الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي - الثعلبي  
{إِذۡ هَمَّت طَّآئِفَتَانِ مِنكُمۡ أَن تَفۡشَلَا وَٱللَّهُ وَلِيُّهُمَاۗ وَعَلَى ٱللَّهِ فَلۡيَتَوَكَّلِ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ} (122)

{ إِذْ هَمَّتْ طَّآئِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ } وهذا إنما كان يوم أُحد .

قال مجاهد والكلبي والواقدي : " غدا رسول الله صلى الله عليه وسلم من منزل عائشة فمشى على رجليه إلى أحد ، فجعل يصف أصحابه للقتال كأنما يقوم بهم القدح إن رأى صدراً خارجاً قال : " تأخر " " .

وذلك أن المشركين نزلوا بأُحد على ما ذكر محمد بن إسحاق والسدي عن رجالهما يوم الأربعاء ، فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بنزولهم استشار أصحابه ودعا عبد الله بن أبي بن سلول ولم يدعه قط قبلها واستشاره ، فقال عبد الله بن أبي وأكثر الأنصار : يا رسول الله ، أقم بالمدينة ولا تخرج إليهم ، فوالله ما خرجنا منها إلى عدو قط إلاّ أصاب منّا ، ولا دخلها علينا إلاّ أصبنا منه ، فكيف وأنت فينا ؟ فدعهم يا رسول الله ؛ فإن أقاموا أقاموا بشر مجلس ، وإن دخلوا قاتلهم الرجال في وجوههم ورماهم النساء والصبيان بالحجارة من وفوقهم ، فإن رجعوا رجعوا خائبين كما جاؤوا .

فأُعجب رسول الله بهذا الرأي .

وقال بعض أصحابه : يا رسول الله أُخرج بنا إلى هذه الأكلب لا يرون إنا جبنّا عنهم وضعفنا . فأتى النعمان بن مالك الأنصاري فقال : " يا رسول الله لا تحرمني الجنة فوالذي بعثك بالحق لأدخلنّ الجنة . فقال : " بما ؟ " . فقال : بأني أشهد أن لا اله إلاّ الله ، وأني لا أفر من الزحف ، قال : " صدقت " . فقتل يومئذ ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " قد رأيت في منامي بقراً فأَوَّلتها خيراً ، ورأيت في ذباب سيفي ثلماً فأَوَّلتها هزيمة ورأيت أني أدخلت يدي في درع حصينة فأَوَّلتها المدينة ؛ فإن رأيتم أن تقيموا بالمدينة وتدعوهم ؛ فإن أقاموا أقاموا بشر مقام وإن هم دخلوا المدينة علينا قاتلناهم فيها " " .

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعجبه أن يدخلوا عليه المدينة [ فيقاتل ] في الأزقة فقال رجال من المسلمين ممن كان ذا سهم يوم بدر ، وأكرمهم الله بالشهادة يوم أحد : اخرج بنا إلى أعدائنا . فلم يزالوا برسول الله من حبهم للقاء القوم حتى دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلبس لامته فلما رأوه لبس السلاح ندموا وقالوا : بئسما صنعنا نشير على رسول الله صلى الله عليه وسلم والوحي يأتيه ؟ فقاموا واعتذروا إليه وقالوا : اصنع ما رأيت .

فقال صلى الله عليه وسلم : " ( إنه ليس لنبي ) أن يلبس ( لامته ) أن يضعها حتى يقاتل " .

وكان قد أقام المشركون بأُحد يوم الأربعاء والخميس ، فراح رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد يوم الجمعة بعدما صلّى بأصحابه الجمعة ، وقد مات في ذلك اليوم رجل من الأنصار فصلّى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم خرج إليهم فأصبح بالشعب من أُحد يوم السبت النصف من شوال سنة ثلاث من الهجرة ، وكان من أمر حرب أُحد ما كان ، فذلك قوله : { وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّىءُ الْمُؤْمِنِينَ } ، قرأ يحيى بن رئاب : ( تبوي ) المؤمنين خفيفة غير مهموزة من ( أبوى يبوي ) مثل ( أروى يروي ) . وقرأ الباقون : مهموزة مشددة يقال : بوأت تبوئة ، وأبويتهم إبواء ، إذا أوطنتهم ، وتبوّأوا إذا تواطنوا ، قال الله تعالى

{ أَن تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتاً } [ يونس : 87 ] ، وقال { وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ } [ الحشر : 9 ] .

والتشديد أفصح وأشهر ، وتصديقه قوله تعالى :

{ وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ } [ يونس : 93 ] ، وقال

{ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِّنَ الْجَنَّةِ غُرَفَاً } [ العنكبوت : 58 ] .

وقرأ ابن مسعود : تبْوِئ للمؤمنين .

{ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ } ، أي مواطن وأماكن ، قال الله تعالى

{ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ } [ القمر : 55 ] ، وقال :

{ وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ } [ الجن : 9 ] . وقرأ أشهب : ( مقاعد للقتال ) . { وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * إِذْ هَمَّتْ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ } : تجبنا وتضعفا وتتخلّفا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهم بنو أُسامة من الخزرج ، وبنو حارثة من الأوس ، وكانا جناحي العسكر ، وذلك أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى أُحد في ألف رجل ، وقيل : تسعمائة وتسعين رجلا ، وقال الزجاج : كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في أُحد وقت القتال ثلاثة آلاف ، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أُحد وقد وعد أصحابه الفتح إن صبروا ، فلما بلغوا الشوط انخزل عبد الله بن أُبيّ الخزرجي بثلث الناس فرجع في ثلاثمائة ، وقال : علام نقتل أنفسنا وأولادنا ؟ فتبعهم أبو جابر السلمي فقال : أُنشدكم الله في نبيكم وفي أنفسكم . فقال عبد الله بن أُبي : لو نعلم قتالا لاتّبعناكم . وهمت بنو سلمة وبنو حارثة بالانصراف مع عبد الله بن أُبي فعصمهم الله فلم ينصرفوا ، ومضوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذكرهم الله عظيم نعمته بعصمته فقال : { إِذْ هَمَّتْ طَّآئِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا } ناصرهما وحافظهما . وقرأ ابن مسعود : ( والله وليهم ) لأنّ الطائفتين جمع ، كقوله

{ هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُواْ فِي رَبِّهِمْ } [ الحج : 19 ] . { وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ } وقال جابر بن عبد الله : ما يسرنا أنالهم نهمّ بالذي هممنا ، وقد أخبرنا الله أنه ولينا .