ونظر ذو القرنين إلى العمل الضخم الذي قام به ، فلم يأخذه البطر والغرور ، ولم تسكره نشوة القوة والعلم . ولكنه ذكر الله فشكره . ورد إليه العمل الصالح الذي وفقه إليه . وتبرأ من قوته إلى قوة الله ، وفوض إليه الأمر ، وأعلن ما يؤمن به من أن الجبال والحواجز والسدود ستدك قبل يوم القيامة ، فتعود الأرض سطحا أجرد مستويا .
( قال : هذا رحمة من ربي ، فإذا جاء وعد ربي جعله دكاء . وكان وعد ربي حقا ) . .
وبذلك تنتهي هذه الحلقة من سيرة ذي القرنين . النموذج الطيب للحاكم الصالح ، يمكنه الله في الأرض ، وييسر له الأسباب ؛ فيجتاح الأرض شرقا وغربا ؛ ولكنه لا يتجبر ولا يتكبر ، ولا يطغى ولا يتبطر ، ولا يتخذ من الفتوح وسيلة للغنم المادي ، واستغلال الأفراد والجماعات والأوطان ، ولا يعامل البلاد المفتوحة معاملة الرقيق ؛ ولا يسخر أهلها في أغراضه وأطماعه . . إنما ينشر العدل في كل مكان يحل به ، ويساعد المتخلفين ، ويدرأ عنهم العدوان دون مقابل ؛ ويستخدم القوة التي يسرها الله له في التعمير والإصلاح ، ودفع العدوان وإحقاق الحق . ثم يرجع كل خير يحققه الله على يديه إلى رحمة الله وفضل الله ، ولا ينسى وهو في إبان سطوته قدرة الله وجبروته ، وأنه راجع إلى الله .
وبعد فمن يأجوج ومأجوج ? وأين هم الآن ? وماذا كان من أمرهم وماذا سيكون !
كل هذه أسئلة تصعب الإجابة عليها على وجه التحقيق ، فنحن لا نعرف عنهم إلا ما ورد في القرآن ، وفي بعض الأثر الصحيح .
والقرآن يذكر في هذا الموضع ما حكاه من قول ذي القرنين : ( فإذا جاء وعد ربي جعله دكاء ، وكان وعد ربي حقا ) .
وهذا النص لا يحدد زمانا . ووعد الله بمعنى وعده بدك السد ربما يكون قد جاء منذ أن هجم التتار ، وانساحوا في الأرض ، ودمروا الممالك تدميرا .
وفي موضع آخر في سورة الأنبياء : ( حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون . واقترب الوعد الحق . . . ) .
وهذا النص كذلك لا يحدد زمانا معينا لخروج يأجوج ومأجوج فاقتراب الوعد الحق بمعنى اقتراب الساعة قد وقع منذ زمن الرسول [ ص ] فجاء في القرآن : ( اقتربت الساعة وانشق القمر ) والزمان في الحساب الإلهي غيره في حساب البشر . فقد تمر بين اقتراب الساعة ووقوعها ملايين السنين أو القرون ، يراها البشر طويلة مديدة ، وهي عند الله ومضة قصيرة .
وإذن فمن الجائز أن يكون السد قد فتح في الفترة ما بين : ( اقتربت الساعة ) ويومنا هذا . وتكون غارات المغول والتتار التي اجتاحت الشرق هي انسياح يأجوج ومأجوج .
وهناك حديث صحيح رواه الإمام أحمد عن سفيان الثوري عن عروة ، عن زينب بنت أبي سلمة ، عن حبيبة بنت أم حبيبة بنت أبي سفيان ، عن أمها حبيبة ، عن زينب بنت جحش - زوج النبي [ ص ] - قالت : استيقظ الرسول [ ص ] من نومه وهو محمر الوجه وهو يقول : " ويل للعرب من شر قد اقترب . فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذا " وحلق [ بإصبعيه السبابة والإبهام ] . قلت : يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون ? قال " نعم إذا كثر الخبيث " .
وقد كانت هذه الرؤيا منذ أكثر من ثلاثة عشر قرنا ونصف قرن . وقد وقعت غارات التتار بعدها ، ودمرت ملك العرب بتدمير الخلافة العباسية على يد هولاكو في خلافة المستعصم آخر ملوك العباسيين . وقد يكون هذا تعبير رؤيا الرسول [ ص ] وعلم ذلك عند الله . وكل ما نقوله ترجيح لا يقين .
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ هََذَا رَحْمَةٌ مّن رّبّي فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ رَبّي جَعَلَهُ دَكّآءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبّي حَقّاً } .
يقول عزّ ذكره : فلما رأى ذو القرنين أن يأجوج ومأجوج لا يستطيعون أن يظهروا ما بني من الردم ، ولا يقدرون عل نقبه ، قال : هذا الذي بنيته وسوّيته حاجزا بين هذه الأمة ، ومن دون الردم رحمة من ربي رحم بها من دون الردم من الناس ، فأعانني برحمته لهم حتى بنيته وسوّيته ليكفّ بذلك غائلة هذه الأمة عنهم .
وقوله : فإذَا جاءَ وَعْدُ رَبّي جَعَلَهُ دَكّاءَ يقول : فإذا جاء وعد ربي الذي جعله ميقاتا لظهور هذه الأمة وخروجها من وراء هذا الردم لهم ، جعله دكاء ، يقول : سوّاه بالأرض ، فألزقه بها ، من قولهم : ناقة دكاء : مستوية الظهر لا سنام لها . وإنما معنى الكلام : جعله مدكوكا ، فقيل : دكاء . وكان قتادة يقول في ذلك ما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : فإذَا جاءَ وَعدُ رَبي جَعَلَه دَكّاءَ قال : لا أدري الجبلين يعني به ، أو ما بينهما .
