ثم مرحلة أخرى في استجاشة القلوب للإيمان والبذل ، ومؤثرات أخرى وراء تلك المؤثرات :
( من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له وله أجر كريم ? يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم . بشراكم اليوم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها . ذلك هو الفوز العظيم . يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا : انظرونا نقتبس من نوركم . قيل : ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا . فضرب بينهم بسور له باب ، باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب . ينادونهم : ألم نكن معكم ? قالوا : بلى ! ولكنكم فتنتم أنفسكم ، وتربصتم ، وارتبتم ، وغرتكم الأماني ، حتى جاء أمر الله ، وغركم بالله الغرور . فاليوم لا يؤخذ منكم فدية ولا من الذين كفروا ، مأواكم النار هي مولاكم ، وبئس المصير ) . .
إنه هتاف موح مؤثر آسر . وهو يقول للعباد الفقراء المحاويج : ( من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا ? ) . . ومجرد تصور المسلم أنه هو الفقير الضئيل يقرض ربه ، كفيل بأن يطير به إلى البذل طيرانا ! إن الناس ليتسابقون عادة إلى إقراض الثري المليء منهم - وهم كلهم فقراء - لأن السداد مضمون . ولهم الاعتزاز بأن أقرضوا ذلك الثري المليء ! فكيف إذا كانوا يقرضون الغني الحميد ? !
ولا يكلهم - سبحانه - إلى هذا الشعور وحده ، ولكن يعدهم على القرض الحسن ، الخالص له ، المجرد من كل تلفت إلى سواه . يعدهم عليه الضعف في المقدار ، والأجر الكريم بعد ذلك من عند الله : ( فيضاعفه له ، وله أجر كريم ) .
يقرض الله : ينفق ماله في سبيله رجاء ثوابه .
11- { مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ } .
هذا استفهام للحث والتحضيض على الإنفاق في سبيل الله ، وفي سائر وجوه الخير ، فالآية عامة في كل خير ، أي : من ذا الذي ينفق في سبيل الله حتى يعوّضه الله أضعافا كثيرة إلى سبعمائة ضعف ، مع الكرامة والبشرى بالجنة .
وقد كان للسابقين إلى الإسلام النصيب الأوفى من هذا القرض ، وذلك الجزاء الكريم .
أخرج البخاري ، ومسلم ، وغيرهما من حديث أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تسبّوا أصحابي ، فو الذي نفس محمد بيده ، لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ، ما أدرك مدّ أحدهم ولا نصيفه " 10 .
وأخرج ابن أبي حاتم ، عن ابن مسعود قال : لما نزلت هذه الآية : { مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ . . } . قال أبو الدحداح الأنصاري : يا رسول الله ، وإن الله ليريد منا القرض ؟ قال : " نعم يا أبا الدحداح " قال : أرني يدك يا رسول الله ، فناوله يده ، قال : إني أقرضت ربّي حائطي ( بستاني ) ، وكان له حائط فيه ستمائة نخلة ، وأم الدحداح فيه وعيالها ، قال : فجاء أبو الدحداح ، فناداها : يا أم الدحداح ، قالت لبيك ، اخرجي فقد أقرضته ربّي عز وجل .
وفي رواية أنها قالت له : ربح بيعك يا أبا الدحداح ، ونقلت منه متاعها وصبيانها .
وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " كم من عذق رداح ، في الجنة لأبي الدحداح " .
وجاء في مختصر تفسير ابن كثير :
مَن ذا الذي يُقرض اللهَ : من ذا الذي ينفق في سبيل الله .
