واللمسة الثانية في هذا المشهد الأول ، هي حركة الضعف والفشل التي راودت قلوب طائفتين من المسلمين ؛ بعد تلك الحركة الخائنة التي قام بها رأس النفاق " عبد الله بن أبي بن سلول " حين انفصل بثلث الجيش ، مغضبا أن الرسول [ ص ] لم يأخذ برأيه ، واستمع إلى شباب أهل المدينة ! وقال : ( لو نعلم قتالا لاتبعناكم ! )فدل بهذا على أن قلبه لم يخلص للعقيدة ؛ وأن شخصه ما يزال يملأ قلبه ، ويطغى في ذلك القلب على العقيدة . . العقيدة التي لا تحتمل شركة في قلب صاحبها ، ولا تطيق لها فيه شريكا ! فإما أن يخلص لها وحدها ، وإما أن تجانبه هي وتجتويه !
( إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا ، والله وليهما ، وعلى الله فليتوكل المؤمنون ) . .
وهاتان الطائفتان - كما ورد في الصحيح - من حديث سفيان بن عيينة - هما بنو حارثة وبنو سلمة . أثرت فيهما حركة عبد الله بن أبي ، وما أحدثته من رجة في الصف المسلم ، من أول خطوة في المعركة . فكادتا تفشلان وتضعفان . لولا أن أدركتهما ولاية الله وتثبيته ، كما أخبر هذا النص القرآني :
قال عمر - رضي الله عنه - سمعت جابر بن عبد الله يقول : فينا نزلت : ( إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا ) . . قال : نحن الطائفتان . . بنو حارثة وبنو سلمة . . وما نحب [ أو وما يسرني ] أنها لم تنزل ، لقوله تعالى : ( والله وليهما ) . . [ رواه البخاري ومسلم ] . .
وهكذا يكشف الله المخبوء في مكنونات الضمائر ؛ والذي لم يعلمه إلا أهله ، حين حاك في صدورهم لحظة ؛ ثم وقاهم الله إياه ، وصرفه عنهم ، وأيدهم بولايته ، فمضوا في الصف . . يكشفه لاستعادة أحداث المعركة ، واستحياء وقائعها ومشاهدها . ثم . . لتصوير خلجات النفوس ، وإشعار أهلها حضور الله معهم ، وعلمه بمكنونات ضمائرهم - كما قال لهم : ( والله سميع عليم )- لتوكيد هذه الحقيقة وتعميقها في حسهم . ثم لتعريفهم كيف كانت النجاة ؛ وإشعارهم عون الله وولايته ورعايته حين يدركهم الضعف ، ويدب فيهم الفشل ، ليعرفوا أين يتوجهون حين يستشعرون شيئا من هذا وأين يلتجئون . ومن ثم يوجههم هذا الوجه الذي لا وجه غيره للمؤمنين :
( وعلى الله فليتوكل المؤمنون ) . .
على وجه القصر والحصر . . على الله وحده فليتوكل المؤمنون . فليس لهم - إن كانوا مؤمنين - إلا هذا السند المتين .
وهكذا نجد في الآيتين الأوليين ، اللتين يستحضر بهما القرآن مشهد المعركة وجوها ، هذين التوجيهين الكبيرين الأساسيين في التصور الإسلامي ، وفي التربية الإسلامية :
( وعلى الله فليتوكل المؤمنون ) . .
نجدهما في أوانهما المناسب ، وفي جوهما المناسب ؛ حيث يلقيان كل إيقاعاتهما ، وكل إيحاءاتهما ، في الموعد المناسب ؛ وقد تهيأت القلوب للتلقي والاستجابة والانطباع . . ويتبين - من هذين النصين التمهيديين - كيف يتولى القرآن استحياء القلوب وتوجيهها وتربيتها ؛ بالتعقيب على الأحداث ، وهي ساخنة ! ويتبين الفرق بين رواية القرآن للأحداث وتوجيهها ، وبين سائر المصادر التي قد تروي الأحداث بتفصيل أكثر ؛ ولكنها لا تستهدف القلب البشري ، والحياة البشرية ، بالإحياء والاستجاشة ، وبالتربية والتوجيه . كما يستهدفها القرآن الكريم ، بمنهجه القويم .
