ذلك ما آتاه الله داود - عليه السلام - فأما سليمان فقد آتاه الله أفضالاُ أخرى :
( ولسليمان الريح غدوها شهر ورواحها شهر ، وأسلنا له عين القطر ، ومن الجن من يعمل بين يديه بإذن ربه . ومن يزغ منهم عن أمرنا نذقه من عذاب السعير . يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب . وقدور راسيات . اعملوا آل داود شكراً . وقليل من عبادي الشكور ) .
وتسخير الريح لسليمان تتكاثر حوله الروايات ، وتبدو ظلال الإسرائيليات واضحة في تلك الروايات - وإن تكن كتب اليهود الأصلية لم تذكر شيئا عنها - والتحرج من الخوض في تلك الروايات أولى . والاكتفاء بالنص القرآني أسلم . مع الوقوف به عند ظاهر اللفظ لا نتعداه . ومنه يستفاد أن الله سخر الريح لسليمان ، وجعل غدوها أي توجهها غادية إلى بقعة معينة [ ذكر في سورة الأنبياء أنها الأرض المقدسة ] يستغرق شهراً ، ورواحها أي انعكاس اتجاهها في الرواح يستغرق شهراً كذلك . وفق مصلحة تحصل من غدوها ورواحها ، يدركها سليمان - عليه السلام - ويحققها بأمر الله . . ولا نملك أن نزيد هذا إيضاحاً حتى لا ندخل في أساطير لا ضابط لها ولا تحقيق .
والقطر النحاس . وسياق الآيات يشير إلى أن هذا كان معجزة خارقة كإلانة الحديد لداود . وقد يكون ذلك بأن فجر الله له عيناً بركانية من النحاس المذاب من الأرض . أو بأن ألهمه الله إذابة النحاس حتى يسيل ويصبح قابلاً للصب والطرق . وهو فضل من الله كبير .
( ومن الجن من يعمل بين يديه بإذن ربه ) . .
وكذلك سخر له طائفة من الجن يعملون بأمره بإذن ربه . والجن كل مستور لا يراه البشر . وهناك خلق سماهم الله الجن ولا نعرف نحن من أمرهم شيئاً إلا ما ذكره الله عنهم . وهو يذكر هنا أن الله سخر طائفة منهم لنبيه سليمان - عليه السلام - فمن عصى منهم ناله عذاب الله :
( ومن يزغ منهم عن أمرنا نذقه من عذاب السعير ) . .
ولعل هذا التعقيب - قبل الانتهاء من قصة التسخير - يذكر على هذا النحو لبيان خضوع الجن لله . وكان بعض المشركين يعبدهم من دون الله . وهم مثلهم معرضون للعقاب عندما يزيغون عن أمر الله .
{ ولسليمان الريح غدوها شهر ورواحها شهر وأرسلنا له عين القطر ومن الجن من يعمل بين يديه بإذن ربه ومن يزغ منهم عن أمرنا نذقه من عذاب السعير } .
ولسليمان الريح : وسخرنا لسليمان الريح .
غدوها شهر : جريها بالغداة مسيرة شهر .
ورواحها شهر : وجريها بالعشي كذلك .
وأرسلنا له عين القطر : أجرينا معدن النحاس سائلا كما ينبع الماء من العين .
يزغ : يعدل ويخالف ما أمرناه به .
وسخرنا لسليمان الريح تسير بأمره وتثقله حيث يشاء مسرعة بحيث تقطع في نصف النهار الأول مسيرة شهر وتقطع في نصف النهار الآخر مسيرة شهر ثان .
قال تعالى : { ولسليمان الريح عاصفة تجري بأمره إلى الأرض التي باركنا فيها وكنا بكل شيء عالمين ومن الشياطين من يغوصون له ويعملون عملا دون ذلك وكنا لهم حافظين } . ( الأنبياء : 81-82 ) .
{ وأسلنا له عين القطر . . . } .
وأجرينا له معدن النحاس بعد إذابته فسال ونبع كما ينبع الماء من العين فلذلك سمى عين القطر باسم مال آل إليه وكانت الأعمال تتأتى به وهو بارد ولم يلن ولا ذاب لأحد قبله .
لقد ألان الله الحديد لداود فصنع منه الدروع السابغات وألان لسليمان النحاس ينبع ويسيل كما يسيل الماء ، ويتشكل إلى الأدوات التي يحتاج إليها سليمان كالقصاع الكبيرة والقدور الكبيرة .
{ ومن الجن من يعمل بين يديه بإذن ربه . . . }
وسخرنا له الجن يخدمونه ويعملون له الأعمال الشاقة والأبنية العظيمة ويغوصون في البحر يستخرجون منه الأحجار الكريمة كالدر والياقوت .
{ ومن يزغ منهم عن أمرنا نذقه من عذاب السعير } .
ومن يخرج من الجن عن طاعة سليمان أو عن الخضوع لأمرنا يتعرض لأشد ألوان العذاب في الدنيا والآخرة .
