وكذبوا بالآيات وبشهادتها . كذبوا اتباعا لأهوائهم لا استنادا إلى حجة ، ولا ارتكانا إلى دليل ، ولا تدبرا للحق الثابت المستقر في كل ما حولهم في هذا الوجود . .
( وكل أمر مستقر ) . . فكل شيء في موضعه في هذا الوجود الكبير . وكل أمر في مكانه الثابت الذي لا يتزعزع ولا يضطرب . فأمر هذا الكون يقوم على الثبات والاستقرار ، لا على الهوى المتقلب ، والمزاج المتغير ؛ أو المصادفة العابرة والارتجال العارض . . كل شيء في موضعه وفي زمانه ، وكل أمر في مكانه وفي إبانه . والاستقرار يحكم كل شيء من حولهم ، ويتجلى في كل شيء : في دورة الأفلاك ، وفي سنن الحياة . وفي أطوار النبات والحيوان . وفي الظواهر الثابتة للأشياء والمواد . لا بل في انتظام وظائف أجسامهم وأعضائهم التي لا سلطان لهم عليها . والتي لا تخضع للأهواء ! وبينما هذا الاستقرار يحيط بهم ويسيطر على كل شيء من حولهم ، ويتجلى في كل أمر من بين أيديهم ومن خلفهم . . إذ هم وحدهم مضطربون تتجاذبهم الأهواء !
القول في تأويل قوله تعالى : { وَكَذّبُواْ وَاتّبَعُوَاْ أَهْوَآءَهُمْ وَكُلّ أَمْرٍ مّسْتَقِرّ * وَلَقَدْ جَآءَهُم مّنَ الأنبَآءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ * حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِي النّذُرُ } .
يقول تعالى ذكره : وكذّب هؤلاء المشركون من قريش بآيات الله بعد ما أتتهم حقيقتها ، وعاينوا الدلالة على صحتها برؤيتهم القمر منفلقا فلقتين وَاتّبَعُوا أهْوَاءَهُم يقول : وآثروا اتباع ما دعتهم إليه أهواء أنفسهم من تكذيب ذلك على التصديق بما قد أيقنوا صحته من نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم ، وحقيقة ما جاءهم به من ربهم .
وقوله : وكُلّ أمْرٍ مُسْتَقِرّ يقول تعالى ذكره : وكلّ أمر من خير أو شرّ مستقرّ قراره ، ومتناه نهايته ، فالخير مستقرّ بأهله في الجنة ، والشرّ مستقرّ بأهله في النار . كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وكُلّ أمْرٍ مُسْتَقِرّ : أي بأهل الخير الخير ، وبأهل الشرّ الشرّ .
{ وكذبوا واتبعوا أهواءهم } وهو ما زين لهم الشيطان من رد الحق بعد ظهوره ، وذكرهما بلفظ الماضي للإشعار بأنهما من عادتهم القديمة . { وكل أمر مستقر } منته إلى غاية من خذلان أو نصر في الدنيا وشقاوة ، أو سعادة في الآخرة فإن الشيء إذا انتهى إلى غايته ثبت واستقر ، وقرئ بالفتح أي ذو مستقر بمعنى استقرار وبالكسر والجر على أنه صفة أمر ، وكل معطوف على الساعة .
{ وَكَذَّبُواْ واتبعوا أَهْوَآءَهُمْ } .
هذا إخبار عن حالهم فيما مضى بعد أن أخبر عن حالهم في المستقبل بالشرط الذي في قوله : { وإن يروا آية يعرضوا } [ القمر : 2 ] . ومقابلة ذلك بهذا فيه شبه احتباك كأنه قيل : وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا : سحر ، وقد رأوا الآيات وأعرضوا وقالوا : سحر مستمر ، وكذبوا واتبعوا أهوائهم وسيكذبون ويتبعون أهواءهم .
وعَطْف { واتبعوا أهواءهم } عطفُ العلة على المعلول لأن تكذيبهم لا دافع لهم إليه إلا اتباعُ ما تهواه أنفسهم من بقاء حالهم على ما ألفوه وعهدوه واشتهر دوامه .
