في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَإِنِّي مُرۡسِلَةٌ إِلَيۡهِم بِهَدِيَّةٖ فَنَاظِرَةُۢ بِمَ يَرۡجِعُ ٱلۡمُرۡسَلُونَ} (35)

15

وهنا تظهر شخصية " المرأة " من وراء شخصية الملكة . المرأة التي تكره الحروب والتدمير ، والتي تنضي سلاح الحيلة والملاينة قبل أن تنضي سلاح القوة والمخاشنة :

قالت : إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها ، وجعلوا أعزة أهلها أذلة وكذلك يفعلون . وإني مرسله إليهم بهدية فناظره بم يرجع المرسلون !

فهي تعرف أن من طبيعة الملوك أنهم إذا دخلوا قرية [ والقرية تطلق على المدينة الكبيرة ] أشاعوا فيها الفساد ، وأباحوا ذمارها ، وانتهكوا حرماتها ، وحطموا القوة المدافعة عنها ، وعلى رأسها رؤساؤها ؛ وجعلوهم أذلة لأنهم عنصر المقاومة . وأن هذا هو دأبهم الذي يفعلونه .

والهدية تلين القلب ، وتعلن الود ، وقد تفلح في دفع القتال . وهي تجربة . فإن قبلها سليمان فهو إذن أمر الدنيا ، ووسائل الدنيا إذن تجدي . وإن لم يقبلها فهو إذن أمر العقيدة ، الذي لا يصرفه عنه مال ، ولا عرض من أعراض هذه الأرض .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَإِنِّي مُرۡسِلَةٌ إِلَيۡهِم بِهَدِيَّةٖ فَنَاظِرَةُۢ بِمَ يَرۡجِعُ ٱلۡمُرۡسَلُونَ} (35)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِنّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ * فَلَمّا جَآءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدّونَنِ بِمَالٍ فَمَآ آتَانِي اللّهُ خَيْرٌ مّمّآ آتَاكُمْ بَلْ أَنتُمْ بِهَدِيّتِكُمْ تَفْرَحُونَ * ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنّهُم بِجُنُودٍ لاّ قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنّهُم مّنْهَآ أَذِلّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ } .

ذكر أنها قالت : إني مرسلة إلي سليمان ، لتختبره بذلك وتعرفه به ، أملك هو ، أم نبيّ ؟ وقالت : إن يكن نبيا لم يقبل الهدية ، ولم يرضه منا ، إلا أن نتبعه على دينه ، وإن يكن ملكا قبل الهدية وانصرف . ذكر الرواية عمن قال ذلك :

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قالت : وإنّي مُرْسلَةٌ إلَيْهِمْ بِهَدِيّةٍ فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ المُرْسَلُونَ قال : وبعثت إليه بوصائف ووصفَاء ، وألبستْهم لباسا واحدا حتى لا يعرف ذكر من أنثى ، فقالت : إن زيّل بينهم حتى يعرف الذكر من الأنثى ، ثم ردّ الهدية فإنه نبيّ ، وبنبغي لنا أن نترك ملكنا ، ونتّبع دينه ، ونلحق به .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قوله : وإنّي مُرْسِلَةٌ إلَيْهِمْ بِهَدِيّةٍ قال : بجوارٍ لباسهم لباس الغلمان ، وغلمان لباسهم لباس الجواري .

حدثنا القامس ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قال : قولها : وَإنّي مُرْسِلَةٌ إلَيْهِمْ بِهَدِيّةٍ قال : مئتي غلام ومئتي جارية . قال ابن جُرَيج ، قال مجاهد : قوله بِهَدِيّةٍ قال : جوار ألبستهنّ لباس الغلمان ، وغلمان ألبستهم لباس الجواري .

قال ابن جُرَيج : قال ( مجاهد ) : قالت : فإن خلّص الجواري من الغلمان ، وردّ الهدية فإنه نبيّ ، وينبغي لنا أن نتّبعه .

قال ابن جُرَيج ، قال مجاهد : فخلّص سليمان بعضهم من بعض ، ولم يقبل هديتها .

