( كذلك يوحي إليك وإلى الذين من قبلك الله العزيز الحكيم ) . .
أي مثل ذلك ، وعلى هذا النسق ، وبهذه الطريقة يكون الوحي إليك وإلى الذين من قبلك . فهو كلمات وألفاظ وعبارات مصوغة من الأحرف التي يعرفها الناس ويفهمونها ويدركون معانيها ؛ ولكنهم لا يملكون أن يصوغوا مثلها مما بين أيديهم من أحرف يعرفونها .
ومن الناحية الأخرى تتقرر وحدة الوحي . وحدة مصدره فالموحي هو الله العزيز الحكيم . والموحى إليهم هم الرسل على مدار الزمان . والوحي واحد في جوهره على اختلاف الرسل واختلاف الزمان : ( إليك وإلى الذين من قبلك ) . .
إنها قصة بعيدة البداية ، ضاربة في أطواء الزمان . وسلسلة كثيرة الحلقات ، متشابكة الحلقات . ومنهج ثابت الأصول على تعدد الفروع .
وهذه الحقيقة - على هذا النحو - حين تستقر في ضمائر المؤمنين تشعرهم بأصالة ما هم عليه وثباته ، ووحدة مصدره وطريقه . وتشدهم إلى مصدر هذا الوحي : ( الله العزيز الحكيم ) . . كما تشعرهم بالقرابة بينهم وبين المؤمنين أتباع الوحي في كل زمان ومكان ، فهذه أسرتهم تضرب في بطون التاريخ ، وتمتد جذورها في شعاب الزمن ؛ وتتصل كلها بالله في النهاية ، فيلتقون فيه جميعاً . وهو( العزيز )القوي القادر( الحكيم )الذي يوحي لمن يشاء بما يشاء وفق حكمة وتدبير . فأنى يصرفون عن هذا المنهج الإلهي الواحد الثابت إلى السبل المتفرقة التي لا تؤدي إلى الله ؛ ولا يعرف لها مصدر ، ولا تستقيم على اتجاه قاصد قويم ?
3- { كذلك يوحي إليك وإلى الذين من قبلك الله العزيز الحكيم } .
مثلما أوحينا إليك في هذه السورة وغيرها ، أوحينا إلى الذين من قبلك من المرسلين ، مثل نوح وهود وصالح وموسى وعيسى ، فمحمد ليس بدعا من الرسل ، والوحي إليه أصيل وثابت للرسل السابقين عليه ، فالوحي لغة : الإعلام ، وشرعا : إعلام الله تعالى من يختاره من البشر ، ليبلغه بالتشريع والأحكام التي يريد الله أن يبلغها لعباده .
فالموحي هو الله ، والملاك جبريل أمين الوحي ، والوحي هو الرسالة التي ينقلها جبريل عن الله إلى الرسول محمد صلى الله عليه وسلم ، وإخوانه السابقين عليه ، ليبلغوها للمرسل إليهم ، والوحي فيه عناية السماء بالأرض ، وتشريف للرسل ، وتشريف لنا نحن المرسل إليهم ، حيث أنزل الله علينا الوحي ، واختار لنا رسولا مبشرا ونذيرا ، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا ، وجعله الله تعالى خاتم النبيين الذين يوحى إليهم ، فالرسول أعم من النبي ، لأن الرسول يوحى إليه بشرع ويكلف بالتبليغ ، والنبي يوحى إليه بشرع ولا يكلف بالتبليغ ، ومن ثم فكل رسول نبي ، وليس كل نبي رسولا ، فإذا ختم الله النبيين بمحمد صلى الله عليه وسلم ، فقد ختم المرسلين أيضا ، فمحمد صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين ، وهو أيضا خاتم المرسلين .
وقد قرأ حفص ( خاتَم ) بفتح التاء ، وقرأ الستة الباقون من القراء ( خاتِم ) بكسر التاء .
قال تعالى : { ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين وكان الله بكل شيء عليما } . ( الأحزاب : 40 ) .
فالوحي شرف للبشرية ، وهداية من السماء ، وعناية عليا من الله بعباده ، حيث يختار بعض خلقه ليحملوا هدى السماء وتشريع الله ، وآداب الوحي ، وأخبار الأمم ، ومعالم القيامة ليوصلوا كل ذلك إلى البشر ، حتى تبلغهم الحجة ، ويصل إليهم الدليل على الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر .
وفي سورة النساء الآيات ( 163-166 ) يقول تعالى : { إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآَتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا ( 163 ) وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا ( 164 ) رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ( 165 ) لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا ( 166 ) } .
وخلاصة ما تشير إليه الآية الثالثة من سورة الشورى أن الله تعالى ذكر معاني هذه السورة في القرآن الكريم وفي جميع الكتب السماوية ؛ لما فيها من الإرشاد إلى الحق ، وهو { العزيز } . الغالب في انتقامه ، { الحكيم } . في أقواله وأفعاله .
يبين الله تعالى أن ما جاء في هذه السورة موافقٌ لما في الكتُبِ المنزلة على سائر الرسل ، من الدعوة إلى توحيدِ الله ، والإيمان باليوم الآخر ، وأمرِ النبوة ، والتحلّي بالأخلاق الفاضلة ، والتزهيدِ في جمع حُطام الدنيا ، والعملِ على سعادة الإنسان والمجتمع . وهذا كله إنما يُوحى إليك أيها الرسول الكريم من الله العزيز الحكيم .
قرأ ابن كثير وحده : كذلك يوحى إليك بفتح الحاء . والباقون : يوحي بكسر الحاء .
وقرأ ابن محيصن وابن كثير ومجاهد " يوحى " ( بفتح الحاء ) على ما لم يسم فاعله ، وروي عن ابن عمر . فيكون الجار والمجرور في موضع رفع لقيامه مقام الفاعل ، ويجوز أن يكون اسم ما لم يسم فاعله مضمرا ، أي يوحى إليك القرآن الذي تضمنه هذه السورة ، ويكون اسم الله مرفوعا بإضمار فعل ، التقدير : يوحيه الله إليك ، كقراءة ابن عامر وأبي بكر " يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال " [ النور : 36 ] أي يسبحه رجال . وأنشد سيبوبه :
ليُبْكَ يزيدٌ ضارعٌ بخصومة *** وأشعثُ ممن طَوَّحَتْهُ الطَّوَائِحُ{[13459]}
فقال : لبيك يزيد ، ثم بين من ينبغي أن يبكيه ، فالمعنى يبكيه ضارع . ويجوز أن يكون مبتدأ والخبر محذوف ، كأنه قال : الله يوحيه . أوعلى تقدير إضمار مبتدأ أي الموحي الله . أو يكون مبتدأ والخبر " العزيز الحكيم " . وقرأ الباقون " يوحي إليك " بكسر الحاء ، ورفع الاسم على أنه الفاعل .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.