ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا ، فلا يغررك تقلبهم في البلاد . كذبت قبلهم قوم نوح والأحزاب من بعدهم ، وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه ، وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق ، فأخذتهم ، فكيف كان عقاب ? وكذلك حقت كلمة ربك على الذين كفروا أنهم أصحاب النار ) . .
بعد تقرير تلك الصفات العلوية ، وتقرير الوحدانية ، يقرر أن هذه الحقائق مسلمة من كل من في الوجود ، وكل ما في الوجود ، ففطرة الوجود كله مرتبطة بهذه الحقائق ، متصلة بها الاتصال المباشر ، الذي لا تجادل فيه ولا تماحل . والوجود كله مقتنع بآيات الله الشاهدة بحقيقته ووحدانيته . وما من أحد يجادل فيها إلا الذين كفروا وحدهم ، شذوذاً عن كل ما في الوجود وكل من في الوجود :
( ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا ) . .
فهم وحدهم من بين هذا الوجود الهائل يشذون ؛ وهم وحدهم من بين هذا الخلق العظيم ينحرفون . وهم - بالقياس إلى هذا الوجود - أضعف وأقل من النمل بالقياس إلى هذه الأرض . وهم حين يقفون في صف يجادلون في آيات الله ؛ ويقف الوجود الهائل كله في صف معترفاً بخالق الوجود مستنداً إلى قوة العزيز الجبار . . هم في هذا الموقف مقطوع بمصيرهم ، مقضي في أمرهم ؛ مهما تبلغ قوتهم ؛ ومهما يتهيأ لهم من أسباب المال والجاه والسلطان :
( فلا يغررك تقلبهم في البلاد ) . .
فمهما تقلبوا ، وتحركوا ، وملكوا ، واستمتعوا ، فهم إلى اندحار وهلاك وبوار . ونهاية المعركة معروفة . إن كان ثمت معركة يمكن أن تقوم بين قوة الوجود وخالقه ، وقوة هؤلاء الضعاف المساكين !
فلا يغررك : فلا يخدعك عيشهم سالمين .
تقلبهم في البلاد : التصرُّف والتنقل في بلاد الشام واليمن بالتجارات الرابحة ، فإن عاقبتهم النار والهلاك .
4- { ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا فلا يغررك تقلبهم في البلاد } .
أخرج ابن أبي حاتم ، قال : نزلت هذه الآية في الحارث بن قيس السهمي .
وتفيد آيات القرآن الكريم ، والسيرة المطهرة أن الجدال نوعان :
جدال بالحق لتبيّن آيات القرآن وتفهم معناها ، وهو نقاش محمود .
وجدال بالباطل ، مثل قولهم : إن القرآن سحر وشعر وكهانة ، وأساطير الأولين وافتراء من عند محمد ، محاولة من كفار مكة وأغنيائها لتقرر الباطل ، ودحض الحق ، وإبطال الإيمان ، بالاعتماد على الشبهات بعد وضوح الحق ، وسطوع حجة البيان القرآني ، والإعجاز لكتاب الله ، وقد كان كفار مكة يسخرون من المؤمنين ، ويحاولون تشكيك المسلمين في عقيدتهم ، ويوجّهون التهم الكاذبة إلى الإسلام والقرآن والرسول محمد صلى الله عليه وسلم .
ما يخاصم في دفع آيات الله وتكذيبها إلا الذين كفروا ، فلا يخدعك أيها الرسول الأمين تقلبهم في البلاد ، بين الشام واليمن في تجارة رابحة ، مع تمتعهم بالغنى والجاه والأمن والرفعة في الدنيا ، لأن ذلك إمهال لهم وليس إهمالا ، فسوف يرون الهلاك في الدنيا ، والعذاب في الآخرة .
وفي هذا المعنى يقول الله تعالى : { لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد * متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد } ( آل عمران 196 ، 197 ) .
ويقول سبحانه : { نمتعهم قليلا ثم نضطرهم إلى عذاب غليظ } . ( لقمان : 24 ) .
وفي الحديث الشريف أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته " . {[615]}
ولقد كان القرآن يحاور المشركين بالحق ، فيلفت أنظارهم إلى الكون وما فيه ، ويستحضر أمامهم حقائق التاريخ ، ومشاهد القيامة ، رجاء هدايتهم ، وأحيانا يدفعهم الكبر عن قبول الحق ، وبيّن أن تكذيب المترفين وعناد المتكبرين أمر عرفته البشرية في تاريخها الطويل ، فليس تكذيب أهل مكة بدعا أو غريبا عن تكذيب الكافرين لرسلهم .
