اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{إِذۡ هَمَّت طَّآئِفَتَانِ مِنكُمۡ أَن تَفۡشَلَا وَٱللَّهُ وَلِيُّهُمَاۗ وَعَلَى ٱللَّهِ فَلۡيَتَوَكَّلِ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ} (122)

قوله : { إِذْ هَمَّتْ } في هذا الظرف أوجه :

أحدها : أنه ظَرْف ل { غَدَوْتَ } .

الثاني : أنه بدل من { وَإِذْ غَدَوْتَ } ، فالعامل ، فيه هو العامل في المُبْدَل منه .

الثالث : أنه ظرف ل { تُبَوِّىءُ }

وهذه الأوجه تحتاج إلى نقل تاريخي في اتحاد الزمانين .

الرابع : أن الناصب له " عَليمٌ " - وحده - ذكره أبو البقاء .

الخامس : أن العامل فيه إما " سَمِيعٌ " ، وإما " عَلِيمٌ " على سبيل التنازع ، وتكون المسألة - حينئذ - من إعمال الثاني ، إذ لو أعمل الأول ، لأضمر في الثاني .

قال الزمخشري : أو عمل فيه معنى : { سَمِيعٌ عَلِيمٌ } .

قال أبو حيان : " وهذا غير محرَّر ؛ لأن العامل لا يكون مركباً من وصفين ، فتحريره أن يقال : عمل فيه معنى سميع ، أو عليم ، وتكون المسألة من التنازع " .

قال شهاب الدين : " لم يرد الزمخشري بذلك إلا ما ذكرناه من إرادة التنازع ، ويصدق أن يقول : عمل فيه هذا وهذا بالمعنى المذكور ؛ لا أنهما عملا فيه معاً ، على أنه لو قيل به لم يكن مبتدعاً قولاً ؛ إذ الفراء يرى ذلك ، ويقول - في نحو : ضربتُ وأكرمتُ زيداً : إن زيداً منصوب بهما ، وإنهما سُلِّطَا عليه معاً " .

فإن قيل : إذا كان الهمُّ العزم فظاهر الآية يدل على أن الطائفتين عزمتا على الفشل ، والترك - وذلك معصية - فكيف يليق أن يقال : { وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا } ؟

فالجواب : أن الهَمَّ قد يُرادُ به الكفر ، وقد يراد به : حديث النفس ، وقد يراد به : ما يظهر من القول الدالِّ على قوة العدو وكثرة عدده ، وأيُّ شيء ظهر من هذا الجنس صح أن يوصف صاحبه بأنه هَمَّ أن يفشل ، من حيث ظهر منه ما يوجب ضَعْف القلب ، وإذا كان كذلك ، فلا يدل على أن المعصية وقعت منهما ، وبتقدير أن يقال ذلك ، فيكون من باب الصغائر ؛ لقوله : { وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا } .

وقيل : الهَمّ دون العزّم ، وذلك أن أول ما يمر بقلب الإنسان يُسَمَّى : خاطراً ، فإذا قويَ سُمِّيَ : حديث نفسٍ ، فإذا قَوِيَ سُمِّيَ : هَمًّا ، فإذا قَوِيَ سُمِّيَ : عزماً ، ثم بعده إما قول ، أو فعل .

وبعضهم يُعَبِّر بالهَم عن الإرادة ، تقول العرب : هممت بكذا ، أهُمَ به - بضم الهاء - ويقال : همت - بميم واحدة - حذفوا إحدى الميمين تخفيفاً ، كما قالوا : مِسْت وظلت ، وحست - في مَسِسْتُ وظَلِلْتُ وحَسِسْتُ - وهو غير مقيس .

والهم - أيضاً - : الحُزْن الذي يُذِيب صاحبه ، وهو مأخوذ من قولهم : همت الشحم - أي : أذبته ، والهم الذي في النفس قريب منه ، لأنه قد يؤثر في نفس الإنسان ، كما يؤثر الحُزْن .

ولذلك قال الشاعر : [ الطويل ]

وَهَمُّكَ مَا لَمْ تُمْضِهِ لَكَ مُنْصِبٌ{[5873]} *** . . .

أي : إنك إذا هممت بشيء ، ولم تفعله ، وجال في نفسك ، فأنت في تعب منه حتى تقضيَه .

قوله : { أن تَفْشَلاَ } متعلق ب " هَمَّتْ " ؛ لأنه يتعدى بالباء ، والأصل : بأن تفشلا ، فيجري في محل " أن " الوجهان المشهوران .

والفشل : الجبن والخَوَر .

وقال بعضهم : الفشل في الرأي : العجز ، وفي البدن : الإعياء ، وعدم النهوض ، وفي الحرب الجُبْن والخَوَر ، والفعل منه فَشِل - بكسر العين - وتفاشل الماء - إذا سال- .

