ولهذا أخبر تعالى أن المال والبنين ، زينة الحياة الدنيا ، أي : ليس وراء ذلك شيء ، وأن الذي يبقى للإنسان وينفعه ويسره ، الباقيات الصالحات ، وهذا يشمل جميع الطاعات الواجبة والمستحبة من حقوق الله ، وحقوق عباده ، من صلاة ، وزكاة ، وصدقة ، وحج ، وعمرة ، وتسبيح ، وتحميد ، وتهليل ، وتكبير ، وقراءة ، وطلب علم نافع ، وأمر بمعروف ، ونهي عن منكر ، وصلة رحم ، وبر والدين ، وقيام بحق الزوجات ، والمماليك ، والبهائم ، وجميع وجوه الإحسان إلى الخلق ، كل هذا من الباقيات الصالحات ، فهذه خير عند الله ثوابا وخير أملا ، فثوابها يبقى ، ويتضاعف على الآباد ، ويؤمل أجرها وبرها ونفعها عند الحاجة ، فهذه التي ينبغي أن يتنافس بها المتنافسون ، ويستبق إليها العاملون ، ويجد في تحصيلها المجتهدون ، وتأمل كيف لما ضرب الله مثل الدنيا وحالها واضمحلالها ذكر أن الذي فيها نوعان : نوع من زينتها ، يتمتع به قليلا ، ثم يزول بلا فائدة تعود لصاحبه ، بل ربما لحقته مضرته وهو المال والبنون ونوع يبقى وينفع صاحبه على الدوام ، وهي الباقيات الصالحات .
وقوله { المال والبنون زينة الحياة الدنيا } لفظ الخبر ، لكن معه قرينة الضعة للمال والبنين لأنه في المثل ، قبل حقر أمر الدنيا وبنيه ، فكأنه يقول في هذه : إنما المال والبنون زينة هذه الحياة المحقرة ، فلا تتبعوها نفوسكم ، وقوله { زينة } مصدر ، وقد أخبر به عن أشخاص فإما أن يكون على تقدير محذوف ، وتقديره مقر زينة الحياة الدنيا ، وما أن نضع المال والبنين بمنزلة الغنى والكثرة ، واختلف الناس في { الباقيات الصالحات } فقال ابن عباس وابن جبير وأبو ميسرة عمرو بن شرحبيل : هي الصلوات الخمس وقال الجمهور هي الكلمات المأثور فضلها : سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله ، والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، روي في هذا حديث : «أكثروا من الباقيات الصالحات »{[7816]} ، وقاله أيضاً ابن عباس ، وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من طريق أبي هريرة وغيره أن هذه الكلمات هي الباقيات الصالحات{[7817]} ، وقال ابن عباس أيضاً { الباقيات الصالحات } : كل عمل صالح من قول أو فعل يبقى للآخرة ورجحه الطبري{[7818]} ، وقال ابن عباس بكل الأقوال دليل على قوله بالعموم ، وقوله { خير ثواباً وخير أملاً } صاحبها ينتظر الثواب وينبسط على خير من حال ذي المال والبنين دون عمل صالح .
اعتراض أريد به الموعظة والعبرة للمؤمنين بأن ما فيه المشركون من النعمة من مال وبنين ما هو إلا زينة الحياة الدنيا التي علمتم أنها إلى زوال ، كقوله تعالى : { لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد متاع قليل } [ آل عمران : 196 ] وأن ما أعد الله للمؤمنين خير عند الله وخير أملاً . والاغتباط بالمال والبنين شنشنة معروفة في العرب ، قال طرفة :
فلو شاء ربي كنت قيس بن عاصم *** ولو شاء ربي كنت عمرو بن مرثد
فأصبحت ذا مال كثير وطاف بي *** بنون كـــــــرام سادة لمسوّد
و{ والباقيات الصالحات } صفتان جرتا على موصوف محذوف ، أي الأعمال الصالحات الباقيات ، أي التي لا زوال لها ، أي لا زوال لخيرها ، وهو ثوابها الخالد ، فهي خيرٌ من زينة الحياة الدنيا التي هي غير باقية .
