ولما ذكر الكاذب المكذب وجنايته وعقوبته ، ذكر الصادق المصدق وثوابه ، فقال : { وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ } في قوله وعمله ، فدخل في ذلك الأنبياء ومن قام مقامهم ، ممن صدق فيما قاله عن خبر اللّه وأحكامه ، وفيما فعله من خصال الصدق .
{ وَصَدَّقَ بِهِ } أي : بالصدق لأنه قد يجيء الإنسان بالصدق ، ولكن قد لا يصدق به ، بسبب استكباره ، أو احتقاره لمن قاله وأتى به ، فلا بد في المدح من الصدق والتصديق ، فصدقه يدل على علمه وعدله ، وتصديقه يدل على تواضعه وعدم استكباره .
{ أُولَئِكَ } أي : الذين وفقوا للجمع بين الأمرين { هُمُ الْمُتَّقُونَ } فإن جميع خصال التقوى ترجع إلى الصدق بالحق والتصديق به .
الذي جاء بالصدق هو محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم والصدق : القرآن كما تقدم آنفاً في قوله : { وكذَّب بالصدق إذ جاءه } [ الزمر : 32 ] .
وجملة { وصدَّقَ بهِ } صلة موصوللٍ محذوففٍ تقديره : والذي صدق به ، لأن المصدق غير الذي جاء بالصدق ، والقرينة ظاهرة لأن الذي صَدَّق غير الذي جاء بالصدق فالعطف عطف جملة كاملة وليس عطف جملة صِلة .
وضمير { بِهِ } يجوز أن يعود على ( الصدق ) ويجوز أن يعود على الذي { جَاءَ بالصِدْق ، } والتصديق بكليهما متلازم ، وإذ قد كان المصدقون بالقرآن أو بالنبي صلى الله عليه وسلم من ثبت له هذا الوصف كان مراداً به أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وهم جماعة فلا تقع صفتهم صلة ل { الذي } لأن أصله للمفرد ، فتعين تأويله بفريق ، وقرينته { أولئك هم المتقون ، } وإنما أفرد عائد الموصول في قوله : { وصَدَّقَ } رعياً للفظ { الذي } وذلك كله من الإِيجاز .
وروى الطبري بسنده إلى علي بن أبي طالب أنه قال : الذي جاء بالصدق محمد صلى الله عليه وسلم والذي صدق به أبو بكر ، وقاله الكلبي وأبو العالية ، ومحمله على أن أبا بكر أول من صدّق النبي صلى الله عليه وسلم .
وجملة { أولئك هم المتقون } خبر عن اسم الموصول . وجيء باسم الإشارة للعناية بتمييزهم أكمل تمييز . وضمير الفصل في قوله { هم المتقون } يفيد قصر جنس المتقين على { الذي جاء بالصدق وصدق به } لأنه لا متقي يومئذٍ غير الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه وكلهم متقون لأن المؤمنين بالنبي صلى الله عليه وسلم لما أشرقت على نفوسهم أنوار الرسول صلى الله عليه وسلم تَطهرت ضمائرهم من كل سيئة فكانوا محفوظين من الله بالتقوى قال تعالى : { كنتم خير أمة أخرجت للناس } [ آل عمران : 110 ] . والمعنى : أولئك هم الذين تحقق فيهم ما أريد من إنزال القرآن الذي أشير إليه في قوله : { لعلهم يتقون } [ الزمر : 28 ] .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{والذي جاء بالصدق} يعني بالحق، وهو النبي صلى الله عليه وسلم جاء بالتوحيد.
{وصدق به} يعني بالتوحيد، المؤمنون صدقوا بالذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، والمؤمنون أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فذلك قوله: {أولئك هم المتقون} الشرك من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
اختلف أهل التأويل في الذي جاء بالصدق وصدّق به، وما ذلك؛ فقال بعضهم: الذي جاء بالصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم. قالوا: والصدق الذي جاء به: لا إله إلا الله، والذي صدّق به أيضا، هو رسول الله صلى الله عليه وسلم...
وقال آخرون: الذي جاء بالصدق: رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي صدّق به: أبو بكر رضي الله عنه...
وقال آخرون: الذي جاء بالصدق: رسول الله صلى الله عليه وسلم، والصدق: القرآن، والمصدقون به: المؤمنون...
