ومن ثم يعرض هؤلاء الظالمين في مشهد من مشاهد القيامة . يعرضهم مشفقين خائفين من العذاب وكانوا من قبل لا يشفقون ، بل يستعجلون ويستهترون :
( ترى الظالمين مشفقين مما كسبوا وهو واقع بهم ) . .
والتعبير العجيب يجعل إشفاقهم ( مما كسبوا )فكأنما هو غول مفزع ؛ وهو هو الذي كسبوه وعملوه بأيديهم وكانوا به فرحين ! ولكنهم اليوم يشفقون منه ويفزعون ( وهو واقع بهم ) . . وكأنه هو بذاته انقلب عذابا لا مخلص منه ، وهو واقع بهم !
وفي الصفحة الأخرى نجد المؤمنين الذين كانوا يشفقون من هذا اليوم ويخافون . نجدهم في أمن وعافية ورخاء :
والذين آمنوا وعملوا الصالحات في روضات الجنات ، لهم ما يشاءون عند ربهم . ذلك هو الفضل الكبير . ذلك الذي يبشر الله عباده الذين آمنوا وعملوا الصالحات . .
والتعبير كله رُخاء يرسم ظلال الرخاء : ( في روضات الجنات ) . . ( لهم ما يشاءون عند ربهم )بلا حدود ولا قيود . ( ذلك هو الفضل الكبير ) . .
مشفقين : خائفين خوفا شديدا من العذاب .
وهو واقع بهم : والعذاب واقع بهم لا محالة .
روضات الجنات : أطيب بقاعها وأعلى منازلها وأنزهها .
22- { ترى الظالمين مشفقين مما كسبوا وهو واقع بهم والذين آمنوا وعملوا الصالحات في روضات الجنات لهم ما يشاءون عند ربهم ذلك هو الفضل الكبير } .
في يوم القيامة ترى أمرين مختلفين :
( أ ) الظالمون خائفون مشفقون من أعمالهم التي عملوها ، إنها غول يطاردهم يوم القيامة ، فطالما استمتعوا بالمعاصي وتلذذوا بالموبقات ، وهي الآن شيء فظيع يطاردهم وهم خائفون من عقاب خطاياهم ، وسيقع العذاب بهم خافوا أم صبروا .
( ب ) المؤمنون في أعلى منازل الجنة وروضاتها يتمتعون بالثمار والأشجار ، وعزف الأوتار ، وضيافة الجبار ، ولهم ما يشاءون عند ربهم ، حيث يكرمهم ويلبي رغباتهم ، وهذا هو الفضل الكبير الذي يكافئ الله به المؤمنين ، حيث يحل عليهم رضوان الله فلا يسخط عليهم أبدا ، وحيث يتمتعون بالنظر إلى وجهه الكريم كما ورد في صحيح مسلم .
وروى الشيخان ، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( إن الله عز وجل يقول لأهل الجنة : يا أهل الجنة ، فيقولون : لبيك ربنا وسعديك ، والخير في يديك ، فيقول : هل رضيتم ؟ فيقولون : وما لنا لا نرضى يا ربنا وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك ، فيقول : ألا أعطيكم أفضل من ذلك ؟ فيقولون : وأي شيء أفضل من ذلك ؟ فيقول : أحل عليكم رضواني ، فلا أسخط عليكم بعده أبدا )8 ( متفق عليه ) .
وفي ذلك اليوم { تَرَى الظَّالِمِينَ } أنفسهم بالكفر والمعاصي { مُشْفِقِينَ } أي : خائفين وجلين { مِمَّا كَسَبُوا } أن يعاقبوا عليه .
ولما كان الخائف قد يقع به ما أشفق منه وخافه ، وقد لا يقع ، أخبر أنه { وَاقِعٌ بِهِمْ } العقاب الذي خافوه ، لأنهم أتوا بالسبب التام الموجب للعقاب ، من غير معارض ، من توبة ولا غيرها ، ووصلوا موضعا فات فيه الإنظار والإمهال .
