السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{مَا يُجَٰدِلُ فِيٓ ءَايَٰتِ ٱللَّهِ إِلَّا ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَا يَغۡرُرۡكَ تَقَلُّبُهُمۡ فِي ٱلۡبِلَٰدِ} (4)

ولما قرر تعالى أن القرآن كتاب أنزله ليهتدي به في الدين ذكر أحوال من يجادل لغرض إبطاله فقال : { ما يجادل } أي : يخاصم ويماري أي : يفتل الأمور إلى مراده { في آيات الله } أي : في إبطال أنوار الملك الأعظم المحيط بصفات الكمال الدال كالشمس على أنه تعالى إليه المصير بأن يغش نفسه بالشك في ذلك { إلا الذين كفروا } قال أبو العالية : آيتان ما أشدهما على الذين يجادلون في القرآن قوله تعالى : { ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا } وقوله تعالى : { وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد } ( البقرة : 176 ) وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم : «إن جدالاً في القرآن كفر » . وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : «سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم قوماً يتمارون في القرآن فقال : إنما أهلك من كان قبلكم أنهم ضربوا كتاب الله بعضه ببعض فما علمتم منه فقولوه وما جهلتم عنه فكلوه إلى عالمه » . وعن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : هاجرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً فسمعت أصوات رجلين اختلفا في آية ، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرف في وجهه الغضب فقال : «إنما هلك من كان قبلكم باختلافهم في الكتاب » .

تنبيه : الجدال نوعان : جدال في تقرير الحق وجدال في تقرير الباطل . أما الأول : فهو حرفة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام قال تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : { وجادلهم بالتي هي أحسن } ( النحل : 125 ) وحكى عن قوم نوح قولهم : { يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا } ( هود : 32 ) . وأما الثاني : فهو مذموم وهو المراد بهذه الآية فجدالهم في آيات الله هو قولهم مرة هذا سحر ، ومرة هذا شعر ، ومرة هو قول الكهنة ، ومرة أساطير الأولين ، ومرة إنما يعلمه بشر ، وأشباه هذا .

ولما أثبت أن الحشر لا بد منه وأن الله تعالى قادر كل القدرة لأنه لا شريك له ، وهو محيط بجميع أوصاف الكمال تسبب عن ذلك قوله تعالى : { فلا يغررك تقلّبهم } أي : تنقلهم بالتجارات والفوائد والجيوش والعساكر وإقبال الدنيا عليهم { في البلاد } كبلاد الشام واليمن فإنهم مأخوذون عما قريب بكفرهم أخذ من قبلهم كما قال تعالى : { كذبت قبلهم قوم نوح والأحزاب من بعدهم } .