وكان مقتضى الظاهر في ترتيب الوصفين أن يقدم { الصالحات } على { والباقيات } لأنهما وإن كانا وصفين لموصوف محذوف إلا أن أعرفهما في وصفية ذلك المحذوف هو الصالحات ، لأنه قد شاع أن يقال : الأعمال الصالحات ولا يقال الأعمال الباقيات ، ولأن بقاءها مترتب على صلاحها ، فلا جرم أن الصالحات وصف قام مقام الموصوف وأغنى عنه كثيراً في الكلام حتى صار لفظ ( الصالحات ) بمنزلة الاسم الدال على عمل خير ، وذلك كثير في القرآن قال تعالى : { وعملوا الصالحات } [ الكهف : 107 ] ، وفي كلامهم قال جرير :
كيف الهجاء وما تنفك صالحةٌ *** من آل لأم بِظَهر الغيب تأتيني
ولكن خولف مقتضى الظاهر هنا ، فقدم ( الباقيات ) للتنبيه على أن ما ذكر قبله إنما كان مفصولاً لأنه ليس بباقٍ ، وهو المال والبنون ، كقوله تعالى : { وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع } [ الرعد : 26 ] ، فكان هذا التقديم قاضياً لحق الإيجاز لإغنائه عن كلام محذوف ، تقديره : أن ذلك زائل أو ما هو بباق والباقيات من الصالحات خير منه ، فكان قوله : { فأصبح هشيماً تذروه الرياح } [ الكهف : 45 ] مفيداً للزوال بطريقة التمثيل وهو من دلالة التضمن ، وكان قوله : والباقيات } مفيداً زوال غيرها بطريقة الالتزام ، فحصل دلالتان غير مطابقتين وهما أوقع في صناعة البلاغة ، وحصل بثانيتهما تأكيد لمفاد الأولى فجاء كلاماً مؤكداً موجزاً .
ونظير هذه الآية آية سورة مريم قوله : { والباقيات الصالحات خير عند ربك ثواباً وخير مرداً } [ مريم : 76 ] فإنه وقع إثر قوله : { وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين كفروا للذين آمنوا أي الفريقين خير مقاماً وأحسن ندياً وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أحسن أثاثاً ورئياً } [ مريم : 73 74 ] الآية .
وتقديم المال على البنين في الذكر لأنه أسبق خطوراً لأذهان الناس ، لأنه يرغَب فيه الصغير والكبير والشاب والشيخ ومن له من الأولاد ما قد كفاه ولذلك أيضاً قدم في بيت طرفة المذكور آنفاً .
ومعنى { وخير أملاً } أن أمل الآمل في المال والبنين إنما يأمل حصول أمر مشكوك في حصوله ومقصور على مدته . وأما الآمل لثواب الأعمال الصالحة فهو يأمل حصول أمر موعود به من صادق الوعد ، ويأمل شيئاً تحصل منه منفعة الدنيا ومنفعة الآخرة كما قال تعالى : { من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون } [ النحل : 97 ] . فلا جرم كان قوله : { وخير أملاً } بالتحقق والعموم تذييلاً لما قبله .
يحيى: عن مالك، عن عمارة بن صياد، عن سعيد بن المسيب، أنه سمعه يقول في {والباقيات الصالحات}: إنها قول العبد: الله أكبر، وسبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله ولا حول ولا قوة إلا بالله...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: المال والبنون أيها الناس التي يفخر بها عيينة والأقرع، ويتكبران بها على سلمان وخباب وصهيب، مما يتزين به في الحياة الدنيا، وليسا من عداد الآخرة "والباقياتُ الصّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبّكَ ثَوَابا "يقول: وما يعمل سلمان وخباب وصهيب من طاعة الله، ودعائهم ربهم بالغداة والعشيّ يريدون وجهه، الباقي لهم من الأعمال الصالحة بعد فناء الحياة الدنيا، خير يا محمد عند ربك ثوابا من المال والبنين التي يفتخر هؤلاء المشركون بها، التي تفنى، فلا تبقى لأهلها، "وخَيْرٌ أمَلاً" يقول: وما يؤمل من ذلك سلمان وصهيب وخباب، خير مما يؤمل عيينة والأقرع من أموالهما وأولادهما. وهذه الآيات من لدن قوله: "وَاتْلُ ما أُوحيَ إلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبّكَ" إلى هذا الموضع، ذُكر أنها نزلت في عيينة والأقرع...
واختلف أهل التأويل في المعنيّ بالباقيات الصالحات، اختلافهم في المعنىّ بالدعاء الذي وصف جلّ ثناؤه به الذين نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن طردهم، وأمره بالصبر معهم؛
فقال بعضهم: هي الصلوات الخمس. وقال بعضهم: هي ذكر الله بالتسبيح والتقديس والتهليل، ونحو ذلك.
وقال بعضهم: هي العمل بطاعة الله.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، قول من قال: هنّ جميع أعمال الخير... لأن ذلك كله من الصالحات التي تبقى لصاحبها في الآخرة، وعليها يجازي ويُثاب، وإن الله عزّ ذكره لم يخصص من قوله "والباقِياتُ الصّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبّكَ ثَوَابا" بعضا دون بعض في كتاب، ولا بخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{المالُ والبَنونَ زينةُ الحياةِ الدنيا والباقياتُ الصالحاتُ} كأن هذا ذُكِرَ على مقصود الناس أن مَن كان قصْده في الدنيا كثرة المال والبنين فهو زينة الحياة الدنيا، وهو الفاني والذاهب على ما ذكر. ومن كان مقصوده في هذه الدنيا الخيرات والآخِرة فهو {والباقياتُ الصالحاتُ} أبدا...