ثم نَدَبَ إلى الإنفاق بأسلوبٍ رقيق جميلٍ حيثُ جعل المنفِقَ في سبيل الله كالذي يُقْرِض الله ، والله غنيٌّ عن العالمين . فقال :
{ مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ }
هل هناك أجملُ من هذا التعبير ! مَن هذا الذي ينفِق أمواله في سبيل الله محتسباً أجره عند ربه ، فيضاعِف الله له ذلك القَرض ، إذ يجعل له بالحسنة الواحدة سبعمائة ، وفوق ذلك له جزاءٌ كريم عند ربّه ، وضيافةٌ كريمة في جنة المأوى .
قرأ ابن كثير : فيضعّفُه بتشديد العين وضم الفاء . وقرأ ابن عامر مثله : فيضعّفَه بالتشديد ولكن ينصب الفاء . والباقون : فيضاعفَه بالألف ونصب الفاء .
ثم حث على النفقة في سبيله ، لأن الجهاد متوقف على النفقة فيه ، وبذل الأموال في التجهز له ، فقال : { مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا } وهي النفقة [ الطيبة ] التي تكون خالصة لوجه الله ، موافقة لمرضاة الله ، من مال حلال طيب ، طيبة به نفسه ، وهذا من كرم الله تعالى [ حيث ] سماه قرضا ، والمال ماله ، والعبد عبده ، ووعد بالمضاعفة عليه أضعافا كثيرة ، وهو الكريم الوهاب ، وتلك المضاعفة محلها وموضعها يوم القيامة ، يوم كل يتبين فقره ، ويحتاج إلى أقل شيء من الجزاء الحسن ، ولذلك قال :
قوله تعالى : " من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا " ندب إلى الإنفاق في سبيل الله . وقد مضى في " البقرة{[14702]} " القول فيه . والعرب تقول لكل من فعل فعلا حسنا : قد أقرض ، كما قال{[14703]} :
وإذا جُوزِيتَ قرضا فاجزه *** إنما يجزي الفتى ليس الجَمَل
وسمي قرضا ؛ لأن القرض أخرج لاسترداد البدل . أي من ذا الذي ينفق في سبيل الله حتى يبدل الله بالأضعاف الكثيرة . قال الكلبي : " قرضا " أي صدقة " حسنا " أي محتسبا من قلبه بلا مَنٍّ ولا أذى . " فيضاعفه له " ما بين السبع إلى سبعمائة إلى ما شاء الله من الأضعاف . وقيل : القرض الحسن هو أن يقول سبحان الله والحمد الله ولا إله إلا الله والله أكبر ، رواه سفيان عن أبي حيان{[14704]} . وقال زيد بن أسلم : هو النفقة على الأهل . الحسن : التطوع بالعبادات . وقيل : إنه عمل الخير ، والعرب تقول : لي عند فلان قرض صدق وقرض سوء . القشيري : والقرض الحسن أن يكون المتصدق صادق النية طيب النفس ، يبتغي به وجه الله دون الرياء والسمعة ، وأن يكون من الحلال . ومن القرض الحسن ألا يقصد إلى الرديء فيخرجه ، لقوله تعالى : " ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون{[14705]} " [ البقرة : 267 ] وأن يتصدق في حال يأمل الحياة ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن أفضل الصدقة فقال : ( أن تعطيه وأنت صحيح شحيح تأمل العيش ولا تمهل حتى إذا بلغت التراقي قلت لفلان كذا ولفلان كذا ) وأن يخفي صدقته ، لقوله تعالى : " وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم{[14706]} " [ البقرة : 271 ] وألا يمن ، لقوله تعالى : " لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى " [ البقرة : 264 ] وأن يستحقر كثير ما يعطي ؛ لأن الدنيا كلها قليلة ، وأن يكون من أحب أمواله ، لقوله تعالى : " لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون{[14707]} " [ آل عمران : 92 ] وأن يكون كثيرا ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : ( أفضل الرقاب أغلاها ثمنا وأنفسها عند أهلها ) . " فيضاعفه له " وقرأ ابن كثير وابن عامر " فيضعفه " بإسقاط الألف إلا ابن عامر ويعقوب نصبوا الفاء . وقرأ نافع وأهل الكوفة والبصرة " فيضاعفه " بالألف وتخفيف العين إلا أن عاصما نصب الفاء . ورفع الباقون عطفا على " يقرض " . وبالنصب جوابا على الاستفهام . وقد مضى في " البقرة " القول في هذا مستوفى . " وله أجر كريم " يعني الجنة .
