ومن لطف اللّه بموسى وأمه ، أن منعه من قبول ثدي امرأة ، فأخرجوه إلى السوق رحمة به ، ولعل أحدا يطلبه ، فجاءت أخته ، وهو بتلك الحال { فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ }
وهذا جُلُّ غرضهم ، فإنهم أحبوه حبا شديدا ، وقد منعه اللّه من المراضع فخافوا أن يموت ، فلما قالت لهم أخته تلك المقالة ، المشتملة على الترغيب ، في أهل هذا البيت ، بتمام حفظه وكفالته والنصح له ، بادروا إلى إجابتها ، فأعلمتهم ودلتهم على أهل هذا البيت .
الواو للحال من ضمير { لأخته } [ القصص : 11 ] . والتحريم : المنع ، وهو تحريم تكويني ، أي قدّرنا في نفس الطفل الامتناع من التقام أثداء المراضع وكراهتها ليضطر آل فرعون إلى البحث عن مرضع يتقبّل ثديها ؛ لأن فرعون وامرأته حريصان على حياة الطفل ، ومن مقدمات ذلك أن جعل الله إرضاعه من أمه مدة تعود فيها بثديها .
ومعنى { من قبل } من قبل التقاطه وهو إيذان بأن ذلك التحريم مما تعلق به علم الله وإرادته في الأزل .
والفاء في قوله { فقالت } فاء فصيحة تؤذن بجملة مقدرة ، أي فأظهرت أخته نفسها كأنها مرت بهم عن غير قصد . وإنما قالت ذلك بعد أن فشا في الناس طلب المراضع له وتبديل مرضعة عقب أخرى حتى عُرض على عدد كثير في حصة قصيرة ، وذلك بسرعة مقدرة آل فرعون وكثرة تفتيشهم على المراضع حتى ألفوا عدداً كثيراً في زمن يسير ، وأيضاً لعرض المراضع أنفسهن على آل فرعون لما شاع أنهم يتطلبون مرضعاً .
وعرضت سعيها في ذلك بطريق الاستفهام المستعمل في العرض تلطّفاً مع آل فرعون وإبعاداً للظنة عن نفسها .
ومعنى { يكفلونه } يتعهدون بحفظه وإرضاعه . فيدل هذا على أن عادتهم في الإرضاع أن يسلم الطفل الرضيع إلى المرأة التي ترضعه يكون عندها كما كانت عادة العرب لأن النساء الحرائر لم يكن يرضين بترك بيوتهن والانتقال إلى بيوت آل الأطفال الرضعاء . كما جاء في خبر إرضاع محمد صلى الله عليه وسلم عند حليمة بنت وهب في حي بني سعد بن بكر . قال صاحب « الكشاف » : فدفعه فرعون إليها وأجرى لها وذهبت به إلى بيتها .
والعدول عن الجملة الفعلية إلى الإسمية في قوله { وهم له ناصحون } لقصد تأكيد أن النصح من سجاياهم ومما ثبت لهم فلذلك لم يقل : وينصحون له كما قيل { يكفلونه لكم } لأن الكفالة أمر سهل بخلاف النصح والعناية .
وتعليق { له } ب { ناصحون } ليس على معنى التقييد بل لأنه حكاية الواقع . فالمعنى : أن النصح من صفاتهم فهو حاصل له كما يحصل لأمثاله حسب سجيتهم . والنصح : العمل الخالص الخلي من التقصير والفساد .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وحرمنا عليه المراضع من قبل} أن يصير إلى أمه، وذلك أنه لم يقبل ثدي امرأة {فقالت} أخته {هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم} يعني: يضمنون لكم رضاعه، {وهم له} للولد {ناصحون} هن أشفق عليه وأنصح له من غيره، فأرسل إليها فجاءت، فلما وجد الصبي ريح أمه قبل ثديها. فذلك قوله عز وجل: {فرددناه إلى أمه كي تقر عينها ولا تحزن ولتعلم أن وعد الله حق}.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: ومنعنا موسى المراضع أن يرتضع منهنّ من قبل أمه. ذكر أن أختا لموسى هي التي قالت لآل فرعون:"هَلْ أدُلكُمْ عَلى أهْلِ بَيْتٍ يكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَه ناصِحونَ"... ويعني بقوله "يكْفُلُونَهُ لَكُمْ": يضمونه لكم. وقوله: "وَهُمْ لَهُ ناصِحونَ "ذكر أنها أخذت، فقيل: قد عرفته، فقالت: إنما عنيت أنهم للملك ناصحون.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{وحرمنا عليه المراضع من قبل} حرم تحريم منع وحظر: التحريم الذي ضده الإطلاق والإرسال لا التحريم الذي ضده الحل؛ وذلك لطف من الله تعالى وفضل ورحمة حين منع موسى عن أن يرضع من النساء، وهو طفل، وهمة أمثاله الارتضاع والرغبة في التناول من كل لبن ومن كل مرضع ترضعه لا تمييز له في الارتضاع. فدل امتناعه وكفه نفسه عن الارتضاع من النساء جميعا أن ذلك لطف من الله أعطاه ليمتنع عنه...