وقال آخرون: الذي جاء بالصدق جبريل، والصدق: القرآن الذي جاء به من عند الله، وصدّق به رسول الله صلى الله عليه وسلم...
وقال آخرون: الذي جاء بالصدق: المؤمنون، والصدق: القرآن، وهم المصدّقون به... عن مجاهد قوله:"وَالّذِي جاءَ بالصّدْقِ وَصَدّقَ بِهِ" قال: الذين يجيئون بالقرآن يوم القيامة، فيقولون: هذا الذي أعطيتمونا فاتبعنا ما فيه...
والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله تعالى ذكره عنى بقوله: "وَالّذِي جاءَ بالصّدْقِ وَصَدّقَ بِهِ "كلّ من دعا إلى توحيد الله، وتصديق رسله، والعمل بما ابتعث به رسوله صلى الله عليه وسلم من بين رسل الله وأتباعه والمؤمنين به، وأن يقال: الصدق هو القرآن، وشهادة أن لا إله إلا الله، والمصدّق به: المؤمنون بالقرآن، من جميع خلق الله كائنا من كان من نبيّ الله وأتباعه.
وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب، لأن قوله تعالى ذكره: "وَالّذِي جاءَ بالصّدْقِ وَصَدّقَ بِهِ" عقيب قوله: "فَمَنْ أظْلَمُ مِمّنْ كَذَبَ على اللّهِ، وَكَذّبَ بالصّدْقِ إذْ جاءَهُ" وذلك ذمّ من الله للمفترين عليه، المكذّبين بتنزيله ووحيه، الجاحدين وحدانيته، فالواجب أن يكون عقيب ذلك مدح من كان بخلاف صفة هؤلاء المذمومين، وهم الذين دعوهم إلى توحيد الله، ووصفه بالصفة التي هو بها، وتصديقهم بتنزيل الله ووحيه، والذي كانوا يوم نزلت هذه الآية، رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ومن بعدهم، القائمون في كل عصر وزمان بالدعاء إلى توحيد الله، وحكم كتابه، لأن الله تعالى ذكره لم يخصّ وصفه بهذه الصفة التي في هذه الآية على أشخاص بأعيانهم، ولا على أهل زمان دون غيرهم، وإنما وصفهم بصفة، ثم مدحهم بها، وهي المجيء بالصدق والتصديق به، فكل من كان كذلك وصفه فهو داخل في جملة هذه الآية إذا كان من بني آدم.
ومن الدليل على صحة ما قلنا أن ذلك كذلك في قراءة ابن مسعود: «والّذِينَ جاءُوا بالصدْقِ وصدّقُوا بِهِ» فقد بين ذلك من قراءته أن الذي من قوله "وَالّذِي جاءَ بالصّدْقِ" لم يعن بها واحد بعينه، وأنه مراد بها جِمَاعٌ ذلك صفتهم، ولكنها أخرجت بلفظ الواحد، إذ لم تكن مؤقتة...
وأما الذين قالوا: عني بقوله: "وَصَدّقَ بِهِ": غير الذي جاء بالصدق، فقول بعيد من المفهوم، لأن ذلك لو كان كما قالوا لكان التنزيل: والذي جاء بالصدق، والذي صدق به أولئك هم المتقون فكانت تكون «الذي» مكرّرة مع التصديق، ليكون المصدق غير المصدق فأما إذا لم يكرّر، فإن المفهوم من الكلام، أن التصديق من صفة الذي جاء بالصدق، لا وجه للكلام غير ذلك. وإذا كان ذلك كذلك، وكانت «الذي» في معنى الجماع بما قد بيّنا، كان الصواب من القول في تأويله ما بَيّنا.
وقوله: "أُولَئِكَ هُمُ المُتّقُونَ" يقول جلّ ثناؤه: هؤلاء الذين هذه صفتهم، هم الذين اتقوا الله بتوحيده والبراءة من الأوثان والأنداد، وأداء فرائضه، واجتناب معاصيه، فخافوا عقابه... عن ابن عباس، "أُولَئِكَ هُمُ المُتّقُونَ" يقول: اتقوا الشرك.
