وبمناسبة هول البحر وخطره الذي يعري النفوس من غرور القوة والعلم والقدرة ، ويسقط عنها هذه الحواجز الباطلة ، ويقفها وجها لوجه أمام منطق الفطرة . بمناسبة هذا الهول يذكرهم بالهول الأكبر ، الذي يبدو هول البحر في ظله صغيرا هزيلا . هول اليوم الذي يقطع أواصر الرحم والنسب ، ويشغل الوالد عن الولد ، ويحول بين المولود والوالد ، وتقف كل نفس فيه وحيدة فريدة ، مجردة من كل عون ومن كل سند ، موحشة من كل قربى ومن كل وشيجة :
( يا أيها الناس اتقوا ربكم ، واخشوا يوما لا يجزي والد عن ولده ، ولا مولود هو جاز عن والده شيئا . إن وعد الله حق ، فلا تغرنكم الحياة الدنيا ، ولا يغرنكم بالله الغرور ) . .
إن الهول هنا هول نفسي ، يقاس بمداه في المشاعر والقلوب . وما تتقطع أواصر القربى والدم ، ووشائج الرحم والنسب بين الوالد ومن ولد ، وبين المولود والوالد . وما يستقل كل بشأنه ، فلا يجزى أحد عن أحد ، ولا ينفع أحدا إلا عمله وكسبه . ما يكون هذا كله إلا لهول لا نظير له في مألوف الناس . . فالدعوة هنا إلى تقوى الله تجيء في موضعها الذي فيه تستجاب ؛ وقضية الآخرة تعرض في ظلال هذا الهول الغامر فتسمع لها القلوب .
( إن وعد الله حق ) . . فلا يخلف ولا يتخلف ؛ ولا مفر من مواجهة هذا الهول العصيب . ولا مفر من الحساب الدقيق والجزاء العادل ، الذي لا يغني فيه والد عن ولد ولا مولود عن والد .
( فلا تغرنكم الحياة الدنيا ) . . وما فيها من متاع ولهو ومشغلة ؛ فهي مهلة محدودة وهي ابتلاء واستحقاق للجزاء .
( ولا يغرنكم بالله الغرور ) . . من متاع يلهي ، أو شغل ينسي ، أو شيطان يوسوس في الصدور . والشياطين كثير . الغرور بالمال شيطان . والغرور بالعلم شيطان . والغرور بالعمر شيطان . والغرور بالقوة شيطان . والغرور بالسلطان شيطان . ودفعة الهوى شيطان . ونزوة الشهوة شيطان . وتقوى الله وتصور الآخرة هما العاصم من كل غرور !
القول في تأويل قوله تعالى : { يَأَيّهَا النّاسُ اتّقُواْ رَبّكُمْ وَاخْشَوْاْ يَوْماً لاّ يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلاَ مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئاً إِنّ وَعْدَ اللّهِ حَقّ فَلاَ تَغُرّنّكُمُ الْحَيَاةُ الدّنْيَا وَلاَ يَغُرّنّكُم بِاللّهِ الْغَرُورُ } . يقول تعالى ذكره : أيها المشركون من قريش ، اتقوا الله ، وخافوا أن يحلّ بكم سخطه في يوم لا يغنى والد عن ولده ، ولا مولود هو مغن عن والده شيئا ، لأن الأمر يصير هنالك بيد من لا يغالب ، ولا تنفع عنده الشفاعة والوسائل ، إلاّ وسيلة من صالح الأعمال التي أسلفها في الدنيا . وقوله : إنّ وَعْدَ اللّهِ حَقّ يقول : اعلموا أن مجيء هذا اليوم حقّ ، وذلك أن الله قد وعد عباده ولا خلف لوعده فَلا تَغُرّنّكُمُ الحَياةُ الدّنْيا يقول : فلا تخدعنكم زينة الحياة الدنيا ولذّاتها ، فتميلوا إليها ، وتدعوا الاستعداد لما فيه خلاصكم من عقاب الله ذلك اليوم . وقوله : وَلا يَغُرّنّكُمْ بالله الغَرُورِ يقول : ولا يخدعنّكم بالله خادع . والغَرور بفتح الغين : هو ما غرّ الإنسان من شيء ، كائنا ما كان شيطانا كان أو إنسانا ، أو دنيا وأما الغُرور بضمّ الغين : فهو مصدر من قول القائل : غررته غرورا . وبنحو الذي قلنا في معنى قوله وَلا يَغُرّنّكُمْ باللّهِ الغَرُور قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله الغَرُور قال : الشيطان .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قَتادة قوله وَلا يَغُرّنكُمْ بِاللّهِ الغَرُورُ ذاكم الشيطان .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد المروزي ، يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول ، في قوله الغَرُورُ قال : الشيطان .
وكان بعضهم يتأوّل الغَرور بما :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا ابن المبارك ، عن ابن لهيعة ، عن عطاء بن دينار ، عن سعيد بن جُبَير ، قوله : وَلا يَغُرّنّكُمْ باللّهِ الغَرُورُ قال : إن تعمل بالمعصية وتتمنى المغفرة .