{ إِذْ هَمّتْ طّآئِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ وَاللّهُ وَلِيّهُمَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكّلِ الْمُؤْمِنُونَ }
يعني بذلك جلّ ثناؤه : والله سميع عليم حين همّت طائفتان منكم أن تفشلا . والطائفتان اللتان همتا بالفشل ذكر لنا أنهم بنو سَلِمة وبنو حارثة . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : { إذْ هَمّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أنْ تَفْشَلا } قال : بَنو حارثة كانوا نحو أحد ، وبنو سلمة نحو سلع ، وذلك يوم الخندق .
قال أبو جعفر : وقد دللنا على أن ذلك كان يوم أحد فيما مضى بما فيه الكفاية عن إعادته .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { إذْ هَمّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا } . . . الاَية ، وذلك يوم أحد ، والطائفتان : بنو سلمة ، وبنو حارثة ، حيان من الأنصار ، همّوا بأمر ، فعصمهم الله من ذلك . قال قتادة : وقد ذكر لنا أنه لما أنزلت هذه الاَية قالوا : ما يسرّنا أنا لم نهم بالذي هممنا به ، وقد أخبرنا الله أنه ولينا .
حُدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، قوله : { إذْ هَمّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ } . . . الاَية ، وذلك يوم أحد ، فالطائفتان : بنو سلمة ، وبنو حارثة ، حيان من الأنصار ، فذكر مثل قول قتادة .
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي ، قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أحد في ألف رجل ، وقد وعدهم الفتح إن صبروا¹ فلما رجع عبد الله بن أبيّ ابن سلول في ثلثمائة ، فتبعهم أبو جابر السلمي يدعوهم ، فلما غلبوه وقالوا له : ما نعمل قتالاً ، ولئن أطعتنا لترجعنّ معنا ، وقال : { إذْ هَمّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أنْ تَفْشَلا } وهم بنو سلمة ، وبنو حارثة ، هموا بالرجوع حين رجع عبد الله بن أبيّ ، فعصمهم الله ، وبقي رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبعمائة .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال عكرة : نزلت في بني سلمة من الخزرج ، وبنى حارثة من الأوس ، ورأسهم عبد الله بن أبيّ ابن سلول .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : { إذْ هَمّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أنْ تَفْشَلا } فهو بنو حارثة وبنو سلمة .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : { إذْ هَمّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أنْ تَفْشلا } والطائفتان : بنو سلمة من جشم بن الخزرج ، وبنو حارثة بن النبيت من الأوس ، وهما الجناحان .
حدثني محمد بن سنان ، قال : حدثنا أبو بكر الحنفي ، عن عباد ، عن الحسن في قوله : { إذْ هَمّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أنْ تَفْشَلا } . . . الاَية ، قال : هما طائفتان من الأنصار همّا أن يفشلا ، فعصمهم الله ، وهزم عدوّهم .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا ابن عيينة ، عن عمرو بن دينار ، قال : سمعت جابر بن عبد الله يقول : { إذْ هَمّتْ طائِفَتانِ منكم أنْ تَفْشلاَ } قال : هم بنو سلمة ، وبنو حارثة وما نحبّ أن لو لم تكن همتا لقول الله عزّ وجلّ : { وَاللّهُ وَلِيّهُما } .
حدثني أحمد بن حازم ، قال : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا ابن عيينة ، عن عمرو ، قال : سمعت جابر بن عبد الله يقول ، فذكر نحوه .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : { إذْ هَمّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أنْ تَفْشلا } قال : هذا يوم أحد .
