ثم يجيء الإيقاع الذي يتخلل القلب ويهزه ؛ وهو يعرض أثر القرآن في الصخر الجامد لو تنزل عليه : ( لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله . وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون ) .
وهي صورة تمثل حقيقة . فإن لهذا القرآن لثقلا وسلطانا وأثرا مزلزلا لا يثبت له شيء يتلقاه بحقيقته . ولقد وجد عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ما وجد ، عندما سمع قارئا يقرأ : والطور ، وكتاب مسطور ، في رق منشور ، والبيت المعمور ، والسقف المرفوع ، والبحر المسجور ، إن عذاب ربك لواقع ما له من دافع . . . فارتكن إلى الجدار . ثم عاد إلى بيته يعوده الناس شهرا مما ألم به !
واللحظات التي يكون فيها الكيان الإنساني متفتحا لتلقي شيء من حقيقة القرآن يهتز فيها اهتزازا ويرتجف ارتجافا . ويقع فيه من التغيرات والتحولات ما يمثله في عالم المادة فعل المغنطيس والكهرباء بالأجسام . أو أشد .
والله خالق الجبال ومنزل القرآن يقول : ( لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله ) . . والذين أحسوا شيئا من مس القرآن في كيانهم يتذوقون هذه الحقيقة تذوقا لا يعبر عنه إلا هذا النص القرآني المشع الموحي .
{ لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآَنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ( 21 ) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ ( 22 ) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ ( 23 ) هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( 24 ) }
خشية الله : خوفه وشديد عقابه .
21- { لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآَنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } .
أي : لو جعل في الجبل عقل كما جُعل فيكم أيها البشر ، ثم أُنزل عليه القرآن لخشع وخضع وتشقق من خشية الله .
وهذا تمثيل لعلو شأن القرآن وقوة تأثير ما فيه من المواعظ والزواجر ، وفيه توبيخ للإنسان على قسوة قلبه وقلة تخشعه حين قراءة القرآن ، وتدبر ما فيه من القوارع التي تذل لها الجبال الراسيات .
{ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } .
أي : وهذه الأمثال التي أودعناها القرآن وذكرناها في مواضعها التي ضربت لأجلها ، واقتضاها الحال من نحو قوله تعالى : { وإنّ من الحجارة لَما يتفجّر من الأنهار وإن منها لما يشّقّق فيخرج منه الماء وإنّ منها لما يهبط من خشية الله . . . }( البقرة : 74 ) . وقوله تعالى : { ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشدّ قسوة . . . }( البقرة : 74 ) . وقوله تعالى : { ولو أنّ قرآنا سُيِّرت به الجبال أو قُطِّعت به الأرض أو كُلِّم به الموتى . . . }( الرعد : 31 ) . هذه الأمثال جعلناها تبصرة وذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد ، فمن الناس من وفقه الله واهتدى بها إلى سواء السبيل ، وفاز بما يرضي ربه عنه ، ومنهم من أعرض عنها ونأى فأخذه الله نكال الآخرة والأولى ، وأدخله في سقر ، وما أدراك ما سقر ، لا تُبقى ولا تذر .
في ختام هذه السورة الكريمة يُشيدُ الله تعالى بالقرآن الكريم ، وأنه هو الإمام المرشدُ الهادي للمؤمنين ، وأن مِن عظمة هذا القرآن أن له قوةً فائقة لو أُنزل مثلها على جبلٍ لخشع ولانَ من خشية الله وكلامه ، وأن البشر أَولى أن يخشعوا لكلام الله وتَلينَ قلوبهم فيتدبّروا ما فيه ويسيروا على هديه .
{ وَتِلْكَ الأمثال نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } . في حكم القرآن ، وعظمة مُنزله ، ويهتدون بنوره إلى سواء السبيل ، { إِنَّ فِي ذَلِكَ لذكرى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السمع وَهُوَ شَهِيدٌ } [ ق : 37 ] .
ولما بين تعالى لعباده ما بين ، وأمرهم{[1046]} ونهاهم في كتابه العزيز ، كان هذا موجبا لأن يبادروا إلى ما دعاهم إليه وحثهم عليه ، ولو كانوا في القسوة وصلابة القلوب كالجبال الرواسي ، فإن هذا القرآن لو أنزله على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله أي : لكمال تأثيره في القلوب ، فإن مواعظ القرآن أعظم المواعظ على الإطلاق ، وأوامره ونواهيه محتوية على الحكم والمصالح المقرونة بها ، وهي من أسهل شيء على النفوس ، وأيسرها على الأبدان ، خالية من التكلف{[1047]} لا تناقض فيها ولا اختلاف ، ولا صعوبة فيها ولا اعتساف ، تصلح لكل زمان ومكان ، وتليق لكل أحد .
ثم أخبر تعالى أنه يضرب للناس الأمثال ، ويوضح لعباده في كتابه الحلال والحرام ، لأجل أن يتفكروا في آياته ويتدبروها ، فإن التفكر فيها يفتح للعبد خزائن العلم ، ويبين له طرق الخير والشر ، ويحثه على مكارم الأخلاق ، ومحاسن الشيم ، ويزجره عن مساوئ الأخلاق ، فلا أنفع للعبد من التفكر في القرآن والتدبر لمعانيه .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.