قوله تعالى : " ولسليمان الريح " قال الزجاج : التقدير وسخرنا لسليمان الريح . وقرأ عاصم في رواية أبي بكر عنه : " الريحُ " بالرفع على الابتداء ، والمعنى له تسخير الريح ، أو بالاستقرار ، أي ولسليمان الريح ثابتة ، وفيه ذلك المعنى الأول . فإن قال قائل : إذا قلت أعطيت زيدا درهما ولعمرو دينار ، فرفعته فلم يكن فيه معنى الأول ، وجاز أن يكون لم تعطه الدينار . وقيل : الأمر كذا ولكن الآية على خلاف هذا من جهة المعنى ؛ لأنه قد علم أنه لم يسخرها أحد إلا الله عز وجل . " غدوها شهر ورواحها شهر " أي مسيرة شهر . قال الحسن : كان يغدو من دمشق فيقيل بإصطخر ، وبينهما مسيرة شهر للمسرع ، ثم يروح من إصطخر ويبيت بكابل ، وبينهما شهر للمسرع . قال السدي : كانت تسير به في اليوم مسيرة شهرين . وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : كان سليمان إذا جلس نصبت حواليه أربعمائة ألف كرسي ، ثم جلس رؤساء الإنس مما يليه ، وجلس سفلة الإنس مما يليهم ، وجلس رؤساء الإنس مما يلي سفلة الإنس ، وجلس سفلة الجن مما يليهم ، وموكل بكل كرسي طائر لعمل قد عرفه ، ثم تقلهم الريح ، والطير تظلهم من الشمس ، فيغدو من بيت المقدس إلى إصطخر ، فيبيت ببيت المقدس ، ثم قرأ ابن عباس : " غدوها شهر ورواحها شهر " . وقال وهب بن منبه : ذكر لي أن منزلا بناحية دجلة مكتوبا فيه كتبه بعض صحابة سليمان ، إما من الجن وإما من الإنس - : نحن نزلنا وما بنيناه ، ومبنيا وجدناه ، غدونا من اصطخر فَقِلْنَاه ، ونحن رائحون منه إن شاء الله تعالى فبائتون في الشام . وقال الحسن : شغلت سليمان الخيل حتى فاتته صلاة العصر ، فعقر الخيل فأبدله الله خيرا منها وأسرع ، أبدله الريح تجري بأمره حيث شاء ، غدوها شهر ورواحها شهر . وقال ابن زيد : كان مستقر سليمان بمدينة تؤمر ، وكان أمر الشياطين قبل شخوصه من الشام إلى العراق ، فبنوها له بالصفاح{[12976]} والعمد والرخام الأبيض والأصفر . وفيه يقول النابغة :
إلا سليمانَ إذ قال الإله له *** قم في البرية فاحْدُدْهَا{[12977]} عن الفَنَدِ
وخيِّس{[12978]} الجن إني قد أذنت لهم *** يبنون تدمر بالصُّفَاحِ والعَمَدِ
فمن أطاعك فانفعه بطاعته *** كما أطاعك وادلُلْهُ على الرَّشَدِ
ومن عصاك فعاقبه معاقبة *** تَنْهَى الظلوم ولا تقعد على ضَمَدِ{[12979]}
ووجدت هذه الأبيات منقورة في صخرة بأرض يشكر ، أنشأهن بعض أصحاب سليمان عليه الصلاة والسلام :
ونحن ولا حولٌ سوى حول ربنا *** نروح إلى الأوطان من أرض تَدْمُرِ
إذا نحن رحنا كان رَيْثُ رواحنا *** مسيرةَ شهر والغدوُّ لآخَرِ
أناس شروا لله طوعاً نفوسَهم *** بنصر ابن داود النبي المُطَهَّرِ
لهم في معالي الدين فضل ورفعَةٌ{[12980]} *** وإن نُسِبُوا يوما فمن خير مَعْشَرِ
متى يركبوا الريح المطيعة أسرعت *** مبادرة عن شهرها لم تُقَصِّرِ
تظلُّهم طيرٌ صفوفٌ عليهمُ *** متى رفرفت من فوقهم لم تُنَفَّرِ
قوله تعالى : " وأسلنا له عين القطر " القطر : النحاس . عن ابن عباس وغيره . أسيلت له مسيرة ثلاثة أيام كما يسيل الماء ، وكانت بأرض اليمن ، ولم يذب النحاس فيما روي لأحد قبله ، وكان لا يذوب ، ومن وقته ذاب وإنما ينتفع الناس اليوم بما أخرج الله تعالى لسليمان . قال قتادة : أسال الله عينا يستعملها فيما يريد . وقيل لعكرمة : إلى أين سالت ؟ فقال : لا أدري ! وقال ابن عباس ومجاهد والسدي : أجريت له عين الصفر ثلاثة أيام بلياليهن . قال القشيري : وتخصيص الإسالة بثلاثة أيام لا يدرى ما حده ، ولعله وهم من الناقل ؛ إذ في رواية عن مجاهد : أنها سالت من صنعاء ثلاث ليال مما يليها ، وهذا يشير إلى بيان الموضع لا إلى بيان المدة . والظاهر أنه جعل النحاس لسليمان في معدنه عينا تسيل كعيون المياه ، دلالة على نبوته أو قال الخليل : القطر : النحاس المذاب .
قلت : دليله قراءة من قرأ : " من قطرٍ آن " . " ومن الجن من يعمل بين يديه بإذن ربه " أي بأمره " ومن يزغ منهم عن أمرنا " الذي أمرناه به من طاعة سليمان . " نذقه من عذاب السعير " أي في الآخرة ، قال أكثر المفسرين . وقيل ذلك في الدنيا ، وذلك أن الله تعالى وكل بهم فيما روى السدي - ملكا بيده سوط من نار ، فمن زاغ عن أم سليمان ضربه بذلك السوط ضربة من حيث لا يراه فأحرقته . و " من " في موضع نصب بمعنى وسخرنا له من الجن من يعمل . ويجوز أن يكون في موضع رفع ، كما تقدم في الريح .