وفي ضوء هذا المصير المتخيل الرعيب . . تختم السورة بتوجيه المؤمن الطائع إلى الإصرار والثبات على إيمانه وطاعته . .
( كلا . لا تطعه ، واسجد ، واقترب . )
كلا ! لا تطع هذا الطاغي الذي ينهى عن الصلاة والدعوة . واسجد لربك واقترب منه بالطاعة والعبادة . ودع هذا الطاغي . الناهي دعه للزبانية !
ولقد وردت بعض الروايات الصحيحة بأن السورة - عدا المقطع الأول منها - قد نزلت في أبي جهل إذ مر برسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وهو يصلي عند المقام . فقال [ يا محمد . ألم أنهك عن هذا ? وتوعده . فأغلظ له رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وانتهره . . ] ولعلها هي التي أخذ فيها رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] بخناقه وقال له : أولى لك ثم أولى فقال : يا محمد بأي شي تهددني ? أما والله إني لأكثر هذا الوادي ناديا ، فأنزل الله : ( فليدع ناديه . . . )وقال ابن عباس لو دعا ناديه لأخذته ملائكة العذاب من ساعته . ولكن دلالة السورة عامة في كل مؤمن طائع عابد داع إلى الله . وكل طاغ باغ ينهى عن الصلاة ، ويتوعد على الطاعة ، ويختال بالقوة . . والتوجيه الرباني الأخير : ( كلا ! لا تطعه واسجد واقترب ) . .
واقترب : تقرّب إلينا بالطاعة .
19- كلاّ لا تطعه واسجد واقترب .
كلاّ . ردع آخر الكافر عن الغرور والطغيان ، أي أن هذا الكافر وأهل ناديه وغيرهم أعجز من أن يمنعوك يا محمد عن الصلاة عند الكعبة ، فلا تطعه ، ولا تكترث لمنعه لك عن الصلاة ، واسجد لربك ، واقترب منه ناجيا وداعيا ومتبتلا ، فإنه يسمع ويرى .
روى مسلم في صحيحه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد )iii .
اللهم اجعلنا من عبادك الصالحين ، اللهم حبّب إلينا الإيمان وزينه في قوبنا ، وكرّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان ، واجعلنا من الراشدين ، اللهم ارزقنا علما نافعا وقلبا خاشعا ورزقا واسعا ، اللهم ارزقنا الخشوع في الصلاة ، ومنّ علينا بالاقتراب منك ، وحضور القلب بين يديك ، واجعلنا متبتّلين لك ، راغبين فيما عندك ، اللهم اجعل خير أعمالنا خواتيمها ، وخير أيامنا يوم لقائك ، وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
تم بحمد الله تعالى ومعونته وتوفيقه تفسير سورة ( العلق ) مساء يوم الإثنين 12 من ربيع الأول 1422ه ، الموافق 4/6/2001م .
i أخرجه الشيخان والإمام أحمد واللفظ له . وانتظر مختصر تفسير ابن كثير اختصار وتحقيق محمد علي الصابوني المجلد الثالث ص656 .
ii يا عبادي إني حرّمت الظلم علي نفسي :
رواه مسلم في البر والصلة ( 2577 ) ، وأحمد ( 5/154 ، 160 ، 177 ) ، والترمذي ( 2495 ) ، وابن ماجة ( 4275 ) ، وعبد الرزاق ( 20272 ) من حديث أبي ذر .
iii أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد :
رواه مسلم في الصلاة ( 482 ) وأبو داود في الصلاة ( 875 ) والنسائي في الافتتاح ( 2/226 ) .
وأما حالة المنهي ، فأمره الله أن لا يصغى إلى هذا الناهي ولا ينقاد لنهيه فقال : { كَلَّا لَا تُطِعْهُ } [ أي : ] فإنه لا يأمر إلا بما فيه خسارة الدارين ، { وَاسْجُدْ } لربك { وَاقْتَربَ } منه في السجود وغيره من أنواع الطاعات والقربات ، فإنها كلها تدني من رضاه ، وتقرب منه .
وهذا عام لكل ناه عن الخير ومنهي عنه ، وإن كانت نازلة في شأن أبي جهل حين نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة ، وعبث به{[1460]} وآذاه . تمت ولله الحمد .