وأما قوله { أنْ تَفْشَلا } فإنه يعني : همّا أن يضعفا ويجبنا عن لقاء عدوّهما ، يقال منه : فشل فلان عن لقاء عدوّه يفشل فشلاً . كما :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس : الفشل : الجبن .
وكان همهما الذي همّا به من الفشل : الانصراف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين حين انصرف عنهم عبد الله بن أبيّ بن سلول ابن معه ، جبنا منهم ، من غير شكّ منهم في الإسلام ولا نفاق¹ فعصمهم الله مما هموا به من ذلك ، ومضوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لوجهه الذي مضى له ، وتركوا عبد الله بن أبيّ ابن سلول والمنافقين معه ، فأثنى الله عزّ وجلّ عليهما بثبوتهما على الحقّ ، وأخبر أنه وليهما وناصرهما على أعدائهما من الكفار . كما :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : { وَاللّهُ وَلِيّهُما } : أي الدافع عنهما ما هما به من فشلهما ، وذلك أنه إنما كان ذلك منهما عن ضعف ووهن أصابهما من غير شكّ أصابهما في دينهما ، فتولى دفع ذلك عنهما برحمته وعائدته ، حتى سلمتا من وهنهما وضعفهما ، ولحقتا بنبيهما صلى الله عليه وسلم¹ يقول : { وَعَلى اللّهِ فَلْيَتَوَكّلِ المُؤْمِنُونَ } أي من كان به ضعف من المؤمنين أو وهن فليتوكل عليّ ، وليستعن بي ، أعنه على أمره ، وأدفع عنه ، حتى أبلغ به وأقوّيه على نيته .
وذكر أن ابن مسعود رضي الله عنه كان يقرأ : «وَاللّهُ وَلِيّهُمْ » . وإنما جاز أن يقرأ ذلك كذلك ، لأن الطائفتين وإن كانتا في لفظ اثنين ، فإنهما في معنى جماع بمنزلة الخصمين والحزبين .
{ إذ همت } متعلق بقوله : { سميع عليم } أو بدل من إذ غدوت . { طائفتان منكم } بنو سلمة من الخزرج ، وبنو حارثة من الأوس وكانا جناحي العسكر . { أن تفشلا } أن تجبنا وتضعفا . روي ( أنه عليه الصلاة والسلام خرج في زهاء ألف رجل ووعد لهم النصر إن صبروا ، فلما بلغوا الشوط انخذل ابن أبي في ثلاثمائة رجل وقال : علام نقتل أنفسنا وأولادنا ، فتبعهم عمرو بن حزم الأنصاري وقال : أنشدكم الله والإسلام في نبيكم وأنفسكم . فقال ابن أبي لو نعلم قتالا لاتبعناكم ، فهم الحيان باتباعه فعصمهم الله فمضوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ) . والظاهر أنها ما كانت عزيمة لقوله تعالى : { والله وليهما } أي عاصمهما من اتباع تلك الخطرة ، ويجوز أن يراد الله ناصرهما فما لهما يفشلان ولا يتوكلان على الله . { وعلى الله فليتوكل المؤمنون } أي فليتوكلوا عليه ولا يتوكلوا على غيره لينصرهم كما نصرهم ببدر .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يعني بذلك جلّ ثناؤه: والله سميع عليم حين همّت طائفتان منكم أن تفشلا. والطائفتان اللتان همتا بالفشل ذكر لنا أنهم بنو سَلِمة وبنو حارثة... قال أبو جعفر: وقد دللنا على أن ذلك كان يوم أحد فيما مضى بما فيه الكفاية عن إعادته...
