وهي مهانة يوم يبعثهم الله جميعا . مهانة على رؤوس الجموع . وهو عذاب يقوم على حق وبيان لما عملوا . إن كانوا هم قد نسوه فإن الله أحصاه بعلمه الذي لا يند عنه شيء ، ولا يغيب عنه خاف : ( والله على كل شيء شهيد ) . .
وتلتقي صورة الرعاية والعناية ، بصورة الحرب والنكاية ، في علم الله واطلاعه ، وشهوده وحضوره . فهو شاهد حاضر للعون والرعاية ؛ وهو شاهد حاضر للحرب والنكاية . فليطمئن بحضوره وشهوده المؤمنون . وليحذر من حضوره وشهوده الكافرون !
فينبئهم بما عملوا : يخبرهم بأعمالهم توبيخا وتقريعا لهم .
أحصاه الله : أحاط به عدا ، ولم يغب عنه شيء منه .
شهيد : مشاهد لا يخفى عليه شيء .
6- { يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } .
في الآية السابقة ذكر سبحانه هؤلاء المحادين لله ورسوله بالخزي والهوان في الدنيا ، وبالعذاب الشديد في الآخرة .
وهنا يقول : اذكر لهم أيها الرسول الأمين يوم يبعثهم الله جميعا للحساب والجزاء ، فيخبرهم بأعمالهم ، وبما كسبت أيديهم من ظلم وعسف ، لقد أحصاه الله وضبطه وحفظه ، وهم قد نسوه وأهملوه ولم يتذكروه ، وظنوا أنهم لن يحاسبوا عليه .
{ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } .
هو مطلع وشاهد ، وعالم وناظر لا تخفى عليه خافية ، وهو سبحانه بكل شيء عليم ، فيا ويح من بارزه بالمعاصي ، ويا هلاك من استهان بحدود الله ، وزينت له نفسه أن تشريع البشر أحسن أو أحكم من تشريع الله ، وهو سبحانه الخالق الرزاق العليم يما يصلح عباده .
قوله تعالى : " يوم " نصب ب " عذاب مهين " أو بفعل مضمر تقديره واذكر تعظيما لليوم . " يبعثهم الله جميعا " أي الرجال والنساء يبعثهم من قبورهم في حالة واحدة " فينبئهم " أي يخبرهم " بما عملوا " في الدنيا " أحصاه الله " عليهم في صحائف أعمالهم " ونسوه " هم حتى ذكرهم به في صحائفهم ليكون أبلغ في الحجة عليهم . " والله على كل شيء شهيد " مطلع وناظر لا يخفى عليه شيء .
ولما ذكر عذابهم ، ذكر{[63170]} وقته على وجه مقرر لما مضى من شمول علمه وكمال قدرته فقال : { يوم يبعثهم الله } أي يكون ذلك في وقت إعادة الملك الأعظم للكافرين المصرح بهم والمؤمنين المشار إليهم أحياء كما كانوا { جميعاً } {[63171]}في حال كونهم مجتمعين في البعث . ولما كان لا أوجع من التبكيت بحضرة بعض{[63172]} الناس فكيف إذا كان بحضرتهم كلهم فكيف إذا كان بمرأى من جميع الخلائق ومسمع ، سبب عن ذلك وعقب قوله : { فينبئهم } أي{[63173]} يخبرهم إخباراً عظيماً مستقصى { بما عملوا } إخزاء لهم وإقامة للحجة عليهم .
ولما كان ضبط ذلك أمراً عظيماً ، استأنف قوله بياناً لهوانه عليه : { أحصاه الله } أي أحاط به عدداً كمّاً وكيفاً وزماناً ومكاناً بما له من صفات الجلال والجمال . ولما ذكر إحصاءه له ، فكان ربما {[63174]}ظن أنه{[63175]} مما يمكن في العادة إحصاؤه ، نفى ذلك بقوله : { ونسوه } أي كلهم مجتمعين لخروجه عن الحد في الكثرة فكيف بكل واحد على انفراده ونسوا ما فيه من المعاصي تهاوناً بها ، وذلك عين التهاون بالله والاجتراء عليه ، قال القشيري : إذا حوسب أحد{[63176]} في القيامة على عمل عمله تصور{[63177]} له ما فعله ثم يذكر حتى كأنه في تلك الحالة قام من بساط الزلة فيقع عليه من الخجل والندم ما ينسى في جنبه كل عقوبة ، فسبيل المسلم أن {[63178]}لا يخالف أمر مولاه{[63179]} ولا يحوم حول مخالفة أمره{[63180]} ، فإن جرى المقدور ووقع في هجنة التقصير فليكن من زلته على بال ، وليتضرع إلى الله بحسن الابتهال .