{والباقيات الصالحات} قال بعضهم: هو قوله صلى الله عليه وسلم: (سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله)...
وقال بعضهم: {والباقيات الصالحات} الصلوات الخمس، وهو قول ابن عباس وغيره. فأيّهما كان ففيه معنى الآخر، وإن كل واحد منهما يَجمع أنواع الخيرات والعبادات في الحقيقة؛ لأن (سبحان الله) هو تنزيه الرّبِّ عن كل آفةٍ وعيبٍ. و (الحمد لله) هو الثناء له بكلِّ نعمةٍ، وصلتْ منه إلى الخلق، وجعلَتْه مستحِقّاً للحمد والثناء له دون من سواه. وأن (ولا إله إلا الله) هو لا معبود سواه، ولا يستحِقّ العبادةَ غيرُه، وأن (والله أكبر) هو الإجلال له عن كل ما قيل فيه، ونفيُ كل معاني الخَلْق عنه، (وأن) (ولا حول ولا قوة إلا بالله) هو التَّبرِّي وقطْعُ الطمع عمَّن دونَه، وتفويض الأمور بكُلِّيَّتها إليه، والتسليم له. فكل حرفٍ من هذه الحروف يَجمع في الحقيقة كل أنواع العبادات والخيرات لِمَا ذَكَرْنا. وكذلك الصلوات أيضا تَجمع كل أنواع العبادات (لأن المصلِّي) يستعمل كلَّ جارحةٍ فيها في كل حالٍ منها. فهي تجمع جميع العبادات. والأصل في قوله: {والباقيات الصالحات} أنها كل الخيرات والطاعات، لأن الله تبارك وتعالى ذكر، ووصف الحق بالبقاء والثبات في غير آية من القرآن، ووصف الباطل بالبطلان والتلاشي والذهاب...
فعلى ذلك القول: {والباقيات الصالحات} هي باقيةٌ...
{خيرٌ عند ربك ثواباً وخيرٌ أملاً} أي خيرُ ما يَأْمُلُونَ...
و عن ابن عباس (أنه) قال: {خيرٌ عند ربك ثوابا} أي خيرُ ما يُثاب الناسُ عليه {وخيرٌ أملا} أي خيرُ ما يَأْمُلُ الناسُ عن أعمالهم يومَ القيامة، والله أعلم...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{والباقيات الصالحات} أعمال الخير التي تبقى ثمرتها للإنسان وتفنى عنه كل ما تطمح إليه نفسه من حظوظ الدنيا...
{خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا} أي ما يتعلق بها من الثواب وما يتعلق بها من الأمل؛ لأن صاحبها يأمل في الدنيا ثواب الله، ويصيبه في الآخرة.
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
قَوْله تَعَالَى: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا}. فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَدْ بَيَّنَّا فِي كُتُبِ الْأُصُولِ أَنَّ كُلَّ مَوْجُودٍ -مَا عَدَا اللَّهَ وَصِفَاتِهِ الْعُلَا- لَهُ أَوَّلٌ، فَإِنَّ كُلَّ مَوْجُودٍ، مَا عَدَا نَعِيمَ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَعَذَابَ أَهْلِ النَّارِ لَهُ آخِرٌ، وَكُلُّ مَا لَا آخِرَ لَهُ فَهُوَ الْبَاقِي حَقِيقَةً. وَلَكِنَّ الْبَاقِيَ بِالْحَقِّ وَالْحَقِيقَةِ هُوَ اللَّهُ، حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي كِتَابِ الْأَمَدِ. فَأَمَّا نَعِيمُ الْجَنَّةِ فَأُصُولٌ مُذْ خُلِقَتْ لَمْ تَفْنَ وَلَا تَفْنَى بِخَبَرِ اللَّهِ تَعَالَى؛ وَفُرُوعٌ وَهِيَ النِّعَمُ، هِيَ أَعْرَاضٌ إنَّمَا تُوصَفُ بِالْبَقَاءِ عَلَى مَعْنَى أَنَّ أَمْثَالَهَا يَتَجَدَّدُ من غَيْرِ انْقِطَاعٍ، كَمَا رُوِيَ عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ فِي سُورَةِ مَرْيَمَ وَغَيْرِهَا إن شَاءَ اللَّهُ، وَعَلَى مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ قَبْلُ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ بِقَوْلِهِ: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا} فَهَذَا فَنَاءٌ وَتَجْدِيدٌ، فَيَجْعَلُهُ بَقَاءً مَجَازًا بِالْإِضَافَةِ إلَى غَيْرِهِ، فَإِنَّهُ يَفْنَى فَلَا يَعُودُ، فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا،
وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فَالْأَعْمَالُ الَّتِي تَصْدُرُ عَنْ الْخَلْقِ من حَسَنٍ وَقَبِيحٍ لَا بَقَاءَ لَهَا، وَلَا تَجَدُّدَ بَعْدَ فَنَاءِ الْخَلْقِ، فَهِيَ بَاقِيَاتٌ صَالِحَاتٌ وَطَالِحَاتٌ، حَسَنَاتٌ وَسَيِّئَاتٌ فِي الْحَقِيقَةِ، لَكِنْ لَمَّا كَانَتْ الْأَعْمَالُ أَسْبَابًا فِي الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، وَكَانَ الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ دَائِمَيْنِ لَا يَنْقَطِعَانِ، وَبَاقِيَيْنِ لَا يَفْنَيَانِ، كَمَا قَدَّمْنَا بَيَانَهُ، وُصِفَتْ الْأَعْمَالُ بِالْبَقَاءِ، حَمْلًا مَجَازِيًّا عَلَيْهَا، عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ من وَجْهِ تَسْمِيَةِ الْمَجَازِ. وَأَمَّا تَسْمِيَةُ الشَّيْءِ بِسَبَبِهِ الْمُتَقَدِّمِ عَلَيْهِ، أَوْ تَسْمِيَتُهُ بِفَائِدَتِهِ الْمَقْصُودَةِ بِهِ، فَنَدَبَ اللَّهُ تَعَالَى إلَى الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَنَبَّهَ عَلَى أَنَّهَا خَيْرُ مَا فِي الدُّنْيَا من أَهْلٍ وَمَالٍ، وَعَمَلٍ وَحَالٍ فِي الْمَآلِ، فَقَالَ،
وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّك ثَوَابًا من الْمَالِ وَالْبَنِينَ، وَخَيْرٌ أَمَلًا فِيمَا يَسْتَقْبِلُونَ إرَادَتَهُ، وَاقْتَضَى ذَلِكَ،
وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: أَنْ يَكُونَ بِهَذَا الْعُمُومِ الْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ كُلَّ عَمَلٍ صَالِحٍ، وَهُوَ الَّذِي وَعَدَ بِالثَّوَابِ عَلَيْهِ...
لمّا بَيَّنَ تعالى أن الدنيا سريعة الانقراض والانقضاء مُشْرفةٌ على الزوال والبَوَار والفناء بيّن تعالى أن المال والبنين زينةُ الحياة الدنيا والمقصود إدخال هذا الجزء تحت ذلك الكل وسنَعْقِد منه قياس الإنتاج وهو أن المال والبنون [؟البنين] زينة الحياة الدنيا وكل ما كان من زينة الدنيا فهو سريع الانقضاء والانقراض ينتج إنتاجا بديهيا أن المال والبنين سريعة الانقضاء والانقراض. ومن المقتضَى البديهي أن ما كان كذلك فإنه يَقْبُح بالعاقل أن يفتخر به أو يَفْرَح بسببه أو يقيم له في نظره وزناً فهذا برهان باهر على فساد قول أولئك المشركين الذين افتخروا على فقراء المؤمنين بكثرة الأموال والأولاد...
{والباقياتُ الصالحاتُ خيرٌ عند ربك ثواباً وخيرٌ أملا}... خيرات الدنيا منقرضة منقضية وخيرات الآخرة دائمة باقية والدائم الباقي خيرٌ من المنقرض المنقضي وهذا معلومٌ بالضرورة، لا سيما إذا ثبت أن خيرات الدنيا خسيسة حقيرة وأن خيرات الآخرة عالية رفيعة، لأن خيرات الدنيا حسية وخيرات الآخرة عقلية والعقلية أشرف من الحسية بكثير...