قال : ثنا الحسين ، قال : حدثنا سفيان ، عن معمر ، عن ثابت اليُثانيّ ، قال : أهدت له صفائح الذهب في أوعية الديباج فلما بلغ ذلك سليمان أمر الجنّ فموّهوا له الاَجرّ بالذهب ، ثم أمر به فألقي في الطرق فلما جاءوا فرأوه ملقى ما يُلتفت إليه ، صغر في أعينهم ما جاءوا به .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : إنّ المُلُوكَ إذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أفْسَدُوها . . . الاَية ، وقالت : إن هذا الرجل إن كان إنما همته الدنيا فسنرضيه ، وإن كان إنما يريد الدين فلن يقبلَ غيره وإنّي مُرْسِلَةٌ إلَيْهِمْ بِهَدِيّةٍ فَناظرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ المُرْسَلُونَ .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن بعض أهل العلم ، عن وهب بن منبه ، قال : كانت بلقيس امرأة لبيبة أديبة في بيت ملك ، لم تملك إلا لبقايا من مضى من أهلها ، إنه قد سيست وساست حتى أحكمها ذلك ، وكان دينها ودين قومها فيما ذُكر الزنديقية فلما قرأت الكتاب سمعت كتابا ليس من كتب الملوك التي كانت قبلها ، فبعثت إلى المَقَاولة من أهل اليمن ، فقالت لهم : يا أيّها المَلاُ إنّي أُلْقِيَ إليّ كِتابٌ كَرِيمٌ ، إنّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإنّهُ بِسْمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ ، ألاّ تَعْلُوا عَليّ وأْتُونِي مُسْلِمِينَ إلى قوله بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ ثم قالت : إنه قد جاءني كتاب لم يأتني مثله من ملك من الملوك قبله ، فإن يكن الرجل نبيا مرسلاً فلا طاقة لنا به ولا قوّة ، وإن يكن الرجل ملكا يكاثر ، فليس بأعزّ منا ، ولا أعدّ . فهيّأت هدايا مما يُهدَى للملوك ، مما يُفتنون به ، فقالت : إن يكن ملكا فسيقبل الهدية ويرغب في المال ، وإن يكن نبيا فليس له في الدنيا حاجة ، وليس إياها يريد ، إنما يريد أن ندخل معه في دينه ونتبعه على أمره ، أو كما قالت .

حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : وإنّي مُرْسِلَةٌ إلَيْهِمْ بِهَدِيّةٍ بعثت بوصائف ووصفاء ، لباسهم لباس واحد ، فقالت : إن زيّل بينهم حتى يعرف الذكر من الأنثى ، ثم ردّ الهدية فهو نبيّ ، وينبغي لنا أن نتّبعه ، وندخل في دينه فزيّل سليمان بين الغلمان والجواري ، وردّ الهدية ، فقال : أتُمِدّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتانِيَ اللّهُ خَيْرٌ مِمّا آتاكمْ .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : كان في الهدايا التي بعثت بها وصائف ووصفاء يختلفون في ثيابهم ، لتمييز الغلمان من الجواري ، قال : فدعا بماء ، فجعل الجواري يتوضأن من المرفق إلى أسفل ، وجعل الغلمان يتوضئون من المرفق إلى فوق . قال : وكان أبي يحدثنا هذا الحديث .

حدثنا عبد الأعلى ، قال : حدثنا مروان بن معاوية ، قال : حدثنا إسماعيل ، عن أبي صالح وَإنّي مُرْسِلةٌ إلَيْهِمْ بِهَدِيّةٍ قال : أرسلت بلبنة من ذهب ، وقالت : إن كان يريد الدنيا علمته ، وإن كان يريد الاَخرة علمته .

وقوله : فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ تقول : فأنظر بأيّ شيء من خبره وفعله في هديتي التي أرسلها إليه ترجع رسلي ، أبقبول وانصراف عنا ، أم بردّ الهدية والثبات على مطالبتنا باتباعه على دينه ؟ وأسقطت الألف من «ما » في قوله بِمَ وأصله : بما ، لأن العرب إذا كانت «ما » بمعنى : أي ، ثم وصلوها بحرف خافض أسقطوا ألفها تفريقا بين الاستفهام وغيره ، كما قال جلّ ثناؤه عَمّ يَتَساءَلونَ و قَالُوا : فِيمَ كُنْتُمْ ، وربما أثبتوا فيها الألف ، كما قال الشاعر :

عَلامَا قَامَ يَشْتُمُنِي لَئِيمٌ *** كَخِنْزِيرٍ تَمَرّغَ فِي تُرَابِ

وقالت وإنّى مُرْسِلَةٌ إلَيْهِمْ وإنما أرسلت إلى سليمان وحده على النحو الذي بيّنا في قوله : عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ .