يبدأ السياق القرآني الحديث عن حادث الأحزاب بتذكير المؤمنين بنعمة الله عليهم أن رد عنهم الجيش الذي هم أن يستأصلهم ، لولا عون الله وتدبيره اللطيف . ومن ثم يجمل في الآية الأولى طبيعة ذلك الحادث ، وبدءه ونهايته ، قبل تفصيله وعرض مواقفه . لتبرز نعمة الله التي يذكرهم بها ، ويطلب إليهم أن يتذكروها ؛ وليظهر أن الله الذي يأمر المؤمنين باتباع وحيه ، والتوكل عليه وحده ، وعدم طاعة الكافرين والمنافقين ، هو الذي يحمي القائمين على دعوته ومنهجه ، من عدوان الكافرين والمنافقين :
( يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود ، فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها ، وكان الله بما تعملون بصيرا ) . .
وهكذا يرسم في هذه البداءة المجملة بدء المعركة وختامها ، والعناصر الحاسمة فيها . . مجيء جنود الأعداء . وإرسال ريح الله وجنوده التي لم يرها المؤمنون . ونصر الله المرتبط بعلم الله بهم ، وبصره بعملهم .
{ يأيها الذين ءامنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود الله فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها وكان الله بما تعملون بصيرا( 9 ) إذ جاءكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا( 10 ) هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا( 11 ) وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا( 12 ) وإذ قالت طائفة منهم يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا ويستأذن فريق منهم النبي يقولون إن بيوتنا عورة وما هي بعورة إن يردون إلا فرارا ( 13 )ولو دخلت عليهم من أقطارها ثم سئلوا الفتنة لأتوها وما تلبثوا بها إلا يسيرا( 14 ) ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل لا يولون الأدبار وكان عهد الله مسئولا( 15 ) قل لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل وإذا لا تمتعون إلا قليلا( 16 ) قل من ذا الذي يعصمكم من الله إن أراد بكم سوءا أو أراد بكم رحمة ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا( 17 ) }
جنود : من قريش ومن تحزب معها في غزوة الأحزاب .
{ يأيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها وكان الله بما تعملون بصيرا }
ويذكر القرآن المسلمين بهذه المعركة الكبيرة فيقول : يا أيها الذين آمنوا بالله تعالى ، تذكروا نعمة الله عليكم وفضله حيث كف عنكم أعدائكم حيث جاءتكم جنود كثيرة ، تزيد على عشرة آلاف مقاتل فأرسل الله عليهم ريحا عاتية في ليلة شاتية باردة ، فخلعت خيامهم وكفأت قدورهم وألقت الملائكة الرعب في قلوبهم وقد فعل الله ذلك بالأعداء مكافأة لكم على اجتهادكم في حفر الخندق وطاعة الرسول وبذل النفس والنفيس دفاعا عن الإسلام ورسوله .
{ وجنودا لم تروها . . . . } أي : الملائكة .
{ وكان الله بما تعملون بصيرا } أي : مطلع وشاهد على أعمالكم وخبير بما في قلوبكم فيجازيكم عليه .
جاءتكم جنود : الأحزاب ، وهم قريش وبنو أسد وغطفان وبنو عامر وبنو سليم ومن اليهود بنو النضير وبنو قريظة .
نزلت هذه الآيات إلى آخر الآية السابعة والعشرين في تفصيل غزوة الأحزاب ، أو غزوة الخندق .
كانت غزوة الأحزاب في شوّال سنة خمسٍ من الهجرة ، وكانت من أخطرِ الحوادث التي واجهها رسول الله والمسلمون ، في تقرير مصير الدعوة الإسلامية . وكانت معركةً حاسمة ومحنة ابتُلي المسلمون فيها ابتلاءً لم يبتلوا بمثله .
أما سببها فهو أنه خرج نفرٌ من بني النضير ، ونفر من بني وائل من اليهود ، فقدِموا على قريش في مكة . وهناك دعوا قريشاً إلى حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقالوا لهم : إنا سنكون معكم حتى نستأصلَه هو ومن معه . فسرّ ذلك قريشاً ، ونشِطوا لما دعوهم إليه . ثم خرج وفد اليهود فجاؤوا غطفان ودعوهم إلى حرب المسلمين . وطافوا في القبائل ، حتى تمت لهم اتفاقية عسكرية ، كانت قريش وغطفان من أهم أعضائها . فحشدت قريش أربعة آلاف مقاتل ، وغطفان ستة آلاف . وأُسندت قيادةُ الجيش إلى أبي سفيان ، وتعهد اليهود أن يدفعوا إلى غطفان كل تمرِ نخلِ خيبرَ لسنة واحدة .