ولما كان التقدير بما أرشد إليه العطف على غير مذكور : فالله بكل شيء من ذلك وغيره عليم ، عطف عليه قوله : { والله } أي بما له من القدرة الشاملة والعلم المحيط { على كل شيء } على الإطلاق من غير مثنوية أصلاً { شهيد * } أي حفيظ حاضر لا يغيب ، ورقيب لا يغفل ، حفظه له ورقبه وحضوره إياه مستعل{[63181]} عليه قاهر له بإحاطة قهره بكل شيء ليمكن حفظه له على أتم وجه يريده .
وقال الإمام أبو جعفر ابن{[63182]} الزبير : لما نزه سبحانه نفسه عن تقول الملحدين ، وأعلم أن العالم بأسره ينزهه عن ذلك بألسنة أحوالهم لشهادة العوالم {[63183]}على أنفسها{[63184]} بافتقارها لحكيم أوجدها ، لا يمكن أن{[63185]} يشبه شيئاً منها بل يتنزه{[63186]} من أوصافها ويتقدس{[63187]} عن سماتها ، فقال :{ سبح لله ما في السماوات والأرض }[ الحديد : 1 ] ومضت أي تعرف بعظيم سلطانه وعليّ ملكه ، ثم انصرف الخطاب إلى عباده في قوله :
{ آمنوا بالله ورسوله }[ الحديد : 7 ] إلى ما بعد ذلك من الآي ، وكان ذلك ضرب من الالتفات ، والواقع هنا{[63188]} منه أشبه بقوله سبحانه في سورة البقرة
{ وإذ قال ربك للملائكة }[ البقرة : 30 ] فإنه بعد تفصيل حال المتقين وحال من جعل{[63189]} في طرف منهم وحال من يشبه بظاهره بالمتقين وهو معدود في شرار الكافرين ، فلما تم هذا النمط عدل بعده إلى دعاء الخلق إلى عبادة الله وتوحيده
{ يا أيها الناس اعبدوا ربكم }[ البقرة : 21 ] ثم عدل بالكلام جملة وصرف الخطاب إلى تعريف نبيه عليه الصلاة والسلام بين أيدي الخلق
{ وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة }[ البقرة : 30 ] فجاء ضرباً من الالتفات فكذا{[63190]} الواقع هنا بين سبحانه حال مشركي العرب وقبح عنادهم{[63191]} وقرعهم ووبخهم في عدة سور غالب آيها جارٍ على ذلك {[63192]}ومجدد له أولها{[63193]} سورة " ص " كما نبه عليه في سورة القمر ، وإلى الغاية التي ذكرت فيها إلى أن وردت سورة القمر منبئة بقطع دابرهم ، وانجر فيها {[63194]}الإعذار المنبه{[63195]} عليه وكذا في سورة الرحمن بعدها ، ثم أعقب ذلك بالتعريف بحال النزل الأخراوي في سورة الواقعة مع زيادة تقريع وتوبيخ على مرتكبات استدعت تسبيحه تعالى وتقديسه عن شنيع افترائهم فأتبعت بسورة{[63196]} الحديد ، ثم صرف فيها الخطاب إلى المؤمنين ، واستمر ذلك إلى آخر السورة ، جرت سورة المجادلة على هذا القصد مصروفاً{[63197]} خطابها إلى نازلة تشوف المؤمنين إلى تعرف حكمها ، وهو الظهار المبين أمره فيها ، فلم يعد في الكلام بعد كما كان قد صرف إليه في قوله { آمنوا بالله ورسوله } بأكثر من التعرض لبيان حكم يقع منهم ، ثم إن السور الواردة بعد إلى آخر الكتاب استمر معظمها على هذا الغرض لانقضاء{[63198]} ما قصد من التعريف بأخبار القرون السالفة والأمم الماضية ، وتقريع من عاند وتوبيخه ، وذكر مثال الخلق واستقرارهم الأخراوي ، وذكر تفاصيل التكاليف والجزاء عليها من الثواب والعقاب ، وما به استقامة {[63199]}من استجاب وآمن{[63200]} وما يجب أن يلتزمه على درجات التكاليف وتأكيدها ، فلما{[63201]} كمل ذلك صرف الكلام إلى ما يخص المؤمنين في أحكامهم وتعريفهم{[63202]} بما فيه من خلاصهم ، فمعظم آي سورة بعد هذا شأنها ، وإن اتجر غيرها فلا استدعاء موجب وهو الأقل كما بينا - انتهى .