{خير عند ربك ثوابا وخير أملا} أي كل عمل أريد به وجه الله فلا شك أن ما يتعلق به من الثواب وما يتعلق به من الأمل يكون خيرا وأفضل، لأن صاحب تلك الأعمال يؤمِّل في الدنيا ثوابَ الله ونصيبَه في الآخرة...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما تبين بهذين المثلين وغيرهما أن الدينا -التي أوردت أهلها الموارد وأحلتهم أودية المعاطب- سريعة الزوال، وشيكة الارتحال، مع كثرة الأنكاد، ودوام الأكدار، من الكد والتعب، والخوف والنصب كالزرع سواء، تقبل أولاً في غاية النضرة والبهجة، تتزايد نضرتها وبهجتها شيئاً فشيئاً، ثم تأخذ في الانتقاص والانحطاط إلى أن تنتهي إلى الفناء، فهي جديرة لذلك بالزهد فيها والرغبة عنها، وأن لا يفتخر بها عاقل فضلاً عن أن يكاثر بها غيره، قال تعالى: {المال والبنون} الفانيان الفاسدان وهما أجلّ ما في هذه الدار من متاعها {زينة الحياة الدنيا} التي لو عاش الإنسان جميع أيامها لكان حقيقاً لصيرورة ما هو في منها إلى زوال بالإعراض عنها والبغض لها، وأنتم تعلمون ما في تحصيلهما من التعب، وما لهما بعد الحصول من سرعة العطب، وهما مع ذلك قد يكونان خيراً إن عمل فيهما بما يرضي الله، وقد يكونان شراً ويخيب الأمل فيهما، وقد يكون كل منهما سبب هلاك صاحبه وكدره، وسوء حياته وضرره {والباقيات الصالحات} وهي أعمال الخير المجردة التي يقصد بها وجه الله تعالى التي رغبنا فيها بقولنا
(لنبلوهم أيهم أحسن عملاً} [الكهف: 7] وما بعده {خير} أي من الزينة الفانية. ولما كان أهم ما إلى من حصل النفائس لكفايته من يحفظها له لوقت حاجته قال: {عند ربك} أي الجليل المواهب، العالم بالعواقب، وخير من المال والبنين في العاجل والآجل {ثواباً وخير} من ذلك كله {أملاً} أي من جهة ما يرجو فيها من الثواب ويرجو فيها من الأمل، لأن ثوابها إلى بقاء، وأملها كل ساعة في تحقق وعلو وارتقاء، وأمل المال والبنين يختان أحوج ما يكون إليهما.
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
وتقديمُ المال على البنين مع كونهم أعزَّ منه كما في الآية المحكية آنفاً وقولِه تعالى: {وأمددناكم بأموال وَبَنِينَ} وغيرِ ذلك من الآيات الكريمة لعراقته فيما نِيطَ به من الزينة والإمدادِ وغيرِ ذلك وعمومِه بالنسبة إلى الأفراد والأوقات، فإنه زينةٌ ومُمِدٌّ لكل أحدٍ من الآباء والبنين في كل وقتٍ وحينٍ، وأما البنونَ فزينتُهم وإمدادُهم إنما يكون بالنسبة إلى من بَلَغَ مَبْلَغَ الأبوّةِ، ولأن المالَ مناطٌ لبقاء النفس والبنينَ لبقاء النوع، ولأن الحاجةَ إليه أمسُّ من الحاجة إليهم، ولأنه أقدرُ منهم في الوجود، ولأنه زينةٌ بدونهم من غير عَكْسٍ فإن من له بنونَ بلا مالٍ فهو في ضيقِ حالٍ ونَكَالٍ. وإفرادُ الزينة مع أنها مسنَدةٌ إلى الاثنين لما أنها مصدرٌ في الأصل أُطلِق على المفعول مبالغةً كأنهما نفسُ الزينة... {خَيْرٌ} أي مما نُعت شأنُه من المال والبنين، وإخراجُ بقاءِ تلك الأعمالِ وصلاحِها مُخرَجَ الصفات المفروغِ عنها مع أن حقَّهما أن يكونا مقصودَي الإفادةِ لاسيما في مقابلة إثباتِ الفناء لما يقابلها من المال والبنين على طريقة قوله تعالى: {مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ الله بَاقٍ} للإيذان بأن بقاءَها أمرٌ محقّقٌ لا حاجة إلى بيانه بل لفظُ الباقياتِ اسمٌ لها وصفٌ، ولذلك لم يُذكر الموصوفُ وإنما الذي يُحتاج إلى التعرض له خيريتُها {عِندَ رَبّكَ} أي في الآخرة وهو بيانٌ لما يظهر فيه آثارُ خيريّتها بمنزلة إضافة الزينةِ إلى الحياة الدنيا لا لأفضليتها فيها من المال والبنين مع مشاركة الكلِّ في الأصل إذ لا مشاركةَ لهما في الخيرية في الآخرة... {وَخَيْرٌ أَمَلاً}... وتكريرُ خيرٌ للإشعار باختلاف حيثيَّتي الخيريَّة والمبالغةِ فيها...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