وجمع الأهواء دون أن يقول واتبعوا الهوى كما قال : { إن يتبعون إلا الظن } [ الأنعام : 116 ] ، حيث إن الهوى اسم جنس يصدق بالواحد والمتعدد ، فعدل عن الإِفراد إلى الجمع لمزاوجة ضمير الجمع المضاف إليه ، وللإِشارة إلى أن لهم أصنافاً متعددة من الأهواء : من حب الرئاسة ، ومن حسد المؤمنين على ما آتاهم الله ، ومن حب اتباع ملة آبائهم ، ومن محبة أصنامهم ، وإلففٍ لعوائدهم ، وحفاظ على أنفتهم .
{ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرّ } .
هذا تذييل للكلام السابق من قوله : { وإن يروا آية يعرضوا } إلى قوله : { أهواءهم } [ القمر : 2 ، 3 ] ، فهو اعتراض بين جملة { وكذبوا } وجملة { ولقد جاءهم من الأنباء } [ القمر : 4 ] ، والواو اعتراضية وهو جار مجرى المثل .
و { كل } من أسماء العموم . وأمر : اسم يدل على جنس عاللٍ ومثله شيء ، وموجود ، وكائن ، ويتخصص بالوصف كقوله تعالى : { وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به } [ النساء : 83 ] وقد يتخصص بالعقل أو العادة كما تخصّص شيء في قوله تعالى عن ريح عَاد { تدمّر كل شيء } [ الأحقاف : 25 ] أي من الأشياء القابلة للتدمير . وهو هنا يعم الأمور ذوات التأثير ، أي تتحقق آثار مواهِيها وتظهر خصائصها ولو اعترضتها عوارض تعطل حصول آثارها حيناً كعوارضَ مانعة من ظهور خصائصها ، أو مدافعات يراد منها إزالة نتائجها فإن المؤثرات لا تلبث أن تتغلب على تلك الموانع والمدافعات في فُرصصِ تَمكنها من ظهور الآثار والخصائص .
والكلام تمثيل شبهت حالة تردد آثار الماهية بين ظهور وخفاء إلى إبان التمكن من ظهور آثارها بحالة سير السائر إلى المكان المطلوب في مختِلف الطرق بين بُعد وقرب إلى أن يستقر في المكان المطلوب . وهي تمثيلية مكنية لأن التركيب الذي يدل على الحالة المشبه بها حُذِف ورمز إليه بذكر شيء من روادف معناه وهو وصف مستقر .
ومن هذا المعنى قوله تعالى : { لكل نبإ مستقر وسوف تعلمون } [ الأنعام : 67 ] وقد أخذه الكميّت بن زيد في قوله :
فالآن صِرت إلى أمي *** ةَ والأمورُ إلى مصائر
فالمراد بالاستقرار الذي في قوله : { مستقر } الاستقرار في الدنيا .
وفي هذا تعريض بالإِيماء إيماء إلى أن أمر دعوة محمد صلى الله عليه وسلم سيرسخ ويستقر بعد تقلقله .
ومستقِر : بكسر القاف اسم فاعل من استقر ، أي قَرّ ، والسين والتاء للمبالغة مثل السين والتاء في استجاب .
وقرأ الجمهور برفع الراء من { مستقر } . وقرأه أبو جعفر بخفض الراء على جعل { كل أمر } عطفاً على { الساعة } [ القمر : 1 ] . والتقدير : واقترب كل أمر . وجَعل { مستقر } صِفة { أمر } .
والمعنى : أن إعراضهم عن الآيات وافتراءهم عليها بأنها سحر ونحوه وتكذيبهم الصادق وتمالؤهم على ذلك لا يوهن وقعها في النفوس ولا يعوق إنتاجها . فأمر النبي صلى الله عليه وسلم صائر إلى مصير أمثاله الحق من الانتصار والتمام واقتناع الناس به وتزايد أتباعه ، وأن اتباعهم أهواءهم واختلاق معاذيرهم صائر إلى مصير أمثاله الباطلة من الانخذال والافتضاح وانتقاص الأَتباع .
وقد تضمن هذا التذييل بإجماله تسلية للنبيء صلى الله عليه وسلم وتهديداً للمشركين واستدعاء لنظر المترددين .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.