وفيه لطف آخر، وهو أن فرعون والقبط كانوا يقتلون الولدان من الذكور ليصير الذي يخاف هلاكه وذهاب ملكه على يديه مقتولا. فجعل الله بلطفه ورحمته محبته في قلب فرعون وقلوب أهله حتى صار أحب الخلق إليهم، وصاروا أشفق الناس وأرحمهم عليه حتى خافوا هلاكه، وطلبوا له المراضع لئلا يهلك بعد ما كانوا يطلبون هلاكه وتلفه. وذلك لطف منه له ورحمة. وهو ما قال: {وألقيت عليك محبة مني} [طه: 39]. وبالله يستفاد كل فضل ونعمة...
{فقالت هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم} قوله: {فقالت} أي أخته التي كانت تتبعه، وتمشي على إثره، وذلك منها عدم تعريض الدلالة لهم إلى أمه لئلا يشعروا أنها أمه حين قالت: {هل أدلكم على أهل بيت} ولم تقل: على امرأة لها لبن وهي ترضع. ولعلها لو قالت لهم ذاك وقع عندهم أنها أمه. ولكن دلتهم على بيت ليقع عندهم أنهم أهل بيت قتل ولدهم، ولهم ولد {يكفلونه لكم} أي يقبلونه، ويضمونه إلى أنفسهم {وهم له ناصحون}...
يحتمل قوله: {وهم له ناصحون} أي لفرعون، لا يخونوه فيه. ويحتمل {وهم له ناصحون} لموسى.
الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :
... {وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ} والنصح: إخلاص العمل من شائب الفساد، وهو نقيض الغش.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{من قبل} أي من قبل أن رددناه إلى أمه ومن قبل مجيء أخت موسى عليه السلام، ومن قبل ولادته في حكمنا وقضائنا.
... {يكفلونه}، معناه: يحسنون تربيته وإرضاعه.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كان ذلك أحد الأسباب في رده، ذكر في جملة حالية سبباً آخر قريباً منه فقال: {وحرمنا} أي منعنا بعظمتنا التي لا يتخلف أمرها، ويتضاءل كل شيء دونها {عليه المراضع} جمع مرضعة، وهي من تكترى للرضاع من الأجانب، أي حكمنا بمنعه من الارتضاع منهن، استعار التحريم للمنع لأنه منع فيه رحمة؛ قال الرازي في اللوامع: تحريم منع لا تحريم شرع.
ولما كان قد ارتضع من أمه من حين ولدته إلى حين إلقائه في اليم، فلم يستغرق التحريم الزمان الماضي، أثبت الجار فقال: {من قبل} أي قبل أن تأمر أمه أخته بما أمرتها به وبعد إلقائها له، ليكون ذلك سبباً لرده إليها، فلم يرضع من غيرها فأشفقوا عليه فأتتهم أخته فقالوا لها: هل عندك مرضعة تدلينا عليها لعله يقبل ثديها؟ {فقالت} أي فدنت أخته منه بعد نظرها له فقالت لهم لما رأتهم في غاية الاهتمام برضاعه لما عرضوا عليه المراضع فأبى أن يرتضع من واحدة منهن: {هل} لكم حاجة في أني {أدلكم على أهل بيت} ولم يقل: على امرأة، لتوسع دائرة الظن {يكفلونه لكم} أي يأخذونه ويعولونه ويقومون بجميع مصالحه من الرضاع وغيره لأجلكم، وزادتهم رغبة بقولها: {وهم له ناصحون} أي ثابت نصحهم له، لا يغشونه نوعاً من الغش... فكادت بهذا الكلام تصرح بأن المدلول عليها أمه، فارتابوا من كلامها فاعتذرت بأنهم يعملون ذلك تقرباً إلى الملك وتحبباً إليه تعززاً به، فظنوا ذلك، وهذا وأمثاله بيان من الله تعالى لأنه لا يعلم أحد في السماوات والأرض الغيب إلا هو سبحانه، فلا يصح أن يكون غيره إلهاً، فلما سكنوا إليها طلبوا أن تدلهم، فأتت بأمها فأحللنا له رضاعها فأخذ ثديها.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
إن القدرة التي ترعاه تدبر أمره، وتكيد به لفرعون وآله؛ فتجعلهم يلتقطونه، وتجعلهم يحبونه، وتجعلهم يبحثون له عن ظئر ترضعه، وتحرم عليه المراضع، لتدعهم يحتارون به؛ وهو يرفض الثدي كلما عرضت عليه، وهم يخشون عليه الموت أو الذبول! حتى تبصر به أخته من بعيد، فتعرفه وتتيح لها القدرة فرصة لهفتهم على مرضع، فتقول لهم: (هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون)؟ فيتلقفون كلماتها، وهم يستبشرون، يودون لو تصدق فينجو الطفل العزيز المحبوب!
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
العدول عن الجملة الفعلية إلى الاسمية في قوله {وهم له ناصحون} لقصد تأكيد أن النصح من سجاياهم ومما ثبت لهم فلذلك لم يقل: وينصحون له كما قيل {يكفلونه لكم} لأن الكفالة أمر سهل بخلاف النصح والعناية. وتعليق {له} ب {ناصحون} ليس على معنى التقييد بل لأنه حكاية الواقع. فالمعنى: أن النصح من صفاتهم فهو حاصل له كما يحصل لأمثاله حسب سجيتهم. والنصح: العمل الخالص الخلي من التقصير والفساد.
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.