يعود شاباً وهو شيخ كبيرا أو أن يرزق الولد وهو لا يتزوج .
{ 60 } { وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ }
هذا من لطفه بعباده ، ونعمته العظيمة ، حيث دعاهم إلى ما فيه صلاح دينهم ودنياهم ، وأمرهم بدعائه ، دعاء العبادة ، ودعاء المسألة ، ووعدهم أن يستجيب لهم ، وتوعد من استكبر عنها فقال : { إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ } أي : ذليلين حقيرين ، يجتمع عليهم العذاب والإهانة ، جزاء على استكبارهم .