( جزاؤهم عند ربهم جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ) . .
جنات للإقامة الدائمة في نعيمها الذي يمثله هنا الأمن من الفناء والفوات . والطمأنينة من القلق الذي يعكر وينغص كل طيبات الأرض . . كما يمثله جريان الأنهار من تحتها ، وهو يلقي ظلال النداوة والحياة والجمال !
ثم يرتقي السياق درجة أو درجات في تصوير هذا النعيم المقيم :
( رضي الله عنهم ورضوا عنه ) . .
هذا الرضا من الله وهو أعلى وأندى من كل نعيم . وهذا الراضا في نفوسهم عن ربهم الرضا عن قدره فيهم . والرضا عن إنعامه عليهم والرضا بهذه الصلة بينه وبينهم . الرضا الذي يغمر النفس بالهدوء والطمأنينة والفرح الخالص العميق . .
إنه تعبير يلقي ظلاله بذاته . . ( رضي الله عنهم ورضوا عنه )حيث يعجز أي تعبير آخر عن إلقاء مثل هذه الظلال !
وذلك هو التوكيد الأخير . التوكيد على أن هذا كله متوقف على صلة القلب بالله ، ونوع هذه الصلة ، والشعور بخشيته خشية تدفع إلى كل صلاح ، وتنهى عن كل انحراف . . الشعور الذي يزيح الحواجز ، ويرفع الأستار ، ويقف القلب عاريا أمام الواحد القهار . والذي يخلص العبادة ويخلص العمل من شوائب الرياء والشرك في كل صورة من صوره . فالذي يخشى ربه حقا لا يملك أن يخطر في قلبه ظلا لغيره من خلقه . وهو يعلم أن الله يرد كل عمل ينظر فيه العبد إلى غيره معه ، فهو أغنى الشركاء عن الشرك . فإما عمل خالص له ، وإلا لم يقبله .
جنات عدن : بساتين خلد ومقام أبدي .
الأنهار : أي الأنهار الموعود بها من لبن وعسل وخمر .
خشي ربه : خافه في الدنيا فأطاعه ، ونجا في الآخرة من عذابه .
8- جزاؤهم عند ربهم جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك لمن خشي ربه .
هذا هو الوسام الأخير على صدر المؤمنين ، إن الجزاء عند الله الغني القوي الكريم ، هذا الجزء في الدار الآخرة هو جنات إقامة دائمة في بساتين نضرة ، تجري من تحتها الأنهار ، لسعادتهم وأنسهم مع الخلود الأبديّ السرمدي مع رضوان الله عنهم ، ورضاهم عن ربهم ، ويا له من ثواب عظيم .
إن الله العي الكبير يتفضل بالرضا عن الإنسان ، ثم يسمح لهذا الإنسان بالرضا عنه ربه سبحانه وتعالى ، هذا الفضل لمن خشي ربه ، وخاف مقامه ، وعلم ما يجب لله من كمالات .
قال تعالى : إنما يخشى الله من عباده العلماء . . . ( فاطر : 28 ) .
اللهم اجعلنا مع المؤمنين الصادقين ، اللهم اجعلنا ممن رضيت عنهم ورضوا عنه ، اللهم ارزقنا خشيتك وحبك والصدق في الإيمان بك ، اللهم ارزقنا الإخلاص والقبول ، اللهم آمين .
وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب ، وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
تم بفضل الله تعالى ومعونته وتوفيقه تفسير سورة ( البيّنة ) عصر يوم الأربعاء 14 من ربيع الأول 1422 ه ، الموافق 6/6/2001 ، والحمد لله رب العالمين .
i تفسير المراغي للأستاذ أحمد مصطفى المراغي 30/215 مطبعة مصطفى البابي الحلبي ، الطبعة الثالثة .
ii إن الله أمرني أن أقرأ عليك :
رواه البخاري في تفسير القرآن ( 4959 ) ومسلم في صلاة المسافرين ( 799 ) من حديث أنس بن مالك بلفظ : ( إن الله أمرني أن أقرأ عليك لم يكن الذين كفروا . . . ) الحديث .
أخرجه على القارئ في الأسرار المرفوعة ( 83 ، 292 ) .
روى البخاري في تفسير القرآن ( 4896 ) ومسلم في الفضائل ( 2354 ) والترمذي في الأدب ( 2840 ) وأحمد في : مسنده ( 16292 ) من حديث جبير بن مطعم رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( إن لي أسماء : أنا محمد ، وأنا أحمد وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر ، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي ، وأنا العاقب ) .
ذكره السيوطي في الجامع الصغير ( 7570 ) وعزاه لابن النجار والديلمي في مسند الفردوس عن أنس . وقال السيوطي في ( الدر المنثور ) : وأخرج ابن أبي شيبة عن الحسن قال : إن الإيمان ليس بالتحلي ولا بالتمني ، إن الإيمان ما وقر في القلب وصدقه العمل . فذكره هكذا موقوفا .
{ جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ } أي : جنات إقامة ، لا ظعن فيها ولا رحيل ، ولا طلب لغاية فوقها ، { تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ } فرضي عنهم بما قاموا به من مراضيه ، ورضوا عنه ، بما أعد لهم من أنواع الكرامات وجزيل المثوبات { ذَلِكَ } الجزاء الحسن { لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ } أي : لمن خاف الله ، فأحجم عن معاصيه ، وقام بواجباته{[1]}
{ إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية جزاؤهم عند ربهم جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك لمن خشي ربه } وتناهى عن المعاصي . وقيل : الرضا ينقسم إلى قسمين : رضاً به ، ورضاً عنه ، فالرضا به : رباً ومدبراً ، والرضا عنه : فيما يقضي ويقدر . قال السدي رحمه الله : إذا كنت لا ترضى عن الله فكيف تسأله الرضا عنك ؟
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا غندر ، حدثنا شعبة قال : سمعت قتادة عن أنس بن مالك " قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بن كعب : إن الله تعالى أمرني أن أقرأ عليك : { لم يكن الذين كفروا } قال : وسماني ربي ؟ قال : نعم . فبكى " . وقال همام عن قتادة : أمرني أن أقرأ عليك القرآن .
قوله : { جزاؤهم عند ربهم جنات عدن تجري من تحتها الأنهار } يعني ، ثواب هؤلاء المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن يتبوأوا منازلهم من الجنة ذات البساتين والأنهار والنعيم الذي لا يفنى ولا يزول . فهم فيها ماكثون أبدا لا يخرجون ولا يبرحون ؛ بل منعّمون مكرمون .
قوله : { رضي الله عنهم } أي رضي أعمالهم بما أطاعوه في الدنيا ، إذ أفردوه بالعبادة وأذعنوا له بالخضوع والاستسلام { ورضوا عنه } أي رضوا بما أعطاهم من حسن الثواب وبما جزاهم على طاعتهم له من الكرامة .
قوله : { ذلك لمن خشي ربه } هذا الوعد الكريم من الله بعطاء المؤمنين وتخويلهم حسن الثواب والجزاء { لمن خشي ربه } أي لمن خاف ربه في الدنيا في السر والعلن فبادر لطاعته وأداء فرائضه واجتناب نواهيه{[4845]} .