وتأمل كيف لما ضرب الله مثل الدنيا وحالها واضمحلالها ذكر أن الذي فيها نوعان: نوعٌ من زينتها، يتمتع به قليلا، ثم يزول بلا فائدة تعود لصاحبه، بل ربما لحقته مضرّته وهو المال والبنون ونوع يبقى وينفع صاحبه على الدوام، وهي الباقيات الصالحات...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وبعد أن يلقي مشهد الحياة الذاهبة ظله في النفس يقرر السياق بميزان العقيدة قيم الحياة التي يتعبدها الناس في الأرض، والقيم الباقية التي تستحق الاهتمام: (المال والبنون زينة الحياة الدنيا، والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا، وخير أملا).. المال والبنون زينة الحياة؛ والإسلام لا ينهى عن المتاع بالزينة في حدود الطيبات. ولكنه يعطيها القيمة التي تستحقها الزينة في ميزان الخلود ولا يزيد. إنهما زينة ولكنهما ليسا قيمة. فما يجوز أن يوزن بهما الناس ولا أن يقدروا على أساسهما في الحياة. إنما القيمة الحقة للباقيات الصالحات من الأعمال والأقوال والعبادات. وإذا كان أمل الناس عادة يتعلق بالأموال والبنين فإن الباقيات الصالحات خير ثوابا وخير أملا. عندما تتعلق بها القلوب، ويناط بها الرجاء، ويرتقب المؤمنون نتاجها وثمارها يوم الجزاء. وهكذا يتناسق التوجيه الإلهي للرسول [صلى الله عليه وسلم] في أن يصبر نفسه مع الذين يدعون ربهم في الغداة والعشي يريدون وجهه. مع إيحاء قصة الجنتين. مع ظل المثل المضروب للحياة الدنيا. مع هذا التقرير الأخير للقيم في الحياة وما بعد الحياة.. وتشترك كلها في تصحيح القيم بميزان العقيدة. وتتساوى كلها في السورة وفق قاعدة التناسق الفني والتناسق الوجداني في القرآن...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
اعتراضٌ أريدَ به الموعظةُ والعبرةُ للمؤمنين بأن ما فيه المشركون من النعمة من مال وبنين ما هو إلا زينة الحياة الدنيا التي علمتم أنها إلى زوالٍ، كقوله تعالى: {لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الذين كَفروا في البلادِ مَتاعٌ قليلٌ} [آل عمران: 196] وأن ما أَعدَّ اللهُ للمؤمنين خيرٌ عند الله وخيرٌ أملاً...
{والباقيات الصالحات} صفتان جرتا على موصوف محذوف، أي الأعمال الصالحات الباقيات، أي التي لا زوال لها، أي لا زوال لخيرها، وهو ثوابها الخالد، فهي خيرٌ من زينة الحياة الدنيا التي هي غير باقية. وكان مقتضى الظاهر في ترتيب الوصفين أن يقدم {الصالحات} على {والباقيات} لأنهما وإن كانا وصفين لموصوف محذوف إلا أن أعرفهما في وصفية ذلك المحذوف هو الصالحات، لأنه قد شاع أن يقال: الأعمال الصالحات ولا يقال الأعمال الباقيات، ولأن بقاءها مترتب على صلاحها، فلا جرم أن الصالحات وصف قام مقام الموصوف وأغنى عنه كثيراً في الكلام حتى صار لفظ (الصالحات) بمنزلة الاسم الدال على عمل خير... ولكن خولف مقتضى الظاهر هنا، فقدّم (الباقياتُ) للتنبيه على أن ما ذكر قبله إنما كان مفصولاً لأنه ليس بباقٍ، وهو المال والبنون، كقوله تعالى: {وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع} [الرعد: 26]، فكان هذا التقديم قاضياً لحق الإيجاز لإغنائه عن كلام محذوف، تقديره: أن ذلك زائل أو ما هو بباق والباقيات من الصالحات خير منه، فكان قوله: {فأصبح هشيماً تذروه الرياح} [الكهف: 45] مفيداً للزوال بطريقة التمثيل وهو من دلالة التضمن، وكان قوله: والباقيات} مفيداً زوال غيرها بطريقة الالتزام، فحصل دلالتان غير مطابقتين وهما أوقع في صناعة البلاغة، وحصل بثانيتهما تأكيد لمفاد الأولى فجاء كلاماً مؤكداً موجزاً...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
وكان المال والبنون الزينة، لأنه كان بهما القوة، فكان المال قوة لِمَا يُمكِّن صاحبَه من الحصول على حاجاته، ولِما يمكّنه من الحصول على مآربه من أعدائه وأولياءه، والبنون لأنهم القوة في النصرة... وقد سَمّى الله تعالى القوة بالمال والبنين زينة، لأنها موضع تفاخر وتَباهٍ كالزينة، وقدم المال على البنين، لأن البنين من غير مال لا يكونون زينة، بل يكونون تكليفا، وقد يكون مرهقا. وإن أمور العقلاء تجري على سنة المنفعة، فما يكون أكثر منفعة وأبقى يطلبه العقلاء، وما يكون أقل نفعا، ولا يبقى ينفر منه العقلاء، ولا يُقبلون عليه... والباقيات الصالحات... أي والأعمال التي تبقى، ولا تفنى سريعا، وهي صالحة في ذاتها عامرة لما بين العبد وربه أولا، وبينه وبين الناس ويُباركها الرب ثانيا، سواء أكانت من شأنها أن تكون ذات أثر باق في الدنيا، من عمل طيب يبقى أثره بعد الموت، أم كان يرجى خيره في الآخرة...
{والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا}، أي خيرٌ فائدةً... وعاقبةً، وتفتح باب الأمل لخيرٍ عميم، ونعيمٍ مقيم، وجنةٍ خالدين فيها، وكرر كلمة {خير}، لاختلاف نوعهما، فالأول عاجلٌ في الدنيا، والثاني أملٌ ورجاءٌ في الآخرة...
تلك هي العناصر الأساسية في فتنة الناس في الدنيا: المال والبنون، لكن لماذا قدم المال؟ أهو أغلى عند الناس من البنين؟ نقول: قدم الحق سبحانه المال على البنين، ليس لأنه أعز أو أغلى؛ إنما لأن المال عام في المخاطب على خلاف البنين، فكل إنسان لديه المال وإن قل، أما البنون فهذه خصوصية، ومن الناس من حرم منها. كما أن البنين لا تأتي إلا بالمال؛ لأنه يحتاج إلى الزواج والنفقة لكي يتناسل وينجب، إذن: كل واحد له مال، وليس لكل واحد بنون، والحكم هنا قضية عامة، وهي: {المال والبنون زينة الحياة الدنيا}: كلمة (زينة) أي: ليست من ضروريات الحياة، فهو مجرد شكل وزخرف؛ لأن المؤمن الراضي بما قسم له يعيش حياته سعيداً بدون مال، وبدون أولاد؛ لأن الإنسان قد يشقى بماله، أو يشقى بولده، لدرجة أنه يتمنى لو مات قبل أن يرزق هذا المال أو هذا الولد...
إذن: المال والبنون من زينة الحياة وزخرفها، وليسا من الضروريات. فما زاد عن ذلك فهو من الزينة، فالإنسان إذن يستطيع أن يعيش دون مال أو ولد، يعيش بقيم تعطي له الخير، ورضاً يرضيه عن خالقه تعالى.
ثم يقول تعالى: {والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملاً}: لأن المال والبنين لن يدخلا معك القبر، ولن يمنعاك من العذاب، ولن ينفعك إلا الباقيات الصالحات...
والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن الآن: إذا لم يكن المال والبنون يمثلان ضرورة من ضروريات الحياة، فما الضروريات في الحياة إذن؟
الضروريات في الحياة هي كل ما يجعل الدنيا مزرعة للآخرة، ووسيلة لحياة باقية دائمة ناعمة مسعدة، لا تنتهي أنت من النعيم فتتركه، ولا ينتهي النعيم منك فيتركك، إنه نعيم الجنة. الضروريات إذن هي الدين ومنهج الله والقيم التي تنظم حركة الحياة على وفق ما أراد الله من خلق الحياة. ومعنى: {والباقيات}: مادام قال (والباقيات) فمعنى هذا أن ما قبلها لم يكن من الباقيات بل هو زائل بزوال الدنيا، ثم وصفها بالصالحات ليفرق بينها وبين الباقيات السيئات التي يخلدون بها في النار. {والباقيات الصالحات خير}: خير عند من؟ لأن كل مضاف إليه يأتي على قوة المضاف إليه، فخيرك غير خير من هو أغنى منك، غير خير الحاكم، فما بالك بخير عند الله؟ {خير عند ربك ثوابا وخير أملاً}: والأمل: ما يتطلع إليه الإنسان مما لم تكن به حالته، فإن كان عنده خير تطلع إلى أعلى منه، فالأمل الأعلى عند الله تبارك وتعالى، كل هذا يبين لنا أن هذه الدنيا زائلة، وأننا ذاهبون إلى يوم باقٍ؛ لذلك أردف الحق سبحانه بعد الباقيات الصالحات ما يناسبها...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
"الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا" من خلال ما يدخل على الإنسان منها من بهجة وأنس، وما يستمتعه من شهوة وعاطفة وحركة وجمال.. وما يحقق منها من منفعة وقوّة وامتداد في شؤون الحياة... فالمال يمثِّل في حياته العنصر القويّ الذي يفتح له أكثر الساحات، ويجمع حوله الكثير من الأعوان، ويحقق له أحلى المشتهيات، ويرفعه إلى الدرجة العليا في الموقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي، ويمنحه حرية الحركة في ما يريده لنفسه من طيبات الحياة الدنيا ومن أحلام المستقبل المتجددة أبداً. أما البنون، فهم الذين يمثلون له القوّة العددية، التي تجعله موجوداً في كل واحدٍ منهم، فيعطيه ذلك قوّة