وقرأ عبد الله : والله وليهم{[5874]} ، كقوله : { وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُواْ } [ الحجرات : 9 ]

قوله : { وَعَلى اللَّهِ } متعلق بقوله : { فَلْيَتَوَكَّلِ } ، قدم للاختصاص ، ولتناسب رؤوس الآي . وتقدم القول في نحو هذه الفاء .

قال أبو البقاء : " دخلت الفاء لمعنى الشرط ، والمعنى : إن فشلوا فتوكلوا أنتم ، أو إنْ صعب الأمر فتوكلوا " .

قال جابر : نزلت هذه الآية - { إِذْ هَمَّتْ طَّآئِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ } - فينا - بني سلمة ، وبني حارثة وما أحب أنها لم تنزل ، والله يقول : { وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا{[5875]} } .

قال ابنُ الخَطِيبِ : " ومعنى ذلك فرط الاستبشار بما حصل لهم من الشرف بثناء الله تعالى ، وإنزاله فيهم آية ناطقة بصحة الولاية ، وأن تلك الهمَّة ، ما أخرجتهم عن ولاية الله تعالى " .

والتوكُّل : تفعُّل ، إمَّا من الوكالة{[5876]} - وهي : تفويض الأمر إلى من يوثق بحُسْن تدبيره ، ومعرفته في التصرُّف - وإمَّا من وكل أمره إلى فلان ، إذا عجز عنه .

قال ابنُ فارس : " هو إظهار العَجْز ، والاعتماد على غيرك " ، يقال : فلان وكله يَكِلُه ، أي : عاجز يكلُ أمره إلى غيره ، والتاء في تُكَلَة بدل من الواو ، كتخمة وتجاه وتراث .

فصل

اختلف العلماء في حقيقة التوكل ، فسئل عنه سَهْل بن عبد الله ، فقال : قالت فرقة : هو الرضا بالضمان وقطع الطمع من المخلوقين{[5877]} .

وقال قوم : التَّوكُّل : ترك الأسباب ، والركون إلى مُسَبِّب الأسباب ، فإذا شغله السبب عن المسبب ، زال عنه اسم التوكُّل{[5878]} .

قال سهل : من قال : التوكل يكون بتَرك السبب ، فقد طعن في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ لأن الله يقول : { فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلاَلاً طَيِّباً }{[5879]} [ الأنفال : 69 ] ، والغنيمة اكتساب ، وقال صلى الله عليه وسلم : " إنَّ اللهَ يُحِبُّ الْعَبْدَ الْمُحْتَرِفَ " {[5880]} .


[5873]:ينظر الشطر في المفردات في غريب القرآن ص 543 والدر المصون 2/203.
[5874]:انظر: المحرر الوجيز 1/501، والبحر المحيط 3/51.
[5875]:أخرجه البخاري (7/357) كتاب المغازي باب إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا.. رقم (4051)، (8/225) كتاب التفسير باب إذ همت طائفتان... ومسلم (4/1948) كتاب فضائل الصحابة رقم (171) والطبري في "تفسيره" (7/167) والبيهقي في "دلائل النبوة" (3/221) عن جابر. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (2/122) وزاد نسبته لسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
[5876]:الوكالة بفتح الواو وكسرها: التفويض، يقال: وكله، أي فوض إليه، ووكلت أمري إلى فلان، أي: فوضت إليه، واكتفيت به، وتقع الوكالة أيضا على الحفظ، وهو: اسم مصدر بمعنى التوكيل. انظر: المصباح المنير: 2/670، الصحاح: 5/1845، المغرب: 2/368 المطلع: 258، وتهذيب الأسماء واللغات: 2/195. واصطلاحا: عرفها الحنفية بأنها: تفويض التصرف والحفظ إلى الوكيل. عرفها الشافعية بأنها: تفويض شخصي ما له فعله مما يقبل النيابة إلى غيره ليفعله في حياته. عرفها المالكية بأنها: نيابة في حق غير مشروطة بموته ولا إمارة عرفها الحنابلة بأنها: استنابة جائز التصرف مثله فيما تدخله النيابة. انظر: بدائع الصنائع: 7/3445، تبيين الحقائق: 4/254، حاشية ابن عابدين: 5/509، مغني المحتاج: 2/217، الشرح الصغير للدردير: 3/229، شرح الإرادات: 299- 300.
[5877]:انظر تفسير القرطبي (4/122).
[5878]:انظر المصدر السابق.
[5879]:انظرالمصدر السابق.
[5880]:أخرجه البيهقي في "شعب الإيمان" (1237) وابن عدي في "الكامل" (1/378) والحكيم الترمذي والطبراني كما في "كنز العمال" (9199) وعزاه أيضا لابن النجار عن عبد الله بن عمر والحديث ذكره ابن أبي حاتم في "علل الحديث" (2/128) رقم (1877) وقال: قال أبي: هذا حديث منكر. وذكره القرطبي في "تفسيره" (4/122).