قوله تعالى : " كلا " أي ليس الأمر على ما يظنه أبو جهل . " لا تطعه " أي فيما دعاك إليه من ترك الصلاة . " واسجد " أي صل لله " واقترب " أي تقرب إلى اللّه جل ثناؤه بالطاعة والعبادة . وقيل : المعنى : إذا سجدت فاقترب من اللّه بالدعاء . روى عطاء عن أبي هريرة قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : ( أقرب ما يكون العبد من ربه ، وأحبه إليه ، جبهته في الأرض ساجدا لله ) .
قال علماؤنا : وإنما كان ذلك لأنها نهاية العبودية والذلة ، ولله غاية العزة ، وله العزة التي لا مقدار لها ، فكلما بعدت من صفته ، قربت من جنته ، ودنوت من جواره في داره . وفي الحديث الصحيح : أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال : [ أما الركوع فعظموا فيه الرب . وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء ، فإنه قمن{[16226]} أن يستجاب لكم ] . ولقد أحسن من قال :
وإذا تذللت الرقاب تواضُعًا *** منا إليك فعِزُّهَا في ذُلِّهَا
وقال زيد بن أسلم : اسجد أنت يا محمد مصليا ، واقترب أنت يا أبا جهل من النار .
قوله تعالى : " واسجد " هذا من السجود . يحتمل أن يكون بمعنى السجود في الصلاة ، ويحتمل أن يكون سجود التلاوة في هذه السورة . قال ابن العربي : " والظاهر أنه سجود الصلاة " لقوله تعالى : " أرأيت الذي ينهى عبدا إذا صلى - إلى قوله - كلا لا تطعه واسجد واقترب " ، لولا ما ثبت في الصحيح من رواية مسلم وغيره من الأئمة عن أبي هريرة أنه قال : سجدت مع رسول الله صلى اللّه عليه وسلم في " إذا السماء انشقت " [ الإنشقاق : 1 ] ، وفي " اقرأ باسم ربك الذي خلق " [ العلق : 1 ] سجدتين ، فكان هذا نصا على أن المراد سجود التلاوة . وقد روى ابن وهب ، عن حماد بن زيد ، عن عاصم بن بهدلة ، عن زر بن حبيش ، عن علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه ، قال : عزائم السجود أربع : " ألم " و " حم تنزيل من الرحمن الرحيم " و " النجم " و " اقرأ باسم ربك " . وقال ابن العربي : وهذا إن صح يلزم عليه السجود الثاني من سورة " الحج " ، وإن كان مقترنا بالركوع ؛ لأنه يكون معناه اركعوا في موضع الركوع ، واسجدوا في موضع السجود . وقد قال ابن نافع ومطرف : وكان مالك يسجد في خاصة نفسه بخاتمة هذه السورة من " اقرأ باسم ربك " وابن وهب يراها من العزائم .
قلت : وقد روينا من حديث مالك بن أنس عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن نافع عن ابن عمر قال : لما أنزل اللّه تعالى " اقرأ باسم ربك الذي خلق " [ العلق : 1 ] قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لمعاذ : [ اكتبها يا معاذ ] فأخذ معاذ اللوح والقلم والنون - وهي الدواة - فكتبها معاذ ، فلما بلغ " كلا لا تطعه واسجد واقترب " سجد اللوح ، وسجد القلم ، وسجدت النون ، وهم يقولون : اللهم ارفع به ذكرا ، اللهم احطط به وزرا ، اللهم اغفر به ذنبا . قال معاذ : سجدت ، وأخبرت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فسجد .
ختمت السورة . والحمد لله على ما فتح ومنح وأعطى . وله الحمد والمنة .
ولما كان الذي تقدم نهي الناهي للمصلي ، والسفع بناصيته إن لم ينته ، وأمره بدعاء ناديه ، وكان الحكم في الأول أنه لا يجيبه إلى ترك الصلاة ، وفي الثاني أن الناهي لا ينتهي عن عصيانه بالتهديد ، وأنه لا يفيده دعاء ناديه ، فالكل منفي ، حسن كل الحسن الإتيان بأداة الردع ، فقال : { كلا } أي لا يقدر على دعاء ناديه ، ولا ينتهي عن أذاه للمطيع بالتهديد فليرتدع عن كل من ذلك .
ولما كان كأنه قيل : فما أفعل ؟ قال معرفاً أن من علم أن طبع الزمان وأهله الفساد ، وجب عليه الإقبال على شأنه ، والإعراض عن سائر العباد { لا تطعه } أي في نهيه لك عن الطاعة بالصلاة أو غيرها .
