فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{مَا يُجَٰدِلُ فِيٓ ءَايَٰتِ ٱللَّهِ إِلَّا ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَا يَغۡرُرۡكَ تَقَلُّبُهُمۡ فِي ٱلۡبِلَٰدِ} (4)

ثم لما ذكر الله سبحانه أن القرآن كتاب الله أنزله ليهتدي به في الدين . ذكر أحوال من يجادل فيه لقصد إبطاله فقال :

{ مَا يُجَادِلُ فِي آَيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا } أي ما يخاصم في دفع آيات الله وتكذيبها بالطعن فيها إلا الكفار ، والمراد الجدال بالباطل ، القصد إلى دحض الحق ، كما في قوله وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق ، فأما الجدال لاستيضاح الحق وإيضاح الملتبس ، وحل المشكل وتكذيبها ، وكشف المعضل ، واستنباط المعاني ، ورد أهل الزيغ بها ، ورفع اللبس ، والبحث عن الراجح والمرجوح ، وعن المحكم والمتشابه ، ودفع ما يتعلق به المبطلون من متشابهات القرآن ، وردهم بالجدال إلى المحكم ، فهو من أعظم ما يتقرب به المتقربون ، وأفضل ما يجاهد في سبيله المجاهدون ، وبذلك أخذ الله الميثاق على الذين أوتوا الكتاب فقال :

{ وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ } وقال : { إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ } وقال . { وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } .

فتلخص أن الجدال نوعان ، جدال في تقرير الحق ؛ وجدال قي تقرير الباطل ؛ أما الأول فهو حرفة الأنبياء عليهم السلام ، ومنه قوله تعالى حكاية عن قوم نوح { يا نوح قد جادلتنا } وأما الثاني فهو مذموم ، وهو المراد بهذه الآية ، فجدالهم في آيات الله هو قولهم مرة هذا سحر ، ومرة شعر ، ومرة هو قول الكهنة ، ومرة { أساطير الأولين } ومرة { إنما يعلمه بشر } وأشباه هذا قاله الكرخي . وأخرج عبد بن حميد وأبو داود عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إن جدالا في القرآن كفر } ، وعنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( المراء في القرآن كفر ) {[1457]} ، أخرجه أبو داود وغيره .

وعن عبد الله بن عمرو بن العاص قال ( هاجرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فسمع أصوات رجلين اختلفا في آية ، فخرج يعرف في وجهه الغضب فقال إنما هلك من كان قبلكم باختلافهم في الكتاب ) {[1458]} ، أخرجه مسلم ، قال أبو العالية آيتان ما أشدهما على الذين يجادلون في القرآن هذه الآية ، وقوله { وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ } .

ولما حكم سبحانه على المجادلين في آيات الله بالكفر نهى رسوله صلى الله عليه وسلم عن أن يغتر بشيء من حظوظهم الدنيوية فقال :

{ فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ } أي فلا يغررك ما يفعلونه من التجارة النافقة في البلاد ، كالشام واليمن ، وما يحصلونه من المكاسب والأرباح ، وما يجمعونه من الأموال سالمين غانمين ، فإنهم معاقبون عما قليل ، وإن أمهلوا لا يهملون ، قال الزجاج : لا يغررك سلامتهم بعد كفرهم ، فإن عاقبتهم الهلاك وهذا تسلية له صلى الله عليه وسلم ووعيد لهم ، والفاء لترتيب النهي ، أو وجوب الانتهاء على ما قبلها ، من التسجيل عليهم بالكفر ، الذي لا شيء أمقت منه عند الله ، ولا أجلب لخسران الدنيا والآخرة قرأ الجمهور : لا يغررك بفك الإدغام وقرئ بالإدغام ، وهو جواب لشرط مقدر ، أي إذا تقرر عندك أن المجادلين في آيات الله كفار فلا يغررك الخ ،


[1457]:صحيح الجامع 6563 ـ المشكاة /236.
[1458]:صحيح الجامع 2370.