{ يجزي } معناه يقضي ، والمعنى : لا ينفعه بشيء ولا يدفع عنه ، و { هو جاز } جملة في موضع الصفة ، أي ولا يجزي مولود قد كان في الدنيا يجزي{[9390]} ، و { الغرور } التطميع بما لا يتحصل ، و { الغرور } الشيطان ، بذلك فسر مجاهد والضحاك وقال هو الأمل والتسويف ، وقرأ سماك بن حرب{[9391]} وأبو حيوة «الغُرور » بضم العين ، وقال سعيد بن جبير : معنى الآية أن تعمل المعصية وتتمنى المغفرة ، وقرأ الجمهور «يَجزي » بفتح الياء من جزا ، وقرأ عكرمة «يُجزي » بضم الياء على ما لم يسم فاعله ، وحكى ابن مجاهد قراءة «لا يُجزىء » بضم الياء والهمز وفي رفع «مولودٌ » اضطراب من النحاة قال المهدوي : ولا يكون مبتدأ لأنه نكرة وما بعده صفة له فيبقى بغير خبر{[9392]} .
وقرأ ابن أبي إسحاق وابن أبي عبلة ويعقوب «ولا يغرنكم » خفيفة النون .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: أيها المشركون من قريش، اتقوا الله، وخافوا أن يحلّ بكم سخطه في يوم لا يغنى والد عن ولده، ولا مولود هو مغن عن والده شيئا، لأن الأمر يصير هنالك بيد من لا يغالب، ولا تنفع عنده الشفاعة والوسائل، إلاّ وسيلة من صالح الأعمال التي أسلفها في الدنيا.
وقوله:"إنّ وَعْدَ اللّهِ حَقّ" يقول: اعلموا أن مجيء هذا اليوم حقّ، وذلك أن الله قد وعد عباده ولا خلف لوعده.
"فَلا تَغُرّنّكُمُ الحَياةُ الدّنْيا "يقول: فلا تخدعنكم زينة الحياة الدنيا ولذّاتها، فتميلوا إليها، وتدعوا الاستعداد لما فيه خلاصكم من عقاب الله ذلك اليوم. وقوله: "وَلا يَغُرّنّكُمْ بالله الغَرُورِ" يقول: ولا يخدعنّكم بالله خادع. والغَرور بفتح الغين: هو ما غرّ الإنسان من شيء، كائنا ما كان؛ شيطانا كان أو إنسانا، أو دنيا. وأما الغُرور بضمّ الغين: فهو مصدر من قول القائل: غررته غرورا... عن سعيد بن جُبَير، قوله: "وَلا يَغُرّنّكُمْ باللّهِ الغَرُورُ" قال: إن تعمل بالمعصية وتتمنى المغفرة.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
يحتمل {واتقوا ربكم} في الجهة التي له عليكم، وأوفوا له ذلك، أو اتقوا مخالفة ربكم ومعصيته، أو اتقوا نقمة ربكم وعذابه.
لكنه يختلف الأمر بالاتقاء في المؤمن والكافر؛ يكون للكافر: اتقوا الشرك وعبادة غير الله، وفي المؤمن: اتقوا مخالفة الله في جميع ما يأمركم، وينهاكم، واتقوا عبادة غير الله أو الشرك في حادث الوقت.
{واخشوا يوما لا يجزى والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئا} يذكر هذا على الإياس وقطع طمع بعضهم عن بعض بالوصلة التي كانت بينهم في الدنيا، يخبر أن ذلك كله منقطع في الآخرة لهول ذلك اليوم واشتغال كل بنفسه حتى لا ينفع أحد صاحبه، وخاصة ما ذكر من الولد لوالده والوالد لولده مما لا يحتمل قلب واحد منهما، أن يلحق المكروه بالآخر، ولا يصبر ألا يدفع ذلك عنه بكل ما به وسعه وطاقته للشفقة والمحبة التي جعلت فيهم.
ثم أخبر ألا ينفع أحدهما صاحبه لاشتغاله بنفسه. وعلى ذلك روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه قال: (كل نسب وسبب فهو منقطع إلا نسبي وسببي) [بنحوه أحمد 4/323] ونسبه دينه الذي دعانا إليه، وعلمناه، وسببه شفاعته يوم القيامة. فذلك كله منقطع إلا هذين فإنه من تمسك بدينه فإنه يشفع له يوم القيامة في ما قصّر، وفرّط فأما من لم يقبل دينه، ولم يجبه إلى ما دعاه، فإنه ليس له واحد من هذين من الأسباب والأنساب، منقطع كقوله: {وتقطعت بهم الأسباب} [البقرة: 166]...
وقوله تعالى: {إن وعد الله حق} في ما ذكر من الإياس وقطع طمع بعضهم عن بعض... أو في الثواب والعقاب.
{ولا يغرنكم بالله الغرور} الغرور: الشيطان لا يغرنكم...
الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :
{لاَّ يَجْزِي} لا يقضي ولا يُغني ولا يكفّر.