وأما قوله {أنْ تَفْشَلا} فإنه يعني: همّا أن يضعفا ويجبنا عن لقاء عدوّهما، يقال منه: فشل فلان عن لقاء عدوّه يفشل فشلاً... وكان همهما الذي همّا به من الفشل: الانصراف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين حين انصرف عنهم عبد الله بن أبيّ بن سلول ابن معه، جبنا منهم، من غير شكّ منهم في الإسلام ولا نفاق، فعصمهم الله مما هموا به من ذلك، ومضوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لوجهه الذي مضى له، وتركوا عبد الله بن أبيّ ابن سلول والمنافقين معه، فأثنى الله عزّ وجلّ عليهما بثبوتهما على الحقّ، وأخبر أنه وليهما وناصرهما على أعدائهما من الكفار...يقول: {وَعَلى اللّهِ فَلْيَتَوَكّلِ المُؤْمِنُونَ} أي من كان به ضعف من المؤمنين أو وهن فليتوكل عليّ، وليستعن بي، أعنه على أمره، وأدفع عنه، حتى أبلغ به وأقوّيه على نيته...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
قوله تعالى: {إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا} قوله: {همت} [يحتمل إذ هموا هم خطر، ويحتمل إذ هموا هم عزم، وكذلك هذا التأويل في قوله: {لقد همت به وهم بها} [يوسف: 24] همت هي به، هم عزم، وهم بها هم خطر، وهم الخطر يقع من غير صنع من صاحبه، وهم العزم يكون بالعزيمة والقصد. وقوله تعالى: {أن تفشلا} والفشل ليس مما ينهى عنه لأنه يقع من غير فعله، لكنه، والله أعلم، هموا أن يفعلوا فعل الفشل؛ وذكر في القصة أن الطائفتين أحدهما من بني كذا والأخرى من بني كذا، فلا يجب أن يذكروا إلا أن يقروا هم بذلك، وكانوا يقولون: نحن كنا فعلنا، وما يجب إلا أن نكون في قوله: {والله وليهما} ظهر لنا ولاية الله، ولو لم يكن لم يظهر. وقوله تعالى: {والله وليهما} قد ذكرنا هذا في غير موضع، أن الولي، قيل: هو الناصر، وقيل: هو الحافظ، وقيل: إنه أولى بهم... المؤمن يعلم علم اليقين أن من نصره الله لا يغلبه شيء، ومن يخذله الله لا ينصره شيء. وقوله تعالى: {وعلى الله فليتوكل المؤمنون} [حق على المؤمنين ألا يتوكلوا إلا على الله جلا وعلا... توكل أي اعتمد على ما وعد، واجتهد في الوفاء بما عهد، وفوض كل أمره إلى الله إذ علم أنه بكليته لله، وإليه مرجعه، وبهذه الجملة عهد أن ينصر دينه، ويولي عدوه دبره، والله أعلم...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
يُبْرِزُ الجميعَ في صدار الاختيار؛ كأنَّ الأمر إليهم في نفيهم وإتيانهم، وفعلهم وتركهم، وفي الحقيقة لا يتقلبون إلا بتصريف القبضة، وتقليب القدرة...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
... عن ابن عباس رضي الله عنه: أضمروا أن يرجعوا، فعزم الله لهم على الرشد فثبتوا. والظاهر أنها ما كانت إلا همة وحديث نفس، وكما لا تخلو النفس عند الشدة من بعض الهلع، ثم يردها صاحبها إلى الثبات والصبر ويوطنها على احتمال المكروه... ولو كانت عزيمة لما ثبتت معها الولاية، والله تعالى يقول: {والله وَلِيُّهُمَا} ويجوز أن يراد: والله ناصرهما ومتولي أمرهما، فما لهما تفشلان ولا تتوكلان على الله فإن قلت، فما معنى ما روي من قول بعضهم عند نزول الآية:"والله ما يَسُرُّنا أنا لم نهم بالذي هممنا به وقد أخبرنا الله بأنه ولينا" ؟ قلت: معنى ذلك فرط الاستبشار بما حصل لهم من الشرف بثناء الله وإنزاله فيهم آية ناطقة بصحة الولاية، وأن تلك الهمة غير المأخوذ بها لأنها لم تكن عن عزيمة وتصميم كانت سبباً لنزولهما. والفشل: الجبن والخور...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
قوله: {وعلى الله فليتوكل المؤمنون} أمر في ضمنه التغبيط للمؤمنين بمثل ما فعله بنو حارثة وبنو سلمة من المسير مع النبي صلى الله عليه وسلم...