ولما فضل السابقين بالإنفاق ، ووعد {[62437]}بالحسنى اللاحقين{[62438]} بحسن الاتباع ، وأشار إلى{[62439]} أنه ربما ألحقهم ببعضهم بصفاء الإخلاص فتوفرت الدواعي على البذل ، أثمر {[62440]}ذلك قوله{[62441]} مسمياً الصدقة التي{[62442]} صورتها صورة{[62443]} إخراج من غير عوض باسم القرض الذي هو إخراج بعوض ترغيباً فيها لما أعد عليها من الجزاء المحقق فكيف إذا كان مضاعفاً : { من } وأكد بالإشارة بقوله : { ذا } لأجل{[62444]} ما للنفوس من الشح { الذي يقرض الله } أي يعطي{[62445]} الذي له جميع صفات الجلال والإكرام بإعطاء المستحق لأجله عطاء من ماله هو على صورة القرض لرجائه الثواب { قرضاً حسناً } أي طيباً خالصاً فيه متحرياً به أفضل الوجوه طيبة به النفس من غير من ولا كدر بتسويف ونحوه .
ولما كان ما يعطي الله المنفق من الجزاء مسبباً عن إنفاقه ، ربطه بالفاء فقال عطفاً على { يقرض } : { فيضاعفه له } مرغباً فيه بجعله مبالغاً بالتضعيف أولاً وجعله من باب المفاعلة ثانياً ، وكذا التفضيل في قراءة ابن كثير وابن عامر ويعقوب{[62446]} { فيضعفه } وقرأه ابن عامر ويعقوب{[62447]} بالنصب جواباً للاستفهام تأكيداً للربط والتسبيب . ولما كانت المضاعفة{[62448]} منه سبحانه لا يعلم كنهها إلا هو قال : { وله } أي المقرض من بعد ما تعقلونه من المضاعفة زيادة على ذلك { أجر } لا يعلم قدره إلا الله ، وهو معنى وصفه بقوله : { كريم * } أي حسن طيب زاك نام .
قوله : { من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له وله أجر كريم } المراد بالقرض ههنا الإنفاق في سبيل الله . أو هو بذل المال في وجوه الخير طلبا لمرضاة الله .
وفي الآية تحضيض مؤثر وكريم على إنفاق المال في وجوه الخير كبذله في سبيل الله وإنفاقه على الأهل والأولاد والعيال والأرحام وغيرهم من المحاويج ومن ينفقه يكن له أجر عظيم وهو قوله : { فيضاعفه له } أي يعطيه من الأجر أضعافا مضاعفة { وله أجر كريم } أي وله فوق تلك الأضعاف المضاعفة أجر عظيم وكريم في نفسه وهي الجنة . وقد روي عن ابن مسعود قال : لما نزلت هذه الآية { من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له } قال أبو الدحداح الأنصاري : يا رسول الله وإن الله ليريد منا القرض ؟ قال : " نعم يا أبا الدحداح " قال : أرني يدك يا رسول الله . قال : فناوله يده . قال : فإني قد أقرضت ربي حائطي . وله حائط فيه ستمائة نخلة ، وأم الدحداح فيه وعيالها . فجاء أبو الدحداح فناداها : يا أم الدحداح . قالت : لبيك . قال : اخرجي فقد أقرضته ربي عز وجل . وفيه رواية أنها قالت له : ربح بيعك يا أبا الدحداح . ونقلت منه متاعها وصبيانها ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كم من عذق رداح في الجنة ودار فياح لأبي الدحداح " {[4458]} .