اعلم أنه تعالى أثبت للذي جاء بالصدق وصدق به أحكاما كثيرة:
فالحكم الأول: قوله: {أولئك هم المتقون} وتقريره أن التوحيد والشرك ضدان، وكلما كان أحد الضدين أشرف وأكمل كان الضد الثاني أخس وأرذل، ولما كان التوحيد أشرف الأسماء كان الشرك أخس الأشياء، والآتي بأحد الضدين يكون تاركا للضد الثاني، فالآتي بالتوحيد الذي هو أفضل الأشياء يكون تاركا للشرك الذي هو أخس الأشياء وأرذلها، فلهذا المعنى وصف المصدقين بكونهم متقين...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما ذكر سبحانه الظالمين بالكذب ذكر أضدادهم الذين يخاصمونهم عند ربهم وهم المحسنون بالصدق فقال: {والذي} أي الفريق الذي {جاء بالصدق} أي الخبر المطابق للواقع، فصدق على الله، وتعريفه يدل على كماله، فيشير إلى أن الإتيان به ديدنه لا يتعمد كذباً.
{وصدق به} أي بكل صدق سمعه وقام عليه الدليل، وليس هو بجموده عدو ما لم يعلم، فهو يكذب بكل ما لم يسمع، فمن أعدل منه لكونه صدق على الله وصدق بالصدق إذ جاءه واستمر عليه، ولعله أفرد الضمير إشارة إلى قلة الموصوف بهذا الوصف من الصدق، وهذا الفريق هو الرسل وأتباعهم، ولذلك حصر التقوى فيهم، فقال مشيراً بالجمع إلى عظمتهم وإن كانوا قليلاً: {أولئك} أي العالو الرتبة
{هم} أي خاصة {المتقون} الذين جانبوا الظلم، فليس لجهنم عليهم سبيل، ولا لهم فيها منزل ولا مقيل، بل الجنة منزلهم، أليس في الجنة منزل للمتقين؟ فالآية من الاحتباك: ذكر أولاً المثوى في جهنم دليلاً على حذف ضده ثانياً، والاتقاء ثانياً دليلاً على حذف ضده أولاً، وسره أنه ذكر أنكأ ما للمجرم من الكفر وسوء الجزاء. وأسرّ ما للمسلم من قصر التقوى عليه، وذكر أحب جزائه إليه، والإشارة إلى عراقته في الإحسان، وفي الآيات احتباك آخر وهو أنه ذكر الكذب والتكذيب أولاً دليلاً على الصدق والتصديق ثانياً، والاتقاء وجزاءه وما يتبعه ثانياً دليلاً على ضده أولاً، وسره أنه ذكر في شق المسيء أنكأ ما يكون من الكذب والتكذيب في أقبح مواضعه، ولا سيما عند العرب، وأسر ما يكون في شق المحسن من استقامة الطبع وحسن الجزاء...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
فإن جميع خصال التقوى ترجع إلى الصدق بالحق والتصديق به...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
جملة {أولئك هم المتقون} خبر عن اسم الموصول، وجيء باسم الإشارة للعناية بتمييزهم أكمل تمييز. وضمير الفصل في قوله {هم المتقون} يفيد قصر جنس المتقين على {الذي جاء بالصدق وصدق به}؛ لأنه لا متقي يومئذٍ غير الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وكلهم متقون لأن المؤمنين بالنبي صلى الله عليه وسلم لما أشرقت على نفوسهم أنوار الرسول صلى الله عليه وسلم تَطهرت ضمائرهم من كل سيئة فكانوا محفوظين من الله بالتقوى قال تعالى: {كنتم خير أمة أخرجت للناس} [آل عمران: 110]. والمعنى: أولئك هم الذين تحقق فيهم ما أريد من إنزال القرآن الذي أشير إليه في قوله: {لعلهم يتقون} [الزمر: 28]...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
بهذا الشكل فإنّ الآية تتحدّث عن أناس هم من حملة الرسالة و من العاملين بها، وتتحدّث عن أولئك الذين ينشرون في العالم ما ينزل به الوحي من كلام البارئ عز وجل وهم يؤمنون به ويعملون به، وهكذا فإنّ الآية تضم الأنبياء والدعاة لنهج الأنبياء، والملفت للنظر أنّ الآية عن الوحي «بالصدق» وهو إشارة إلى أن الكلام الوحيد الذي لا يحتمل وجود الكذب والخطأ فيه هو كلام الله الذي نزل به الوحي، فإن سار الإنسان في ظلّ تعليمات نهج الأنبياء وصدقها فإنّ التقوى سوف تتفتح في داخل روحه...