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
فيه ثلاثة تأويلات:... الثالث: لا يحمل والد عن ولده.
{ {فَلاَ تَغُرَّنَّكُمْ الحَيَاةُ الدُّنْيَا} يحتمل وجهين: أحدهما: لا يغرنكم الإمهال عن الانتقام. الثاني: لا يغرنكم المال عن الإسلام.
{وَلاَ يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ} وهي تقرأ على وجهين: أحدهما: بالضم. الثاني: بالفتح وهي قراءة الجمهور. ففي تأويلها بالضم وجهان: أحدهما: غرور الدنيا بخدعها الباطلة، قاله الكلبي. الثاني: غرور النفس بشهواتها الموبقة وهو محتمل. وفي تأويلها بالفتح وجهان:... الثاني: الأمل وهو تمني المغفرة في عمل المعصية ويحتمل ثالثاً: أن تخفي على الله ما أسررت من المعاصي.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
و {الغرور} التطميع بما لا يتحصل، وقال هو الأمل والتسويف.
لما ذكر الدلائل من أول السورة إلى آخرها وعظ بالتقوى لأنه تعالى لما كان واحدا أوجب التقوى البالغة فإن من يعلم أن الأمر بيد اثنين لا يخاف أحدهما مثل ما يخاف لو كان الأمر بيد أحدهما لا غير، ثم أكد الخوف بذكر اليوم الذي يحكم الله فيه بين العباد، وذلك لأن الملك إذا كان واحدا ويعهد منه أنه لا يعلم شيئا ولا يستعرض عباده، لا يخاف منه مثل ما يخاف إذا علم أن له يوم استعراض واستكشاف.
ثم أكده بقوله: {لا يجزى والد عن ولده} وذلك لأن المجرم إذا علم أن له عند الملك من يتكلم في حقه ويقضي ما يخرج عليه برفد من كسبه لا يخاف مثل ما يخاف إذا علم أنه ليس له من يقضي عنه ما يخرج عليه.
ثم ذكر شخصين في غاية الشفقة والمحبة وهما الوالد والولد ليستدل بالأدنى على الأعلى...
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
... {ولا مولود هو جاز عن والده شيئاً}...السبب في مجيئه هذا السنن أن الخطاب للمؤمنين، وغالبهم قبض آباؤهم على الكفر وعلى الدين الجاهلي، فأريد حسم أطماعهم وأطماع الناس أن ينفعوا آباءهم في الآخرة، وأن يشفعوا لهم، وأن يغنوا عنهم من الله شيئاً، فلذلك جيء به على الطريق الأوكد.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وبمناسبة هول البحر وخطره الذي يعري النفوس من غرور القوة والعلم والقدرة، ويسقط عنها هذه الحواجز الباطلة، ويقفها وجها لوجه أمام منطق الفطرة. بمناسبة هذا الهول يذكرهم بالهول الأكبر، الذي يبدو هول البحر في ظله صغيرا هزيلا. هول اليوم الذي يقطع أواصر الرحم والنسب، ويشغل الوالد عن الولد، ويحول بين المولود والوالد، وتقف كل نفس فيه وحيدة فريدة، مجردة من كل عون ومن كل سند، موحشة من كل قربى ومن كل وشيجة، إن الهول هنا هول نفسي، يقاس بمداه في المشاعر والقلوب. وما تتقطع أواصر القربى والدم، ووشائج الرحم والنسب بين الوالد ومن ولد، وبين المولود والوالد. وما يستقل كل بشأنه، فلا يجزى أحد عن أحد، ولا ينفع أحدا إلا عمله وكسبه. ما يكون هذا كله إلا لهول لا نظير له في مألوف الناس.. فالدعوة هنا إلى تقوى الله تجيء في موضعها الذي فيه تستجاب؛ وقضية الآخرة تعرض في ظلال هذا الهول الغامر فتسمع لها القلوب. (فلا تغرنكم الحياة الدنيا).. وما فيها من متاع ولهو ومشغلة؛ فهي مهلة محدودة وهي ابتلاء واستحقاق للجزاء. (ولا يغرنكم بالله الغرور).. من متاع يلهي، أو شغل ينسي، أو شيطان يوسوس في الصدور. والشياطين كثير. الغرور بالمال شيطان. والغرور بالعلم شيطان. والغرور بالعمر شيطان. والغرور بالقوة شيطان. والغرور بالسلطان شيطان. ودفعة الهوى شيطان. ونزوة الشهوة شيطان. وتقوى الله وتصور الآخرة هما العاصم من كل غرور!
خطاب الحق سبحانه لعباده بيأيها الناس يدل على أنه تعالى يريد أن يسعدهم جميعا في الآخرة، فالخطاب هنا عام للناس جميعا مؤمنهم وكافرهم، الله تعالى يريد أن يدخلهم جميعا حيز الإيمان والطاعة، ويريد أن يعطيهم ويمن عليهم ويعينهم، وكأنه سبحانه يقول لهم: لا أريد لكم نعم الدنيا فحسب، إنما أريد أن أعطيكم أيضا نعيم الآخرة.