اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{۞وَحَرَّمۡنَا عَلَيۡهِ ٱلۡمَرَاضِعَ مِن قَبۡلُ فَقَالَتۡ هَلۡ أَدُلُّكُمۡ عَلَىٰٓ أَهۡلِ بَيۡتٖ يَكۡفُلُونَهُۥ لَكُمۡ وَهُمۡ لَهُۥ نَٰصِحُونَ} (12)

قوله : { وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ المراضع }{[39799]} قيل : يجوز أن يكون جمع مُرْضِع وهي المرأة ، وقيل : جمع مَرْضَع بفتح الميم والضاد ، ثم جَوَّزوا فيه أن يكون مكاناً أي : مكان الإِرضاع وهو الثَّدي وأن يكون مصدراً أي : الإرْضَاعاتُ ، أن : أنواعها{[39800]} ، و «مِنْ قَبْلُ » أي : من قبل قصِّهَا أَثرهُ{[39801]} ، أو من قبل مجيء أخته ، ومن قبل ولادته في حكمنا وقضائنا{[39802]} . والمراد من التحريم المنع ، لأن التحريم بالنهي تعبّد وذلك لا يصح ، فلا بُدَّ من فِعْل سواه ، فيحتمل أن - تعالى - غيَّر طبعه عن لبن سائر النساء ، فلذلك لم يرتضع أو أحدث في لبنهن طعماً ينفر عنه طبعه ، أو وضع في لبن أمه لذة تعود بها ، فكان يكره لبن غيرها{[39803]} .

فصل :

قال ابن عباس : إن امرأة فرعون كان همَّها من الدنيا أن تجد له مرضعة ، فكل ما أتوه بمرضعة لم يأخذ ثديها ؛ فذلك قوله عزَّ وجلَّ { وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ المراضع }{[39804]} ، فلمَّا رأت أخت موسى التي أرسلتها أمّه في طلبه ذلك { فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ على أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ } أي : يرضعونه لكم{[39805]} ويضمنونه ، وهي امرأة قد قُتِلَ ولدها فأحبُّ شيءٍ إليها أن تجد صغيراً ترضعه{[39806]} .

قوله : { وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ } الظاهر أنه ضمير موسى ، وقيل لفرعون{[39807]} ، قال ابن جُريج والسُّديّ : لما قالت أخت موسى { وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ } استنكروا حالها وتفرّسوا أنها قرابتُه ، فقالت : إنَّمَا أَرَدْتُ وهم للملك ناصِحُونَ ، فتخلَّصَت منهم{[39808]} ، وهذا يُسمى عند أهل البيان الكلام الموجَّه{[39809]} ومثله : لما سُئِل بعضهم وكان بين أقوام بعضهم يحب عليّاً دون غيره ، وبعضهم أبا بكر وبعضهم عمر وبعضهم عثمان ، فقيل له : أيهم أحبّ إلى رسول الله ؟ فقال{[39810]} : من كانت ابنته تحته . وقيل لما تفرّسوا أنه قرابتُهُ قالت : إنما قلت هذا رغبة في سرور الملك ، واتصالنا به{[39811]} . وقيل : إنها لما قالت : " هل أدلكم على أهل بيت " ، قالوا لها : من ؟ قالت : أمي . قالوا : ولأمك ابن ؟ قالت : نعم ، هارون ، وكان هارون ولد في سنة لا يقتل فيها . قالوا : صدقت ، فائتينا بها ، فانطلقت إلى أمه فأخبرتها بحال ابنها ، وجاءت بها إليهم ، فلما وجد الصبي ريح أمه قبل ثديها وجعل يمصّه حتى امتلأ جنباه ريّاً{[39812]} .

والنصح : إخلاص العمل من سائر الفساد{[39813]} .


[39799]:في ب: "وحرّمنا عليه المراضع من قبل".
[39800]:انظر الكشاف 3/159، البحر المحيط 7/107-108.
[39801]:المرجعان السابقان.
[39802]:انظر الفخر الرازي 24/230.
[39803]:المرجع السابق.
[39804]:انظر البغوي 6/323.
[39805]:لكم: سقط من ب.
[39806]:انظر البغوي 6/324.
[39807]:انظر البحر المحيط 7/108.
[39808]:انظر البغوي 6/344، القرطبي 13/257، البحر المحيط 7/108.
[39809]:المعروف في علم البديع أن مثل هذا يسمى التوجيه، وهو إيراد الكلام محتملاً لوجهين مختلفين كقول من قال لأعور يسمى عمراً: خاط لي عمرو قباءً *** ليست عينيه سواء وقيل: عبارة عن وجه ينافي كلام الخصم، ومنه المثال الذي أتى به ابن عادل، أما الموجَّه فهو أن يمدح بشيء يقتضي المدح لشيء آخر. انظر الإيضاح (387-388)
[39810]:في ب: فقالت.
[39811]:انظر البغوي 6/324.
[39812]:المرجع السابق.
[39813]:انظر الكشاف 3/159.