في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَإِذَا سَمِعُواْ ٱللَّغۡوَ أَعۡرَضُواْ عَنۡهُ وَقَالُواْ لَنَآ أَعۡمَٰلُنَا وَلَكُمۡ أَعۡمَٰلُكُمۡ سَلَٰمٌ عَلَيۡكُمۡ لَا نَبۡتَغِي ٱلۡجَٰهِلِينَ} (55)

44

وصفة أخرى من صفة النفوس المؤمنة الصابرة على الإسلام الخالصة للعقيدة :

وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه ، وقالوا : لنا أعمالنا ولكم أعمالكم . سلام عليكم لانبتغي الجاهلين . .

واللغو فارغ الحديث ، الذي لا طائل تحته ، ولا حاصل وراءه . وهو الهذر الذي يقتل الوقت دون أن يضيف إلى القلب أو العقل زادا جديدا ، ولا معرفة مفيدة . وهو البذيء من القول الذي يفسد الحس واللسان ، سواء : أوجه إلى مخاطب أم حكي عن غائب .

والقلوب المؤمنة لا تلغو ذلك اللغو ، ولا تستمع إلى ذاك الهذر ، ولا تعنى بهذا البذاء . فهي مشغولة بتكاليف الإيمان ، مرتفعة بأشواقه ، متطهرة بنوره :

( وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه ) . .

ولكنهم لا يهتاجون ولا يغتاظون ولا يجارون أهل اللغو فيردون عليهم بمثله ، ولا يدخلون معهم في جدل حوله ، لأن الجدل مع أهل اللغو لغو ؛ إنما يتركونهم في موادعة وسلام .

( وقالوا : لنا أعمالنا ولكم أعمالكم . سلام عليكم ) . .

هكذا في أدب ، وفي دعاء بالخير ، وفي رغبة في الهداية . . مع عدم الرغبة في المشاركة :

( لا نبتغي الجاهلين ) . .

ولا نريد أن ننفق معهم وقتنا الثمين ، ولا أن نجاريهم في لغوهم أو نسمع إليه صامتين ! .

إنها صورة وضيئة للنفس المؤمنة المطمئنة إلى إيمانها . تفيض بالترفع عن اللغو . كما تفيض بالسماحة والود . وترسم لمن يريد أن يتأدب بأدب الله طريقه واضحا لا لبس فيه . فلا مشاركة للجهال ، ولا مخاصمة لهم ، ولا موجدة عليهم ، ولا ضيق بهم . إنما هو الترفع والسماحة وحب الخير حتى للجارم المسيء .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَإِذَا سَمِعُواْ ٱللَّغۡوَ أَعۡرَضُواْ عَنۡهُ وَقَالُواْ لَنَآ أَعۡمَٰلُنَا وَلَكُمۡ أَعۡمَٰلُكُمۡ سَلَٰمٌ عَلَيۡكُمۡ لَا نَبۡتَغِي ٱلۡجَٰهِلِينَ} (55)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِذَا سَمِعُواْ اللّغْوَ أَعْرَضُواْ عَنْهُ وَقَالُواْ لَنَآ أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لاَ نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ } .

يقول تعالى ذكره : وإذا سمع هؤلاء القوم الذين آتيناهم الكتاب اللغو ، وهو الباطل من القول ، كما :

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قَتادة وَإذَا سَمِعُوا اللّغْوَ أعْرَضُوا عَنْهُ وَقالُوا لَنا أعمالُنا وَلَكُمْ أعمالُكُمْ ، سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الجاهِلِينَ لا يجارون أهل الجهل والباطل في باطلهم ، أتاهم من أمر الله ما وقذهم عن ذلك .

وقال آخرون : عُنِي باللغو في هذا الموضع : ما كان أهل الكتاب ألحقوه في كتاب الله ، مما ليس هو منه . ذكر من قال ذلك :

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَإذَا سَمِعُوا اللّغْوَ أعْرَضُوا عَنْهُ وَقالُوا . . . إلى آخر الاَية ، قال : هذه لأهل الكتاب ، إذا سمعوا اللغو الذي كتب القوم بأيديهم مع كتاب الله ، وقالوا : هو من عند الله ، إذا سمعه الذين أسلموا ، ومرّوا به يتلونه ، أعرضوا عنه ، وكأنهم لم يسمعوا ذلك قبل أن يؤمنوا بالنبيّ صلى الله عليه وسلم ، لأنهم كانوا مسلمين على دين عيسى ، ألا ترى أنهم يقولون : إنّا كُنّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ . وقال آخرون في ذلك بما :

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا ابن عيينة ، عن منصور ، عن مجاهد وَإذَا سَمِعُوا اللّغْوَ أعْرَضُوا عَنْهُ وَقالُوا لَنا أعمالُنا وَلَكُمْ أعمالُكُمْ ، سَلامٌ عَلَيْكُمْ قال : نزلت في قوم كانوا مشركين فأسلموا ، فكان قومهم يُؤْذونهم .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جويرية ، عن منصور ، عن مجاهد ، قوله وَإذَا سَمِعُوا اللّغْوَ أعْرَضُوا عَنْهُ ، وَقالُوا لَنا أعمالُنا وَلَكُمْ أعمالُكُمْ قال : كان ناس من أهل الكتاب أَسْلَموا ، فكان المشركون يؤذونهم ، فكانوا يصفحون عنهم ، يقولون : سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الجاهِلِينَ .

وقوله : أعْرَضُوا عَنْهُ يقول : لم يصغوا إليه ولم يستمعوه وَقالُوا لَنا أعمالُنا وَلَكُمْ أعمالُكُمْ وهذا يدلّ على أن اللغو الذي ذكره الله في هذا الموضع ، إنما هو ما قاله مجاهد ، من أنه سماع القوم ممن يؤذيهم بالقول ما يكرهون منه في أنفسهم ، وأنهم أجابوهم بالجميل من القول لَنا أعمالُنا قد رضينا بها لأنفسنا ، وَلَكُمْ أعمالُكُمْ قد رضيتم بها لأنفسكم . وقوله : سَلامٌ عَلَيْكُمْ يقول : أَمَنة لكم منا أن نُسابّكم ، أو تسمعوا منا ما لا تحبون لا نَبْتَغي الجاهِلِينَ يقول : لا نريد محاورة أهل الجهل ومسابتهم .