يقسم هذا القسم على حقيقة ثابتة في حياة الكائن الإنساني :
( لقد خلقنا الإنسان في كبد ) . .
في مكابدة ومشقة ، وجهد وكد ، وكفاح وكدح . . كما قال في السورة الأخرى : ( يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه ) . .
الخلية الأولى لا تستقر في الرحم حتى تبدأ في الكبد والكدح والنصب لتوفر لنفسها الظروف الملائمة للحياة والغذاء - بإذن ربها - وما تزال كذلك حتى تنتهي إلى المخرج ، فتذوق من المخاض - إلى جانب ما تذوقه الوالدة - ما تذوق . وما يكاد الجنين يرى النور حتى يكون قد ضغط ودفع حتى كاد يختنق في مخرجه من الرحم !
ومنذ هذه اللحظة يبدأ الجهد الأشق والكبد الأمر . يبدأ الجنين ليتنفس هذا الهواء الذي لا عهد له به ، ويفتح فمه ورئتيه لأول مرة ليشهق ويزفر في صراخ يشي بمشقة البداية ! وتبدأ دورته الهضمية ودورته الدموية في العمل على غير عادة ! ويعاني في إخراج الفضلات حتى يروض أمعاءه على هذا العمل الجديد ! وكل خطوة بعد ذلك كبد ، وكل حركة بعد ذلك كبد . والذي يلاحظ الوليد عندما يهم بالحبو وعندما يهم بالمشي يدرك كم يبذل من الجهد العنيف للقيام بهذه الحركة الساذجة .
وعند بروز الأسنان كبد . وعند انتصاب القامة كبد . وعند الخطو الثابت كبد . وعند التعلم كبد . وعند التفكر كبد . وفي كل تجربة جديدة كبد كتجربة الحبو والمشي سواء !
ثم تفترق الطرق ، وتتنوع المشاق ؛ هذا يكدح بعضلاته . وهذا يكدح بفكره . وهذا يكدح بروحه . وهذا يكدح للقمة العيش وخرقة الكساء . وهذا يكدح ليجعل الألف ألفين وعشرة آلاف . . . وهذا يكدح لملك أو جاه ،
وهذا يكدح في سبيل الله . وهذا يكدح لشهوة ونزوة . وهذا يكدح لعقيدة ودعوة . وهذا يكدح إلى النار . وهذا يكدح إلى الجنة . . والكل يحمل حمله ويصعد الطريق كادحا إلى ربه فيلقاه ! وهناك يكون الكبد الأكبر للأشقياء . وتكون الراحة الكبرى للسعداء .
إنه الكبد طبيعة الحياة الدنيا . تختلف أشكاله وأسبابه . ولكنه هو الكبد في النهاية . فأخسر الخاسرين هو من يعاني كبد الحياة الدنيا لينتهي إلى الكبد الأشق الأمر في الأخرى . وأفلح الفالحين من يكدح في الطريق إلى ربه ليلقاه بمؤهلات تنهي عنه كبد الحياة ، وتنتهي به إلى الراحة الكبرى في ظلال الله .
على أن في الأرض ذاتها بعض الجزاء على ألوان الكدح والعناء . إن الذي يكدح للأمر الجليل ليس كالذي يكدح للأمر الحقير . ليس مثله طمأنينة بال وارتياحا للبذل ، واسترواحا بالتضحية ، فالذي يكدح وهو طليق من أثقال الطين ، أو للانطلاق من هذه الأثقال ، ليس كالذي يكدح ليغوص في الوحل ويلصق بالأرض كالحشرات والديدان ! والذي يموت في سبيل دعوة ليس كالذي يموت في سبيل نزوة . . ليس مثله في خاصة شعوره بالجهد والكبد الذي يلقاه .
لقد خلقنا الإنسان في كبد : جواب القسم . والكبد : النصب والمشقة ومكابدة الشدائد .
أي : لقد خلقنا الإنسان في مشقة ومعاناة طويلة ، حيث يمر بمراحل في بطن أمه ، وبمراحل متعددة في انتقاله من الطفولة إلى الفتوّة ، إلى الشباب والرجولة والكهولة والشيخوخة ، ثم المرض والموت وحياة القبر والبعث والحساب ، والميزان والصراط ، والجنة أو النار .
والكبد : المشقة والجهد والمعاناة التي يمر بها الإنسان في حياة الدنيا ، وحياة الآخرة .
وإذا سأل سائل وقال : لماذا أقسم الله بمكة وبحياة النبي صلى الله عليه وسلم بها ، ولكل والد وما ولد ، على أنه خلق الإنسان في كبد ومشقة ومعاناة ؟
كان الجواب : نزلت هذه الآيات والمؤمنون بمكة يتعرضون للأذى والاضطهاد ، ويقاسون صنوف التعذيب والآلام ، فكأن القرآن يقول :
تلك ضريبة الحياة ، وهي الكبد والمشقة ، ولأن تكون المشقة في أمر عظيم ، هو نشر رسالة وإحياء دعوة أفضل من أن تكون في سبيل عرض من أعراض الدنيا .
{ في كبد } : أي في نصب وشدة يكابد مصائب الدنيا وشدائد الآخرة .
{ لقد خلقنا الإِنسان في كبد } أي في نصب وتعب لا يفارقانه منذ تخلقه في بطن أمه إلى وفاته بانقضاء عمره ثم يكابد شدائد الآخرة ثم إما إلى نعيم لا نصب معه ولا تعب ، وإما إلى جحيم لا يفارقه ما هو أشد من النصب والتعب عذاب الجحيم هكذا شاء الله وهو العليم الحكيم . وفي هذا الخبر الإِلهي المؤكد بأجل قسم على أن الإِنسان محاط منذ نشأته إلى نهاية أمره بالنصب والتعب ترويح على نفوس المؤمنين بمكة وهم يعانون من الحاجة والاضطهاد والتعذيب أحيانا من طغاة قريش لا سيما المستضعفين كياسر وولده عمار وبلال وصهيب وخبيب ، وحتى الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم فهو لم يسلم من أذى المشركين فإِذا عرفوا طبيعة الحياة وأن السعادة فيها أن يعلم المرء أن لا سعادة بها هان عليهم الأمر وقل قلقهم وخفت آلامهم . كما هو تنبيه للطغاة وإعلام لهم بما هم عنه غافلون لعلهم يصحون من سكرتهم بحب الدنيا وما فيها .
- اعلان حقيقة وهي أن الإِنسان لا يبرح يعاني من أتعاب الحياة حتى الممات ثم يستقبل شدائد الآخرة إلى أن يقر قراره وينتهي تطوافه باستقراره في الجنة حيث يستريح نهائيا ، أو في النار فيعذب ويتعب أبدا .
{ لقد خلقنا } أي بما لنا من القدرة التامة والعظمة التي لا تضاهى { الإنسان } أي هذا النوع { في كبد * } أي شدة شديدة ومشقة عظيمة محيطة به إحاطة الظرف بالمظروف ، لو وكله سبحانه وتعالى في شيء منها إلى نفسه هلك ، ولولا هذه البلايا لادعى ما لا يليق به من عظيم المزايا ، وقد ادعى بعضهم مع ذلك الإلهية وبعضهم الاتحاد برب العباد - تعالى الله عن قولهم الواضح الفساد ، بما قرنه به سبحانه وتعالى من الموت والمرض وسائر الأنكاد ، فعل سبحانه ذلك ليظهر بما للعبد من الضعف والعجز - مع ما منحه به من القوى الظاهرة والباطنة في القول والفعل والبطش والعقل - ما له سبحانه من تمام العلم وشمول القدرة ، وليظهر من خلقه له على هذه الصفة ، علم جميع ما في السورة ، فعلم قطعاً إنكار ظنه لتناهي قدرته وتعالي عظمته ، وفساد هذا الظن بشاهد العقل من حيث كونه مصنوعاً ، وبشاهد الوجود من أجل أنه يسلك طريق الشر ولا يقدر على طريق الخير إلا بالتوفيق ، فعلم قطعاً إعجاز السورة لأنه لا قدرة لمخلوق على أن يأتي بجملة واحدة تجمع جميع ما وراءها من الجمل - هذا إلى ما لها من فنون الإيجاز التي وصلت إلى حد الإعجاز ، هذا إلى ما لبقية الجمل من الإعجاز في حسن الرصف وإحكام التركيب والربط والمراعاة بالألفاظ للمعاني إلى غير ذلك مما لا يبلغ كنهه إلى منزله سبحانه وعز شأنه ، وعلم أن الإكرام والإهانة ليستا دائرتين على التنعيم في الدنيا والتضييق كما تقدم شرحه في سورة الفجر ،