وإنها لحقيقة . . أن الشيطان ولي الذين لا يؤمنون ، كما أن الله هو ولي المؤمنين . . وهي حقيقة رهيبة ، ولها نتائجها الخطيرة . . وهي تذكر هكذا مطلقة ؛ ثم يواجه بها المشركون كحالة واقعة ؛ فنرى كيف تكون ولاية الشيطان ؛ وكيف تفعل في تصورات الناس وحياتهم . . وهذا نموذج منها :
( وإذا فعلوا فاحشة قالوا : وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها ) . .
وذلك ما كان يفعله ويقول به مشركو العرب ؛ وهم يزاولون فاحشة التعري في الطواف ببيت الله الحرام - وفيهم النساء ! - ثم يزعمون أن الله أمرهم بها . فقد كان أمر آباءهم بها ففعلوها ، ثم هم ورثوها عن آبائهم ففعلوها !
وهم - على شركهم - لم يكونوا يتبجحون تبجح الجاهليات الحديثة التي تقول : ما للدين وشؤون الحياة ؟ وتزعم أنها هي صاحبة الحق في اتخاذ الأوضاع والشرائع والقيم والموازين والعادات والتقاليد من دون الله ! إنما كانوا يفترون الفرية ، ويشرعون الشريعة ، ثم يقولون : الله أمرنا بها ! وقد تكون هذه خطة ألأم وأخبث ، لأنها تخدع الذين في قلوبهم بقية من عاطفة دينية ؛ فتوهمهم أن هذه الشريعة من عند الله . . ولكنها على كل حال أقل تبجحاً ممن يزعم أن له الحق في التشريع للناس بما يراه أصلح لأحوالهم من دون الله !
والله - سبحانه - يأمر نبيه [ ص ] أن يواجههم بالتكذيب لهذا الافتراء على الله ؛ وبتقرير طبيعة شرع الله وكراهته للفاحشة ، فليس من شأنه سبحانه أن يأمر بها :
( قل : إن الله لا يأمر بالفحشاء . أتقولون على الله ما لا تعلمون ؟ ) :
إن الله لا يأمر بالفحشاء إطلاقاً - والفاحشة : كل ما يفحش أي يتجاوز الحد - والعري من هذه الفاحشة ، فالله لا يأمر به . وكيف يأمر الله بالاعتداء على حدوده ؟ والمخالفة عن أمره بالستر والحياء والتقوى ؟ ومن الذي أعلمهم بأمر الله ذاك ؟ إن أوامر الله وشرائعه ليست بالادعاء . إن أوامره وشرائعه واردة في كتبه على رسله . وليس هناك مصدر آخر يعلم منه قول الله وشرعه . وليس لإنسان أن يزعم عن أمر أنه من شريعة الله ، إلا أن يستند إلى كتاب الله وإلى تبليغ رسول الله . فالعلم المستيقن بكلام الله هو الذي يستند إليه من يقول في دين الله . . وإلا فأي فوضى يمكن أن تكون إذا قدم كل إنسان هواه ، وهو يزعم أنه دين الله ! !
إن الجاهلية هي الجاهلية . وهي دائماً تحتفظ بخصائصها الأصيلة . وفي كل مرة يرتد الناس إلى الجاهلية يقولون كلاماً متشابهاً ؛ وتسود فيهم تصورات متشابهة ، على تباعد الزمان والمكان . . وفي هذه الجاهلية التي نعيش فيها اليوم لا يفتأ يطلع علينا كاذب مفتر يقول ما يمليه عليه هواه ثم يقول : شريعة الله ! ولا يفتأ يطلع علينا متبجح وقح ينكر أوامر الدين ونواهيه المنصوص عليها ، وهو يقول : إن الدين لا يمكن أن يكون كذلك ! إن الدين لا يمكن أن يأمر بهذا ! إن الدين لا يمكن أن ينهى عن ذاك ، . . وحجته هي هواه ! ! !
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَآ آبَاءَنَا وَاللّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنّ اللّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَآءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } .
ذكر أن معنى الفاحشة في هذا الموضع ، ما :
حدثني عليّ بن سعيد بن مسروق الكنديّ ، قال : حدثنا أبو محياة عن منصور ، عن مجاهد : وَإذَا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللّهُ أمَرَنا بِها قال : كانوا يطوفون بالبيت عُراة ، يقولون : نطوف كما ولدتنا أمّهاتنا ، فتضع المرأة على قُبُلها النّسْعة أو الشيء فتقول :
اليَوْمَ يَبْدُو بَعْضُهُ أوْ كُلّه ***فَمَا بَدَا مِنْهُ فَلا أُحِلّهُ
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن مجاهد ، في قوله : وَإذَا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْهَا آباءَنا فاحشتهم أنهم كانوا يطوفون بالبيت عُراة .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبو أسامة ، عن مفضل ، عن منصور ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عمران بن عيينة ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير والشعبيّ : وَإذَا فَعَلُوا فاحِشَة قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا قال : كانوا يطوفون بالبيت عُراة .
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : وَإذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجْدنا عَلَيْها أباءَنا وَالله أمَرَنا بِها قال : كان قبيلة من العرب من أهل اليمن يطوفون بالبيت عراة ، فإذا قيل : لم تفعلون ذلك ؟ قالوا : وجدنا عليها آباءنا ، والله أمرنا بها .
حدثني الحرث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : وَإذَا فَعَلُوا فاحِشَةً قال : طوافهم بالبيت عراة .
حدثني الحرث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا أبو سعد ، عن مجاهد : وَإذَا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا قال : في طواف الحُمْس في الثياب وغيرهم عراة .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، قوله : وَإذَا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْهَا آباءَنا قال : كان نساؤهم يطفن بالبيت عراة ، فتلك الفاحشة التي وجدوا عليها آباءهم قُلْ إن الله لا يَأمُرُ بالفَحْشاءِ . . . الاَية .
فتأويل الكلام إذن : وإذا فعل الذي لا يؤمنون بالله الذين جعل الله الشياطين لهم أولياء قبيحا من الفعل وهو الفاحشة ، وذلك تعرّيهم للطواف بالبيت وتجرّدهم له ، فعُذِلوا على ما أتوا من قَبيح فعلهم وعُوتبوا عليه ، قالوا : وجدنا على مثل ما نفعل آباءنا ، فنحن نفعل مثل ما كانوا يفعلون ، ونقتدي بهديهم ونستنّ بسنتهم ، والله أمرنا به ، فنحن نتبع أمره فيه ، يقول الله جلّ ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : قل يا محمد لهم : إن الله لا يأمر بالفحشاء ، يقول : لا يأمر خلقه بقبائح الأفعال ومَساويها ، أتقولون أيها الناس على الله ما لا تعلمون يقول : أتروون على الله أنه أمركم بالتعرّي والتجرّد من الثياب واللباس للطواف ، وأنتم لا تعلمون أنه أمركم بذلك .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.