وذُكر أن ذلك يكون كذلك بعد قتل عيسى ابن مريم عليه السلام الدجال . ذكر من قال ذلك :
حدثني أحمد بن إبراهيم الدورقي ، قال : حدثنا هشيم بن بشير ، قال : أخبرنا العوّام ، عن جبلة بن سحيم ، عن مؤثر ، وهو ابن عفارة العبدي ، عن عبد الله بن مسعود ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لَقِيتُ لَيْلَةَ الإسْرَاءِ إبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعيسَى فَتَذَاكرُوا أمْر السّاعَةِ ، وَرَدّوا الأَمْرَ إلى إبْرَاهِيمَ فَقالَ إبْرَاهِيمُ : لا عِلْمَ لي بِها ، فَرَدّوا الأمْرَ إلى مُوسَى ، فقالَ مُوسَى : لا عِلْمَ لي بها ، فَرَدّوا الأَمْرَ إلى عِيسَى قالَ عِيسَى : أمّا قِيامُ السّاعَةِ لا يَعْلَمُهُ إلاّ اللّهُ ، وَلَكِنّ رَبّي قَدْ عَهِدَ إليّ بِمَا هُوَ كائِنٌ دُونَ وَقْتِها ، عَهِدَ إليّ أنّ الدّجّالَ خارجٌ ، وأنّهُ مُهْبطي إلَيْه ، فَذَكَرَ أنّ مَعَهُ قَصَبَتَيْنِ ، فإذَا رآنِي أهْلَكَهُ اللّهُ ، قالَ : فَيَذُوبُ كمَا يَذُوبُ الرّصَاصُ ، حتى إنّ الحَجَرَ والشّجَرَ لَيَقُولُ : يا مُسْلِمُ هَذَا كافِرٌ فاقْتُلْهُ ، فَيُهْلِكُهُمْ اللّهُ ، وَيَرْجِعُ الناسُ إلى بِلادِهِمْ وأوْطانِهِمْ فَيَسْتَقْبِلُهُمْ يَأْجُوجُ ومَأْجُوجَ مِنْ كُلّ حَدْبٍ يَنْسِلُونَ ، لا يَأْتُونَ عَلى شَيْءٍ إلاّ أكَلُوهُ ، وَالا يَمُرّونَ عَلى ماءِ إلاّ شَرِبُوهُ ، فيَرّجِعُ النّاسُ إليّ ، فَيَشْكُونَهُمْ ، فأدْعُوا اللّهَ عَلَيْهِمْ فَيُمِيتُهُمْ حتى تَجْوَى الأرْضُ مِنْ نَتْنِ رِيحِهِمُ ، فَيَنْزِلُ المَطَرُ ، فَيَجُرّ أجْسادَهُمْ ، فيُلْقِيهِمْ فِي البَحْرِ ، ثُمّ يَنْسِفُ الجِبالَ حتى تَكُونَ الأرْضُ كالأديم ، فَعَهِدَ إليّ رَبّي أنّ ذلكَ إذا كان كذلك ، فَإنّ السّاعَةَ مِنْهُمْ كالحامِلِ المُتِمّ الّتِي لا يَدْرِي أهْلُها مَتى تَفْجَوهُمْ بِوِلادِها ، لَيْلاً أوْ نَهارا » .
حدثني عبيد بن إسماعيل ، قال : حدثنا المحاربيّ ، عن أصبع بن زيد ، عن العوّام بن حوشب ، عن جبلة بن سحيم ، عن مؤثر بن عَفازَة ، عن عبد الله بن مسعود ، قال : لما أُسْري برسول الله صلى الله عليه وسلم التقي هو وإبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام . فتذاكروا أمر الساعة . فذكر نحو حديث إبراهيم الدورقي عن هشيم ، وزاد فيه : قال العوّام بن حوشب : فوجدت تصديق ذلك في كتاب الله تعالى ، قال الله عزّ وجلّ : حتى إذَا فُتِحَتْ يأْجُوجُ ومَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ وَاقْتَرَبَ الوَعْدُ الحَقّ فإذَا هِيَ شاخِصَةٌ أبْصَارُ الّذِينَ كَفَرُوا وقال : فإذَا جاءَ وَعْدُ رَبّي جَعَلَهُ دَكّاءَ وكانَ وَعْدُ رَبّي حَقّا يقول : وكان وعد ربي الذي وعد خلقه في دكّ هذا الردم ، وخروج هؤلاء القوم على الناس ، وعيثهم فيه ، وغير ذلك من وعده حقا ، لأنه لا يخلف الميعاد فلا يقع غير ما وعد أنه كائن .
{ قال هذا } هذا السد أو الأقدار على تسويته . { رحمة من ربي } على عباده . { فإذا جاء وعد ربّي } وقت وعده بخروج يأجوج ومأجوج ، أو بقيام الساعة بأن شارف يوم القيامة . { جعله دكاً } مدكوكا مبسوطا مسوى بالأرض ، مصدر بمعنى مفعول ومنه جمل أدك لمنبسط السنام . وقرأ الكوفيون دكاء بالمد أي أرضا مستوية . { وكان وعد ربي حقا } كائنا لا محالة وهذا آخر حكاية قول ذي القرنين .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.