وعلى نفس القاعدة يجيء التعقيب الأخير :
( أولئك هم المؤمنون حقاً ، لهم درجات عند ربهم ، ومغفرة ، ورزق كريم ) . .
فهذه الصفات إنما يجدها في نفسه وفي عمله المؤمن الحق . فمن لم يجدها جملة لم يجد صفة الإيمان . وهي في الوقت ذاته تواجه الحالة التي تنزلت فيها الآيات . . ومن ثم تواجه الحرص على الشهادة بحسن البلاء ، بأن هؤلاء الذين يجدون هذه الصفات ( لهم درجات عند ربهم ) . . وتواجه ما وقع في ذات البين من سوء أخلاق - كما قال عبادة بن الصامت - بأن الذين يجدون هذه الصفات لهم عند ربهم( مغفرة ) . . وتواجه ما وقع من نزاع على الأنفال بأن الذين يجدون هذه الصفات لهم عند ربهم ( رزق كريم ) . . فتغطي الحالة كلها ، كل ما لابسها من مشاعر ومواقف . وتقرر في الوقت ذاته حقيقة موضوعية ؛ وهي أن هذه صفات المؤمنين ، من فقدها جملة لم يجد حقيقة الإيمان .
( أولئك هم المؤمنون حقاً ) . . .
وقد كانت العصبة المسلمة الأولى تُعلم أن للإيمان حقيقة لا بد أن يجدها الإنسان في نفسه ، وأنه ليس الإيمان دعوى ولا كلمات لسان ، ولا هو بالتمني . . قال الحافظ الطبراني : حدثنا محمد بن عبد الله الحضرمي ، حدثنا أبو كريب ، حدثنا زيد بن الحباب ، حدثنا ابن لهيعة ، عن خالد بن يزيد السكسكي ، عن سعيد ابن أبي هلال ، عن محمد بن أبي الجهم ، عن الحارث بن مالك الأنصاري ، أنه مر برسول الله [ ص ] فقال له : " كيف أصبحت يا حارث ? " قال : أصبحت مؤمناً حقا . قال : " انظر ما تقول ، فإن لكل شيء حقيقة ، فما حقيقة إيمانك ? " فقال : عزفت نفسي عن الدنيا ، فأسهرتُ ليلي وأظمأتُ نهاري . وكأني أنظر إلى عرش ربي بارزا . وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها . وكأني أنظر إلى أهل النار يتضاغون فيها . فقال : " يا حارث . عرفت فالزم " . . ثلاثاً . . . ولقد ذكر هذا الصحابي الذي استحق شهادة رسول الله [ ص ] له بالمعرفة من حال نفسه ، ما يصور مشاعره ويشي بما وراء هذه المشاعر من عمل وحركة . فالذي كأنه ينظر إلى عرش ربه بارزاً ، وينظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها ، وإلى أهل النار يتضاغون فيها ، لا ينتهي إلى مجرد النظر . إنما هو يعيش ويعمل ويتحرك في ظل هذه المشاعر القوية المسيطرة التي تصبغ كل حركة وتؤثر فيها . ذلك إلى جانب ما أسهر ليله وأظمأ نهاره ، وكأنما هو ناظر إلى عرش ربه بارزاً . . . .
إن حقيقة الإيمان يجب أن ينظر إليها بالجد الواجب ؛ فلا تتميع حتى تصبح كلمة يقولها لسان ، ومن ورائها واقع يشهد ظاهرة شهادة بعكس ما يقوله اللسان ! إن التحرج ليس معناه التميع ! والشعور بجدية الحقيقة الإيمانية أوجب ؛ والتحرج في تصورها ألزم . وبخاصة في قلوب العصبة المؤمنة التي تحاول إعادة إنشاء هذا الدين في دنيا الواقع ، التي غلبت عليها الجاهلية ، وصبغتها بصبغتها المنكرة القبيحة !
القول في تأويل قوله تعالى : { الّذِينَ يُقِيمُونَ الصّلاَةَ وَمِمّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * أُوْلََئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } . .
يقول تعالى ذكره : الذين يؤدّون الصلاة المفروضة بحدودها ، وينفقون مما رزقهم الله من الأموال فيما أمرهم الله أن ينفقوها فيه من زكاة وجهاد وحجّ وعمرة ونفقة على من تجب عليهم نفقته ، فيؤدّون حقوقهم . أولَئِكَ يقول : هؤلاء الذين يفعلون هذه الأفعال . هُمُ المُؤْمِنُونَ لا الذين يقولون بألسنتهم قد آمنا وقلوبهم منطوية على خلافه نفاقا ، لا يقيمون صلاة ولا يؤدّون زكاة .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية بن صالح ، عن عليّ ، عن ابن عباس : الّذِينَ يُقِيمُونَ الصّلاةَ يقول : الصلوات الخمس . وممّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ يقول : زكاة أموالهم . أُولَئِكَ هُمُ المُؤْمِنُونَ حَقّا يقول : برئوا من الكفر . ثم وصف الله النفاق وأهله ، فقال : إنّ الّذِينَ يَكْفُرُونَ باللّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أنْ يُفَرّقُوا بينَ اللّهَ وَرُسُلِهِ . . . إلى قوله : أُولَئِكَ هُمُ الكافِرُونَ حَقّا فجعل الله المؤمن مؤمنا حقّا ، وجعل الكافر كافرا حقّا ، وهو قوله : هُوَ الّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : أُولَئِكَ هُمُ المُؤْمِنُونَ حَقّا قال : استحقوا الإيمان بحقّ ، فأحقه الله لهم .
القول في تأويل قوله تعالى : لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ .
يعني جلّ ثناؤه بقوله : لَهُمْ دَرَجاتٌ لهؤلاء المؤمنين الذين وصف جلّ ثناؤه صفتهم درجات ، وهي مراتب رفيعة .
ثم اختلف أهل التأويل في هذه الدرجات التي ذكر الله أنها لهم عنده ما هي ، فقال بعضهم : هي أعمال رفيعة وفضائل قدّموها في أيام حياتهم . ذكر من قال ذلك .
حدثني أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن أبي يحيى القتات ، عن مجاهد : لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبّهِمْ قال : أعمال رفيعة .
وقال آخرون : بل ذلك مراتب في الجنة . ذكر من قال ذلك .
حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا سفيان ، عن هشام بن جبلة ، عن عطية ، عن ابن محيريز : لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبّهِمْ قال : الدرجات سبعون درجة ، كل درجة حضر الفرس الجواد المضمّر سبعين سنة .
وقوله وَمَغْفرَةٌ يقول : وعفو عن ذنوبهم وتغطية عليها . وَرِزْقٌ كَرِيمٌ قيل : الجنة . وهو عندي ما أعدّ الله في الجنة لهم من مزيد المآكل والمشارب وهنيء العيش .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، عن هشام ، عن عمرو ، عن سعيد ، عن قتادة : وَمَغْفِرَةٌ قال : لذنوبهم . وَرِزْقٌ كَرِيمٌ قال : الجنة .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.