القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالاَخِرَةِ حِجَاباً مّسْتُوراً } .
يقول تعالى ذكره : وإذا قرأت يا محمد القرآن على هؤلاء المشركين الذين لا يصدّقون بالبعث ، ولا يقرّون بالثواب والعقاب ، جعلنا بينك وبينهم حجابا ، يحجب قلوبهم عن أن يفهموا ما تقرؤه عليهم ، فينتفعوا به ، عقوبة منا لهم على كفرهم . والحجاب ههنا : هو الساتر ، كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَإذَا قَرأتَ القُرآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وبينَ الّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بالاَخرة حِجابا مَسْتُورا الحجاب المستور أكنة على قلوبهم أن يفقهوه وأن ينتفعوا به ، أطاعوا الشيطان فاستحوذ عليهم .
حدثنا محمد ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة حِجابا مَسْتُورا قال : هي الأكنة .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَإذَا قَرأتَ القُرآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وبينَ الّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بالاَخِرَةِ حِجابا مَسْتُورا قال : قال أُبيّ : لا يفقهونه ، وقرأ قُلُوبُهُمْ فِي أكِنّةٍ وفِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ لا يخلص ذلك إليهم .
وكان بعض نحوييّ أهل البصرة يقول : معنى قوله حِجابا مَسْتُورا حِجابا ساترا ، ولكنه أخرج وهو فاعل في لفظ المفعول ، كما يقال : إنك مشئوم علينا وميمون ، وإنما هو شائم ويامن ، لأنه من شأمهم ويمنهم . قال : والحجاب ههنا : هو الساتر . وقال : مستورا . وكان غيره من أهل العربية يقول : معنى ذلك : حجابا مستورا عن العباد فلا يرونه .
وهذا القول الثاني أظهر بمعنى الكلام أن يكون المستور هو الحجاب ، فيكون معناه : أن لله سترا عن أبصار الناس فلا تدركه أبصارهم ، وإن كان للقول الأوّل وجه مفهوم .
{ وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجاباً } يجبهم عن فهم ما تقرؤه عليهم . { مستوراً } ذا ستر كقوله تعالى : { وعده مأتيا } وقولهم سيل مفعم ، أو مستورا عن الحس ، أو بحجاب آخر لا يفهمون ولا يفهمون أنهم لا يفهمون نفي عنهم أن يفهموا ما أنزل عليهم من الآيات بعدما نفى عنهم التفقه للدلالات المنصوبة في الأنفس والآفاق تقريرا له وبيانا لكونهم مطبوعين على الضلالة كما صرح به بقوله :
هذه الآية تحتمل معنيين : أحدهما أن الله تعالى أخبر نبيه أنه يحميه من الكفرة أهل مكة الذي كانوا يؤذونه في وقت قراءته القرآن وصلاته في المسجد ويريدون مد اليد إليه ، وأحوالهم في هذا المعنى مشهورة مروية ، والمعنى الآخر أنه أعلمه أنه يجعل بين الكفرة وبين فهم ما يقرأه محمد عليه السلام حجاباً ، فالآية على هذا التأويل في معنى التي بعدها ، وعلى التأويل الأول هما آيتان لمعنيين ، وقوله { مستوراً } أظهر ما فيه أن يكون نعتاً للحجاب ، أي مستوراً عن أعين الخلق لا يدركه أحد برؤية كسائر الحجب ، وإنما هو من قدرة الله وكفايته وإضلاله بحسب التأويلين المذكورين ، وقيل التقدير مستوراً به على حذف العائد وقال الأخفش { مستوراً } بمعنى ساتر كمشؤوم وميمون فإنهما بمعنى شائم ويامن .
قال القاضي أبو محمد : وهذا لغير داعية إليه ، تكلف ، وليس مثاله بمسلم ، وقيل هو على جهة المبالغة كما قالوا شعر شاعر ، وهذا معترض بأن المبالغة أبداً إنما تكون باسم الفاعل ومن اللفظ الأول ، فلو قال حجاباً حاجباً لكان التنظير صحيحاً .
عطف جملة على جملة وقصة على قصة ، فإنه لما نوّه بالقرآن في قوله : { إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم } [ الإسراء : 9 ] ، ثم أعقب بما اقتضاه السياق من الإشارة إلى ما جاء به القرآن من أصول العقيدة وجوامع الأعمال وما تخلل ذلك من المواعظ والعبر عاد هنا إلى التنبيه على عدم انتفاع المشركين بهدي القرآن لمناسبة الإخبار عن عدم فقههم دلالةَ الكائنات على تنزيه الله تعالى عن النقائص ، وتنبيهاً للمشركين على وجوب إقلاعهم عن بعثتهم وعنادهم ، وتأميناً للنبيء من مكرهم به وإضمارهم إضراره ، وقد كانت قراءته القرآن تغيظهم وتثير في نفوسهم الانتقام .
وحقيقة الحجاب : الساتر الذي يحجب البصر عن رؤية ما وراءه . وهو هنا مستعار للصرفة التي يصرف الله بها أعداء النبي عليه الصلاة والسلام عن الإضرار به للإعراض الذي يعرضون به عن استماع القرآن وفهمه . وجعل الله الحجاب المذكور إيجادَ ذلك الصارف في نفوسهم بحيث يهمون ولا يفعلون ، وذلك من خور الإرادة والعزيمة بحيث يخطر الخاطر في نفوسهم ثم لا يصممون ، وتخطر معاني القرآن في أسماعهم ثم لا يتفهمون . وذلك خلق يسري إلى النفوس تديجياً تغرسه في النفوس بادىءَ الأمر شهوةُ الإعراض وكراهية المسموع منه ثم لا يلبث أن يصير ملكة في النفس لا تقدر على خلعه ولا تغييره .
وإطلاق الحجاب على ما يصلح للمعنيين إما للحمل على حقيقة اللفظ ، وإما للحمل على ما له نظير في القرآن . وقد جاء في الآية الأخرى { ومن بيننا وبينك حجاب } [ فصلت : 5 ] .
ولما كان إنكارهم البعث هو الأصل الذي استبعدوا به دعوة النبي حتى زعموا أنه يقول محالاً إذ يخبر بإعادة الخلق بعد الموت { وقال الذين كفروا هل ندلكم على رجل ينبئكم إذا مُزّقتم كل ممزق إنكم لفي خَلْق جديد أفترى على الله كذباً أم به جنة } [ سبأ : 7 - 8 ] استحضروا في هذا الكلام بطريق الموصولة لما في الصلة من الإيماء إلى علة جَعل ذلك الحجاب بينه وبينهم فلذلك قال : وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة } .
ووصف الحجاب بالمستور مبالغة في حقيقة جنسه ، أي حجاباً بالغاً الغاية في حجب ما يحجبه هو حتى كأنه مستور بساتر آخر ، فذلك في قوة أن يقال : جعلنا حجاباً فوق حجاب . ونظيره قوله تعالى : { ويقولون حجراً محجورا } [ الفرقان : 22 ] .
أو أريد أنه حجاب من غير جنس الحجب المعروفة فهو حجاب لا تراه الأعين ولكنها ترى آثار أمثاله . وقد ثبت في أخبار كثيرة أن نفراً هموا الإضرار بالنبي فما منهم إلا وقد حدَث له ما حال بينه وبين همه وكفى الله نبيئه شرهم ، قال تعالى : { فسيكفيكهم الله } [ البقرة : 137 ] وهي معروفة في أخبار السيرة .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.