إن قيل: الهم بالشيء هو العزم، فظاهر الآية يدل على أن الطائفتين عزمتا على الفشل والترك وذلك معصية فكيف بهما أن يقال والله وليهما؟. والجواب: الهم قد يراد به العزم، وقد يراد به الفكر، وقد يراد به حديث النفس، وقد يراد به ما يظهر من القول الدال على قوة العدو وكثرة عدده ووفور عدده، لأن أي شيء ظهر من هذا الجنس صح أن يوصف من ظهر ذلك منه بأنه هم بأن يفشل من حيث ظهر منه ما يوجب ضعف القلب، فكان قوله {إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا} لا يدل على أن معصية وقعت منهما، وأيضا فبتقدير أن يقال: إن ذلك معصية لكنها من باب الصغائر لا من باب الكبائر، بدليل قوله تعالى: {والله وليهما} فإن ذلك الهم لو كان من باب الكبائر لما بقيت ولاية الله لهما...
الأول: أن المراد منه بيان أن ذلك الهم ما أخرجهما عن ولاية الله تعالى.
الثاني: كأنه قيل: الله تعالى ناصرهما ومتولي أمرهما فكيف يليق بهما هذا الفشل وترك التوكل على الله تعالى؟
الثالث: فيه تنبيه على أن ذلك الفشل إنما لم يدخل في الوجود لأن الله تعالى وليهما فأمدهما بالتوفيق والعصمة، والغرض منه بيان أنه لولا توفيقه سبحانه وتسديده لما تخلص أحد عن ظلمات المعاصي، ويدل على صحة هذا التأويل قوله تعالى بعده هذه الآية {وعلى الله فليتوكل المؤمنون}...
ثم قال: {وعلى الله فليتوكل المؤمنون} التوكل: تفعل، من وكل أمره إلى فلان إذا اعتمد فيه كفايته عليه ولم يتوله بنفسه، وفي الآية إشارة إلى أنه ينبغي أن يدفع الإنسان ما يعرض له من مكروه وآفة بالتوكل على الله، وأن يصرف الجزع عن نفسه بذلك التوكل.
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
أمرهم بالتوكل عليه، وقدم المجرور للاعتناء بمن يتوكل عليه، أو للاختصاص على مذهب من يرى ذلك. ونبّه على الوصف الذي يقتضي ذلك وهو الإيمان، لأنَّ مَنْ آمن بالله خير أن لا يكون اتكاله إلا عليه، ولذلك قال: {وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين} وأتى به عاماً لتندرج الطائفتان الهامّتان وغيرهم في هذا الأمر، وأن متعلقة من قام به الإيمان...
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
قوله: {إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} قال البخاري: حدثنا عليّ بنُ عبد الله، حدثنا سفيان قال: قال عَمْرو: سمعت جابر بن عبد الله يقول: فينا نزلت: {إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} قال: نحن الطائفتان بنو حارثَة وبنو سَلَمة، وما نحِب -وقال سفيان مرة: وما يسرنِي- أنَّها لم تَنزلْ، لقول الله تعالى: {وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا}. وكذا رواه مسلم من حديث سفيان بن عيينة به. وكذا قال غيرُ واحد من السَّلَف: إنهم بنو حارثة وبنو سلمةَ.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{إذا همت طائفتان} وكانا جناحي العسكر {منكم} أي بنو سلمة من الخزرج وبنو حارثة من الأوس {أن تفشلا} أي تكسلاً وتراخياً وتضعفاً وتجبناً لرجوع المنافقين عن نصرهم وولايتهم فترجعا، كما رجع المنافقون {والله} أي والحال أن ذا الجلال والإكرام {وليهما} وناصرهما لأنهما مؤمنتان فلا يتأتى وقوع الفشل وتحققه منهما لذلك، فليتوكلا عليه وحده لإيمانهما، أو يكون التقدير: فالعجب منهما كيف تعتمدان على غيره سبحانه وتعالى لتضعفا بخذلانه {و} الحال أنه {على الله} أي الذي له الكمال كله وحده {فليتوكل المؤمنون} أي الذين صار الإيمان صفة لهم ثابتة، أجمعون لينصرهم، لا على كثرة عدد ولا قوة جلد، والأحسن تنزيل الآية على الاحتباك ويكون أصل نظمها: والله وليهما لتوكلهما وإيمانهما فلم يمكن الفشل منهما، فتولوا الله وتوكلوا عليه ليصونكم من الوهن، وعلى الله فليتوكل المؤمنون كلهم ليفعل بهم ذلك، فالأمر بالتوكل ثانياً دال على وجوده أولاً، وإثبات الولاية أولاً دال على الأمر بها ثانياً،...
روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي 1270 هـ :
حذف متعلق التوكل ليفيد العموم أي ليتوكلوا عليه عز شأنه في جميع أمورهم جليلها وحقيرها سهلها وحزنها...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
هكذا يكشف الله المخبوء في مكنونات الضمائر؛ والذي لم يعلمه إلا أهله، حين حاك في صدورهم لحظة؛ ثم وقاهم الله إياه، وصرفه عنهم، وأيدهم بولايته، فمضوا في الصف.. يكشفه لاستعادة أحداث المعركة، واستحياء وقائعها ومشاهدها. ثم.. لتصوير خلجات النفوس، وإشعار أهلها حضور الله معهم، وعلمه بمكنونات ضمائرهم -كما قال لهم: (والله سميع عليم)- لتوكيد هذه الحقيقة وتعميقها في حسهم. ثم لتعريفهم كيف كانت النجاة؛ وإشعارهم عون الله وولايته ورعايته حين يدركهم الضعف، ويدب فيهم الفشل، ليعرفوا أين يتوجهون حين يستشعرون شيئا من هذا وأين يلتجئون. ومن ثم يوجههم هذا الوجه الذي لا وجه غيره للمؤمنين: (وعلى الله فليتوكل المؤمنون).. على وجه القصر والحصر.. على الله وحده فليتوكل المؤمنون. فليس لهم -إن كانوا مؤمنين- إلا هذا السند المتين. وهكذا نجد في الآيتين الأوليين، اللتين يستحضر بهما القرآن مشهد المعركة وجوها، هذين التوجيهين الكبيرين الأساسيين في التصور الإسلامي، وفي التربية الإسلامية...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
ذكر ولاية الله تعالى في هذا المقام لسببين:
أحدهما: أن المنافقين استطاعوا أن يؤثروا في المؤمنين ذلك التأثير السيئ مع أن المؤمن يشعر دائما بولاية الله تعالى وعزته، وأنه سبحانه وتعالى ينصر من ينصره، وهو القوي العزيز، وأن هذا يوجب أن يعمل الهادي والمرشد على أن يصون نفوس المؤمنين من أن يدخل إليها شياطين الإنس من المنافقين والمخادعين.
الثاني:أن ذلك فيه معنى التوبيخ لأولئك الذين تأثرت نفوسهم بأولئك المنافقين، لأنه ما كان ينبغي لهم ان يستمعوا إلى دعاية المنافقين، أو أن يفتحوا لها بابا تدخل منه إلى قلوبهم، ولكن هكذا البشر تتسرب إلى نفوسهم وسوسة الشيطان من حيث لا يشعرون...
{وعلى الله فليتوكل المؤمنون} وإذا كان الله سبحانه وتعالى ولي المؤمنين حتى من يهم أن يضعف متأثرا بحركات المنافقين، فإنه سبحانه وتعالى هو الذي يتوكل عليه المؤمنون، والمؤمن بوصف كونه مؤمنا لا يعتمد على حليف أو نصير، وإنما يعتمد على الله تعالى وحده... والتوكل الحقيقي لا يستدعي ترك الأسباب،فإنه لا توكل إلا بعد الأخذ بالأسباب، إذ إن حقيقة التوكل الذي طالب الله تعالى به هو أنه يأخذ بالأسباب ويستعد، ثم يترك الأمور لله تعالى،فإنه قد يعرض للإنسان ما ليس في حسبانه،فعليه أن يترك تلك المنطقة الغيبية لعلام الغيوب، والدليل على أن التوكل في القرآن والسنة يستدعي اتخاذ الأسباب، أنه يجتمع مع الجهاد والمشاورة، فالله تعالى يقول: {وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله...159} [آل عمران]. وفي الآية التي نتكلم في معانيها السامية، جاء الأمر بالتوكل بعد أن أخذ النبي صلى الله عليه وسلم يبوئ المؤمنين مقاعد للقتال، ويأخذ الأهبة ويستعد، وإذا كان التوكل ترك الأسباب، فلم كان الأمر بالعمل والقتال وغيره من التكليفات التي تكون سببا لنتائج شرعية؟
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
وهناك ملاحظة... جديرة بالتأمّل، وهي أنَّ التعبير القرآني عبّر عن الانسحاب بكلمة «الفشل»، ما يوحي بأنَّ الجانب العملي من حياة المسلم يعتبر حالة فشلٍ بالنسبة إلى إيمان المؤمن. فالإيمان الذي لا يعبّر عن نفسه بالعمل في خطّ الطاعة هو إيمان فاشل، لأنَّه لم ينجح في التجربة المرّة في صراع الإنسان مع الشَّيطان. وهذه نقطة لا بُدَّ من التركيز عليها في أساليب التربية، بالإيحاء بأنَّ الإيمان يمرّ في الحياة بتجربة النجاح والفشل، كما هو الحال في كلّ قضية تستتبع المعاناة، ما يرفع من درجة استعداد المؤمن في المجاهدة من أجل الحفاظ على نجاحه في خطّ الإيمان. أمّا كلمة [واللّه وليُّهما] فتحمل في داخلها تعميق الشعور للمؤمن بالرعاية الإلهية له في حالات الضعف والزلزال النفسي الناتج عن الضغوط الصعبة المحيطة به، ما يجعله يحسُّ بالأمن والطمأنينة بحماية اللّه له في أوقات الغفلة. وربَّما كان في التعبير بكلمة «الولي» من الحنان والحميميّة ما يملأ النفس بأصفى المشاعر وأنقاها وأسماها في علاقة الإنسان باللّه... [وعلى اللّه فليتوكَّل المؤمنون] وهي دعوة للمؤمنين أن يتحرّكوا من فكرة [واللّه وليُّ المؤمنين] (آل عمران: 68) ليتوجهوا إليه في حالات الضعف، أو في الأوضاع التي يخافون أن يضعفوا أمامها مستقبلاً، فإنَّ التوكل على اللّه يمثِّل أرقى أنواع الإيمان، لأنَّه يمثِّل الاستسلام للّه من خلال الثقة المطلقة به في أوقات الشدّة والرخاء واليُسر والعُسر، الأمر الذي يزرع في نفسه الثقة بالحاضر والمستقبل في كلّ عمل من أعمال الدُّنيا والآخرة.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
لابدّ من التنبيه إلى نقطة هامة وهي أن ذكر هذه المقاطع من غزوة «أحد» بعد الآيات السابقة التي تحدثت عن لزوم عدم الوثوق بالكفّار، إشارة إلى نموذج واحد من هذه الحقيقة، لأن النبي كما أسلفنا وكما سيأتي تفصيله لم يسمح ببقاء اليهود الذين تظاهروا بمساعدة المسلمين في المعسكر الإسلامي، لأنهم كانوا أجانب على كلّ حال، ولا يمكن السماح لهم بأن يبقوا بين صفوف المسلمين فيطلعوا على أسرارهم في تلك اللحظات الخطيرة، وأن يكونوا موضع اعتماد المسلمين في تلك المرحلة الحساسة...