{ 4 - 6 } { مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ * كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ * وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ }
يخبر تبارك وتعالى أنه ما يجادل في آياته إلا الذين كفروا والمراد بالمجادلة هنا ، المجادلة لرد آيات الله ومقابلتها بالباطل ، فهذا من صنيع الكفار ، وأما المؤمنون فيخضعون لله تعالى الذي يلقي الحق ليدحض به الباطل ، ولا ينبغي للإنسان أن يغتر بحالة الإنسان الدنيوية ، ويظن أن إعطاء الله إياه في الدنيا دليل على محبته له وأنه على الحق ولهذا قال : { فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ } أي : ترددهم فيها بأنواع التجارات والمكاسب ، بل الواجب على العبد ، أن يعتبر الناس بالحق ، وينظر إلى الحقائق الشرعية ويزن بها الناس ، ولا يزن الحق بالناس ، كما عليه من لا علم ولا عقل له .
قوله تعالى : " ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا " سجل سبحانه على المجادلين في آيات الله بالكفر ، والمراد الجدال بالباطل ، من الطعن فيها ، والقصد إلى إدحاض الحق ، وإطفاء نور الله تعالى . وقد دل على ذلك في قوله تعالى : " وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق " . [ غافر :5 ] . فأما الجدال فيها لإيضاح ملتبسها ، وحل مشكلها ، ومقادحة أهل العلم في استنباط معانيها ، ورد أهل الزيغ بها وعنها ، فأعظم جهاد في سبيل الله . وقد مضى هذا المعنى في " البقرة " عند قوله تعالى : " ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه " {[13356]} [ البقرة : 258 ] مستوفى . " فلا يغررك تقلبهم في البلاد " " فلا يغررك " وقرئ : " فلا يغرك " " تقلبهم " أي تصرفهم " في البلاد " فإني إن أمهلتهم لا أهملهم بل أعاقبهم . قال ابن عباس : يريد تجارتهم من مكة إلى الشام وإلى اليمن . وقيل : " لا يغررك " ما هم فيه من الخير والسعة في الرزق فإنه متاع قليل في الدنيا . وقال الزجاج : " لا يغررك " سلامتهم بعد كفرهم فإن عاقبتهم الهلاك . وقال أبو العالية : آيتان ما أشدهما على الذين يجادلون في القرآن : قوله : " ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا " ، وقوله : " وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد " [ البقرة : 176 ] .
ولما تبين ما للقرآن من البيان الجامع بحسب نزوله جواباً لما يعرض لهم من الشبه ، فدل بإزاحته كل علة على ما وصف سبحانه به نفسه المقدس من العزة والعلم بياناً لا خفاء في شيء منه ، أنتج قول ذماً لمن يريد إبطاله وإخفاءه : { ما يجادل } أي يخاصم ويماري ويريد أن يفتل الأمور إلى مراده { في آيات } وأظهر موضع الإضمار تعظيماً للآيات فقال : { الله } أي في إبطال أنوار الملك الأعظم المحيط بصفات الكمال الدالة كالشمس على أنه إليه المصير ، بأن يغش نفسه بالشك في ذلك لشبه يميل معها ، أو غيره بالتشكيك له ، أو في شيء غير ذلك مما أخبر به تعالى { إلا الذين كفروا } أي غطوا مرائي عقولهم وأنوار بصائرهم لبساً على أنفسهم وتلبيساً على غيرهم .
ولما ثبت أن الحشر لا بد منه ، وأن الله تعالى قادر كل قدرة لأنه لا شريك له وهو محيط بجميع أوصاف الكمال ، تسبب عن ذلك قوله : { فلا يغررك تقلبهم } أي تنقلهم بالتجارات والفوائد والجيوش والعساكر وإقبال الدنيا عليهم { في البلاد * } فإنه لا يكون التفعل بالقلب إلا عن قهر وغلبة ، فتظن لإمهالنا إياهم أنهم على حق ، أو أن أحداً يحميهم علينا ، فلا بد من صيرورتهم عن قريب إلينا صاغرين داخرين ، وتأخيرهم إنما هو ليبلغ الكتاب أجله .