ولما كان نهيه عن الصلاة التي هي عماد الدين ، وكانت الصلاة يعبر عنها بالسجود ؛ لأنه - مع أنه جزؤها - هو أشرفها ، وهو أيضاً يطلق على مطلق العبادة ، قال تعالى مشيراً إلى النصر له صلى الله عليه وسلم ولأتباعه على كل من يمنعهم عبادته : { واسجد } أي دم على صلاتك وخضوعك بنفسك ، وجدد ذلك في كل وقت . ولما كان السجود أقرب مقرب للعبد إلى الله قال : { واقترب * } أي اجتهد بسرك في بلوغ درجة القرب إلى ربك ، والتحبب إليه بكل عبادة ، لا سيما الصلاة ، فإنه أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد ، وقد شرح هذا المقام كما تقدم في الفاتحة قوله صلى الله عليه وسلم : " أعوذ بعفوك من عقوبتك " ، فإن هذه الجملة أفادت - كما قال الإمام الغزالي في كتاب الشكر - مشاهدة أفعال الله فقط ، فكأنه لم ير إلا الله وأفعاله ، فاستعاذ بفعله من فعله ، قال : ثم اقترب ، ففني في مشاهدة الأحوال ، وترقى إلى مصادر الأفعال ، وهي الصفات ، فقال : " أعوذ برضاك من سخطك " وهما صفتان ، ثم رأى ذلك نقصاناً في التوحيد فاقترب وترقى من مقام مشاهدة الصفات إلى مشاهدة الذات ، فقال " وأعوذ بك منك " فراراً منه إليه من غير رؤية فعل وصفة ، ولكنه رأى نفسه فاراً منه إليه ، ومستعيذاً ومثنياً ، ففني عن مشاهدة نفسه إذا رأى ذلك نقصاناً فاقترب فقال " أنت كما أثنيت على نفسك ، لا أحصي ثناء عليك " ، فقوله : " لا أحصي " خبر عن فناء نفسه ، وخروجه عن مشاهدتها ، وقوله : " أنت كما أثنيت " بيان أنه المثني والمثنى عليه ، وأن الكل منه بدأ وإليه يعود ، وأن كل شيء هالك إلا وجهه ، فكان أول مقامه نهاية مقامات الموحدين وهو أن لا يرى إلا الله وأفعاله ، فيستعيذ بفعل من فعل ، فانظر إلى ماذا انتهت نهايته إذا انتهى إلى الواحد الحق حتى ارتفع من نظره ومشاهدته سوى الذات الحق ، ولقد كان صلى الله عليه وسلم لا يرقى من مرتبة إلى أخرى إلا ويرى الأولى بعداً بالإضافة إلى الثانية ، فكان يستغفر الله من الأولى ، ويرى ذلك نقصاً في سلوكه ، وتقصيراً في مقامه ، وإليه الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم : " إنه ليغان على قلبي حتى أستغفر الله في اليوم والليلة سبعين مرة " ، فكان ذلك لترقيه إلى سبيعن مقاماً بعضها يعد نقصاً لنقص أوائلها ، وإن كان مجاوزاً أقصى غايات مقامات الخلق ، ولكن كان نقصاناً بالإضافة إلى أواخرها ، فكان استغفاره لذلك .
ولما قالت عائشة رضي الله عنها : قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ، فما هذا البكاء في السجود وما هذا الجهد الشديد ؟ قال : " أفلا أكون عبداً شكوراً " معناه : أفلا أكون طالباً للمزيد في المقامات ، فإن الشكر سبب الزيادة حيث قال تعالى{ ولئن شكرتم لأزيدنكم }[ إبراهيم : 7 ] انتهى . وهو على ما ترى من النفاسة ، فمن أكثر من الدعاء في سجوده فقمن أن يستجاب له ، والصلاة لا تكون إلا بالقراءة ، فإذا فعلت ذلك احتجبت عن الأغيار بحجاب منيع ، فازددت صفاء ، وصنت حالك عن الغير - كما يرشد إليه ما في صحف إبراهيم عليه الصلاة والسلام : " ينبغي للعاقل أن يكون حافظاً للسانه ، عارفاً بزمانه ، مقبلاً على شأنه - والله أعلم " فقد رجع آخرها إلى الأول ، على أحسن وجه وأجمل وأكمل - والله الهادي .