جديدةً، والشعور بامتداد حياته فيهم، فيحس بأنه يحيا في كل واحد منهم حياةً جديدةً بعد الموت.. إنهم يهبونه الامتداد العاطفي الروحي الذي يشعر فيه بالسلوى والأنس واللهو به في طفولتهم، بحيث يسترجع من خلالهم طفولته، بما يأخذ من أسباب اللهو واللعب معهم بحب وعاطفة... ويحس بالفخر والزهو والرفعة عندما يحيطون به في شبابهم وكهولتهم، حيث يرى أنهم يمثلون مجداً يضاف إلى مجده، وزهواً يقوّي عنصر الزهو الذاتي في شخصيته، عندما يتحولون إلى شخصياتٍ فاعلة قويّة في مجتمعاتهم، لأنهم ينتسبون إليه ويعود كل عنصرٍ طيب منهم إليه... وهكذا يعيش الإنسان مع ماله وولده الزينة المادية والعاطفية والروحية والمعنوية، ولكن ماذا بعد ذلك؟ سيذهب المال عنه قبل أن يفارق الدنيا أو بعد ذلك، وسيفارقه البنون أو يفارقهم، أو يتركونه أو يتركهم، ويبقى وحده، ويدفن في القبر وحده، ويحشر يوم القيامة وحده، تماماً كأيّة زينة للجسد، مما يتزيّن به الناس لبعضهم البعض، حيث تزول عن الإنسان أمام أيّ حدثٍ طارئ في الحياة. الباقيات الصّالحات {وَالْباقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ} من أعماله الخيّرة الصالحة التي قام بها في حياته مما يُصلح أمور البلاد والعباد، ومن كلماته الصادقة النافعة التي تكلم بها، ليعلّم جاهلاً، أو ليهدي ضالاً، أو لينصر مظلوماً، أو ليقوِّي ضعيفاً، أو ليحلّ مشكلةً، أو ليؤيِّد حقاً، أو ليهدم باطلاً، أو ليركِّز عدلاً، أو ليدفع ظلماً... وغير ذلك مما يمتد أثره في حياة الناس، في حياته وبعد مماته؛ {خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا} لأن الله جعل ثواب الإنسان لما يبذله من جهد في سبيل الحق والعدل والخير والحياة، مما ينسجم مع أوامره ونواهيه ويتحرك في خط رضاه. أمّا المال، فلا قيمة له عند الله في ذاته وفي جمعه إلا إذا تحرك في مواقع الخير، وكان إنفاقه في سبيل الله. وأما البنون، فإن قيمتهم عند الله هي في الجهد الذي يبذله الإنسان من أجل أن يكونوا مؤمنين صالحين، يصلحون أنفسهم بالطاعة، ويصلحون الناس بالعلم والهداية وحركة الخير... وبذلك يكون المال والبنون في حركة الجهد العملي للإنسان من أجل خدمة الحياة في خط الله جزءاً من الباقيات الصالحات، فتكون كبقية أعماله وأقواله خير ثواباً {وَخَيْرٌ أَمَلاً} في ما يأمله الإنسان من رحمة الله ومن عفوه ورضوانه التي يحصل منها على سلامة المصير في الدنيا والآخرة، بينما لا يأمل من زينة الدنيا المجرّدة شيئاً لمستقبله الأخروي، ولا يجد أمامه هناك أيّ ثواب. وهذا ما ينبغي للإنسان أن يعيشه في تحريك تفكيره نحو التعمُّق في الدنيا، ليميّز بين مفرداتها الفانية، وبين مفرداتها الباقية، ليكون كل جهده لما يبقى، ولا تكون حياته لما يفنى ويزول ويتلاشى مع الظلام.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
إِنَّ هذه الآية في الحقيقة تُشير إلى أهم قسمين في رأسمال الحياة حيثُ ترتبط الأشياء الأُخرى بهما، إِنّها تشير إلى (القوّة الاقتصادية) و (القوّة الإِنسانية) لأنَّ وجودهما ضروري لتحقيق أي هدف مادي... (المال والبنون) بمثابة الورد والبراعم الموجودة على أغصان الشجر، إِنّها تزول بسرعة ولا تستمر طويلا، وإِذا لم تستثمر في طريق المسير إلى (الله) فلا يُكتب لها الخلود، ولا يكون لها أدنى اعتبار. ورأينا أنَّ أكثر الأموال ثباتاً ودواماً والمتمثلة في البستان والأرض الزراعية وعين الماء قد أبيدت خلال لحظات. وفيما يخص الأبناء؛ فبالإِضافة إلى أنَّ حياتهم وسلامتهم معرَّضة للخطر دائماً، فهم يكونون في بعض الأحيان أعداءً بدلا مِن أن يكونوا عوناً في اجتياز المشاكل والصعوبات...