البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{إِذۡ هَمَّت طَّآئِفَتَانِ مِنكُمۡ أَن تَفۡشَلَا وَٱللَّهُ وَلِيُّهُمَاۗ وَعَلَى ٱللَّهِ فَلۡيَتَوَكَّلِ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ} (122)

الهم : دون العزم ، والفعل منه هم يهمُّ .

وتقول العرب : هممْتُ وهمَّتْ يحذفون أحد المضعفين كما قالوا : أمست ، وظلّت ، وأحست ، في مسست وظللت وأحسست .

وأوّلُ ما يمر الأمر بالقلب يسمى خاطراً ، فإذا تردد صار حديث نفس ، فإذ ترجَّح فعله صار هماً ، فإذا قوي واشتد صار عزماً ، فإذا قوي العزم واشتدّ حصل الفعل أو القول .

الفشل في البدن : الإعياء .

وفي الحرب : الجبن والخور ، وفي الرأي : العجز والفساد .

وفعله : فشِل بكسر الشين .

التوكل : تفعل من وكل أمره إلى فلان ، إذا فوَّضه له .

قال ابن فارس : هو إظهار العجز والاعتماد على غيرك ، يقال : فلان وكلة تكلة ، أي عاجز يكل أمره إلى غيره .

وقيل : هو من الوكالة ، وهو تفويض الأمر إلى غيره ثقة بحسن تدبيره .

{ إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا } الطائفتان : بنو سلمة من الخزرج ، وبنو حارثة من الأوس ، وهما الجناحان قاله : ابن عباس ، وجابر ، والحسن ، وقتادة ، ومجاهد ، والربيع ، والسدي ، وجمهور المفسرين .

وقيل : الطائفتان هما من الأنصار والمهاجرين .

روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج في ألف .

وقيل : في تسعمائة وخمسين ، والمشركون في ثلاثة آلاف .

ووعدهم الفتح إن صبروا ، فانخذل عبد الله بن أبي بثلث الناس .

وسببُ انخذاله أنه أشار على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة حين شاوره رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يشاوره قبلها ، فأشار عليه بالمقام في المدينة فلم يفعل وخرج ، فغضب عبد الله وقال : أطاعهم ، وعصاني .

وقال : يا قوم على مَ نقتل أنفسنا وأولادنا ، فتبعهم عمرو بن حزم الأنصاري .

وفي رواية أبو جابر السلمي فقال : أنشدكم الله في نبيكم وأنفسكم .

فقال عبد الله : لو نعلمُ قتالاً لاتبعناكم ، فهم الجبان باتباع عبد الله ، فعصمهم الله ومضوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم .

قال ابن عباس : أضمروا أن يرجعوا ، فعزم الله لهم على الرشد فثبتوا ، وهذا لهمّ غير مؤاخذ به ، إذ ليس بعزيمة ، إنما هو ترجيح من غير عزم .

ولا شك أن النفس عندما تلاقي الحروب ومن يجالدها يزيد عليها مثلين وأكثر ، يلحقها بعض الضعف عن الملاقاة ، ثم يوطئها صاحبها على القتال فتثبت وتستقر .

ألا ترى إلى قول الشاعر :

وقولي : كلما جشأت وجاشت *** مكانك تحمدي أو تستريحي

{ وإذ همت } : بدل من إذ غدوت .

قال الزمخشري : أو عمل فيه معنى سميع عليم انتهى .

وهذا غير محرر ، لأن العامل لا يكون مركباً من وصفين ، فتحريره أن يقول : أو عمل فيه معنى سميع أو عليم ، وتكون المسألة من باب التنازع .

وجوز أن يكون معمولاً لتبوى ، ولغدوت .

وهمّ يتعدى بالباء ، فالتقدير : بأن تفشلا والمعنى : أن تفشلا عن القتال .

وأما أحسن قول الشاعر في التحريض على القتال والنهي عن الفشل :

قاتلوا القوم بالخداع ولا *** يأخذكم عن قتالهم فشل

القوم أمثالكم لهم شعر *** في الرأس لا ينشرون إن قتلوا

وأدغم السبعة تاء التأنيث في الطاء ، وعن قالون خلاف ذكرناه في عقد اللآلىء في القراءات السبع العوالي من إنشائنا .

والظاهر أن هذا الهم كان عند تبوئة الرسول صلى الله عليه وسلم مقاعد للقتال وانخذال عبد الله بمن انخذل .

وقيل : حين أشاروا عليه بالخروج وخالفوا عبد الله بن أبي .

وفي قوله : طائفتان إشارة لطيفة إلى الكناية عن من يقع منه ما لا يناسب والستر عليه ، إذ لم يعين الطائفتين بأنفسهما ، ولا صرح بمن هما منه من القبائل ستراً عليهما .

{ والله وليهما } معنى الولاية هنا التثبيت والنصر ، فلا ينبغي لهما أن يفشلا .

وقيل : جعلها من أوليائه المثابرين على طاعته .

وفي البخاري عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال : فينا نزلت { إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا والله وليهما } قال : نحن الطائفتان بنو حارثة ، وبنو سلمة .

وما تحب أنها لم تنزل لقول الله : { والله وليهما } ، قال ذلك جابر لفرط الاستبشار بما حصل لهم من الشرف بثناء الله ، وإنزاله فيهم آية ناطقة بصحة الولاية ، وأنّ تلك الهمة المصفوح عنها لكونها ليست عزماً ، كانت سبباً لنزولها .

وقرأ عبد الله : والله وليهم أعاد الضمير على المعنى لا على لفظ التثنية ، كقوله : { وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا } { هذان خصمان اختصموا } وهذه الجملة لا موضع لها من الإعراب ، بل جاءت مستأنفة لثناء الله على هاتين الطائفتين .

{ وعلى الله فليتوكل المؤمنون } لما ذكر تعالى ما همت به الطائفتان من الفشل ، وأخبر تعالى أنه وليهما ، ومَنْ كان الله وليه فلا يفوض أمره إلا إليه .

أمرهم بالتوكل عليه ، وقدم المجرور للاعتناء بمن يتوكل عليه ، أو للاختصاص على مذهب من يرى ذلك .

ونبّه على الوصف الذي يقتضي ذلك وهو الإيمان ، لأنَّ مَنْ آمن بالله خير أن لا يكون اتكاله إلا عليه ، ولذلك قال : { وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين } وأتى به عاماً لتندرج الطائفتان الهامّتان وغيرهم في هذا الأمر ، وأن متعلقة من قام به الإيمان .

وفي هذا الأمر تحريض على التغبيط بما فعلته الطائفتان من اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسير معه .

/خ132