{ وَالَّذِينَ آمَنُوا } بقلوبهم بالله وبكتبه ورسله وما جاءوا به ، { وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } يشمل كل عمل صالح من أعمال القلوب ، وأعمال الجوارح من الواجبات والمستحبات ، فهؤلاء { فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ } أي : الروضات المضافة إلى الجنات ، والمضاف يكون بحسب المضاف إليه ، فلا تسأل عن بهجة تلك الرياض المونقة ، وما فيها من الأنهارالمتدفقة ، والفياض المعشبة ، والمناظر الحسنة ، والأشجار المثمرة ، والطيور المغردة ، والأصوات الشجية المطربة ، والاجتماع بكل حبيب ، والأخذ من المعاشرة والمنادمة بأكمل نصيب ، رياض لا تزداد على طول المدى إلا حسنا وبهاء ، ولا يزداد أهلها إلا اشتياقا إلى لذاتها وودادا ، { لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ } فيها ، أي : في الجنات ، فمهما أرادوا فهو حاصل ، ومهما طلبوا حصل ، مما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر . { ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ } وهل فوز أكبر من الفوز برضا الله تعالى ، والتنعم بقربه في دار كرامته ؟
ولما علم من هذا السياق كما ترى أنه لا بد من الفصل ، وأن الفصل لا يكون إلا يوم القيامة ، قال شارحاً للفصل بين الفريقين في ذلك اليوم مقبلاً على خطاب أعلى الخلق إشارة إلى أن هذا لا يفهمه حق الفهم ويوقن به حق الإيقان غيره صلى الله عليه وسلم ، أو يكون المراد كل من يصح أن يخاطب إشارة إلى أن الأمر في الوضوح بحيث لا يختص به أحد دون أحد فقال : { ترى } أي في ذلك اليوم الذي لا يشك فيه عاقل لما له من الأدلة الفطرية الأولية والعقلية والنقلية { الظالمين } أي الواضعين الأشياء في غير مواضعها { مشفقين } أي خائفين أشد الخوف كما هو حال من يحاسبه من هو أعلى منه وهو مقصر . ولما كان الكلام في الذين ظلمهم صفة راسخة لهم ، كان من المعلوم أن كل عملهم عليهم ، فلذلك عبر بفعل الكسب مجرداً فقال : { مما كسبوا } أي عملوا معتقدين لأنه غاية ما ينفعهم { وهو } أي جزاؤه ووباله الذي هو من جنسه حتى كأنه هو { واقع بهم } لا محالة من غير أن يزيدهم خوفهم إلا عذاباً في غمرات النيران ، ذلك هو الخسران المبين ، ذلك الذي ينذر به الذين ظلموا { والذين آمنوا } يصح أن يكون معطوفاً على مفعول { ترى } وأن يكون معطوفاً على جميع الجملة فيكون مبتدأ { وعملوا الصالحات } وهي التي أذن الله فيها غير خائفين مما كسبوا لأنهم مأذون لهم في فعله وهو مغفور لهم ما فرطوا فيه { في روضات الجنات } أي في الدنيا بما يلذذهم الله به من لذائد الأقوال والأعمال والمعارف والأحوال ، وفي الآخرة حقيقة بلا زوال { لهم ما يشاؤون } أي دائماً أبداً كائن ذلك لكونه في غاية الحفظ والتربية والتنبيه على مثل هذا الحفظ لفت إلى صفة الإحسان ، فقال : { عند ربهم } أي الذي لم يوصلهم إلى هذا الثواب العظيم إلا حسن تربيته لهم ، ولطف بره بهم على حسب ما رباهم .
ولما ذكر ما لهم من الجزاء عظمه فقال : { ذلك } أي الجزاء العظيم الرتبة الجليل القدر { هو } لا غيره { الفضل } أي الذي هو أهل لأن يكون فاضلاً عن كفاية صاحبه ، ولو بالغ في الإنفاق { الكبير * } الذي ملأ جميع جهات الحاجة وصغر عنده كل ما ناله غيرهم من هذا الحطام ، فالآية كما ترى من الاحتباك : أثبت الإشفاق أولاً دليلاً على حذف الأمن ثانياً ، والجنات ثانياً دليلاً على حذف النيران أولاً .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.