ولما سمع رسول الله وأصحابه عن تجمُّع القبائل مع قريش لقتال المسلمين وزحفهم إلى المدينة ، تهيأ المسلمون للحرب ، وقرروا التحصنّ في المدينة والدفاع عنها ، وكان جيش المسلمين لا يزيد على ثلاثة آلاف مقاتل .
وفي هذه الأثناء أشار سلْمان الفارسيّ ، رضي الله عنه ، بحفر الخندق حول المدينة ، وكانت هذه خطةً حربية متّبعة عند الفرس ، فأمر الرسول الكريم بحفر الخندق في السهل الواقع شماليّ غرب المدينة ، وهو الجانب المكشوف الذي يُخاف منه اقتحام العدو . وقد قسم رسول الله الخندقَ بين أصحابه لكل عشرةٍ أربعين ذراعا ، وبلغ طول الخندق خمسة آلاف ذراع ( نحو أربعة كيلومترات ) ، وعمقه من سبعة أذرع إلى عشرة ، وعرضهُ من تسعة أذرع إلى ما فوقها .
وكان حده الشرقي طرفَ حَرّة واقِم ، وحده الغربي وادي بُطْحان حيث طرفُ الحرة الغربية ، حرة الوبرة .
وعمل السلمون في حفر الخندق بجدٍّ ونشاط ، وكان كلما عَرَضَ لهم مكان صعب فيه صخرة لجأوا إلى الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام فيأخذ المِعولَ بيده ويضربها حتى تتفتت ، حتى أكملوه وتحصنوا وراءه .
وكان بين المسلمين وبني قريظة من اليهود معاهدةٌ ، فحملهم حُييّ بن أخطَب ، سيدُ بني النضير ، على نقض تلك المعاهدة . فنقضوها ، وتأهبوا لقتال المسلمين مع المشركين من قريش والعرب . وعظُم عند ذلك البلاء ، واشتد الخوف ، وزاغت الأبصار ، وبلغت القلوبُ الحناجر .
وجاء أبو سفيان يقود ذلك الجيشَ الجرار وأحاطوا بالمدينة . وفوجئوا بالخندق ، فوقفوا من ورائه ، وقفز أحد أبطالهم وهو عمرو بن عبد ودٍّ العامري بحصانه فاجتاز الخندقَ وطلب المبارزة . فبرز له عليّ بن أبي طالب كرم الله وجهه ، وقتله . ثم حصل بعضُ التراشق بالسهام ، ودام الحصار نحو شهر ، اشتد فيه البلاء . واستأذن بعض المنافقين في الذهاب إلى المدينة وقالوا : { إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَاراً } ، وكان الوقت شتاءً واشتد البرد وهبّت ريح عاتية فقلبت القدور وقوضت الخيام . فقام أبو سفيان وقال : يا معشر قريش ، إنكم واللهِ ما صبحتم بدار مقام ، وقد أخلفتنا بنو قريظة ، وبلغَنا عنهم الذي نَكره ، ولَقِينا من شدة الريح ما ترون ، فارتحِلوا فإني مرتحِل .
فانطلَقوا ، وأصبح الصباح فإذا القوم قد ارتحلوا . وانصرف المسلمون ووضعوا السلام وصدق الله العظيم : { يا أيها الذين آمَنُواْ اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ جَآءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ الله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً } ، { وَرَدَّ الله الذين كَفَرُواْ بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُواْ خَيْراً وَكَفَى الله المؤمنين القتال وَكَانَ الله قَوِيّاً عَزِيزاً } .
ووضعت الحربُ أوزارها ، فلم ترجعْ قريش بعدَها إلى حرب المسلمين . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لن تَغزُوكم قريش بعد عامِكم هذا ، ولكنّكم تغزونهم » والقصةُ بطولِها في سيرة ابن هشام وفي صحيح مسلم ، وابن كثير .
واستُشهد من المسلمين يوم الخندق سبعة ، وقُتل من المشركين أربعة .
{ 9 - 11 } { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا * إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَ * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا }
يذكر تعالى عباده المؤمنين ، نعمته عليهم ، ويحثهم على شكرها ، حين جاءتهم جنود أهل مكة والحجاز ، من فوقهم ، وأهل نجد ، من أسفل منهم ، وتعاقدوا وتعاهدوا على استئصال الرسول والصحابة ، وذلك في وقعة الخندق .
ومالأتهم [ طوائف ]{[1]} اليهود ، الذين حوالي المدينة ، فجاءوا بجنود عظيمة وأمم كثيرة .