تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{وَتَجۡعَلُونَ رِزۡقَكُمۡ أَنَّكُمۡ تُكَذِّبُونَ} (82)

وقوله : { وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ } أي : تجعلون مقابلة منة الله عليكم بالرزق التكذيب والكفر لنعمة الله ، فتقولون : مطرنا بنوء كذا وكذا ، وتضيفون النعمة لغير مسديها وموليها ، فهلا شكرتم الله تعالى على إحسانه ، إذ أنزله الله إليكم ليزيدكم من فضله ، فإن التكذيب والكفر داع لرفع النعم وحلول النقم .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَتَجۡعَلُونَ رِزۡقَكُمۡ أَنَّكُمۡ تُكَذِّبُونَ} (82)

وقوله عز وجل : { وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون } أجمع المفسرون على أن الآية توبيخ للقائلين في المطر الذي ينزله الله للعباد هذا بنوء كذا وكذا وهذا ب «عثانين » الأسد ، وهذا بنوء الجوزاء وغير ذلك . والمعنى : وتجعلون شكر رزقكم ، كما تقول لرجل : جعلت يا فلان إحساني إليك أن تشتمني المعنى : جعلت شكر إحساني . وحكى الهيثم بن عدي أن من لغة أزد شنوءة : ما رزق فلان ؟ بمعنى ما شكره . وكان علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقرؤها : «وتجعلون شكركم أنكم تكذبون » ، وكذلك قرأ ابن عباس ، ورويت عن النبي صلى الله عليه وسلم{[10937]} ، إلا أن ابن عباس ضم التاء وفتح الكاف ، وعلي رضي الله عنه : فتح التاء وسكن الكاف وخفف الذال ، ومن هذا المعنى قول الشاعر : [ السريع ]

وكان شكر القوم عند المنى . . . كي الصحيحات وفقء الأعين{[10938]}

وقد أخبر الله تعالى أنه أنزل من السماء ماء مباركاً فأنبت به جنات وحب الحصيد والنخل باسقات لها طلع نضيد رزقاً للعباد فهذا معنى قوله : { إنكم تكذبون } ، أي بهذا الخبر .

وقرأ عاصم في رواية المفضل عنه : «تَكْذبون » بفتح التاء وسكون الكاف وتخفيف الدال كقراءة علي بن أبي طالب . وكذبهم في مقالتهم بين ، لأنهم يقولون هذا بنوء كذا وذلك كذب منهم وتخرص ، وذكر الطبري أن النبي عليه السلام سمع رجلاً يقول : مطرنا ببعض عثانين الأسد ، فقال له : «كذبت ، بل هو رزق الله »{[10939]} .

قال القاضي أبو محمد : والنهي عنه المكروه هو أن يعتقد أن للطالع من النجوم تأثيراً في المطر ، وأما مراعاة بعض الطوالع على مقتضى العادة ، فقد قال عمر للعباس وهما في الاستسقاء : يا عباس ، يا عم النبي عليه السلام كم بقي من نوء الثريا ، فقال العباس : العلماء يقولون إنها تتعرض في الأفق بعد سقوطها سبعاً . قال ابن المسيب : فما مضت سبع حتى مطروا{[10940]} .


[10937]:أخرج ابن مردويه عن أبي عبد الرحمن السلمي رضي الله عنه قال: قرأ علي رضي الله عنه(الواقعات) في الفجر فقال:"وتجعلون شكركم أنكم تكذبون"، فلما انصرف قال: إني قد عرفت أنه سيقول قائل: لم قرأها هكذا؟ إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها كذلك، كانوا إذا مطروا قالوا: مُطرنا بنوء كذا وكذا، فأنزل الله:"وتجعلون شكركم أنكم إذا مطرتم تكذبون".
[10938]:لم أجد هذا الرجز إلا في البحر المحيط، والرواية فيه(مكان) بدلا من (وكان)، يصفهم بنكران الجميل ومقابلة الحسنة بالسيئة.
[10939]:أخرجه ابن جرير الطبري عن إسماعيل بن أمية.
[10940]:أخرجه ابن جرير الطبري، عن سفيان، عن محمد بن إسحق، عن محمد بن إبراهيم، عن أبي هريرة، والذي ذكر هذا الحديث لسعيد بن المسيب هو محمد بن إبراهيم فقال ابن المسيب: ونحن قد سمعنا من أبي هريرة، وقد أخبرني من شهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه...الخ ما ذكره المؤلف.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَتَجۡعَلُونَ رِزۡقَكُمۡ أَنَّكُمۡ تُكَذِّبُونَ} (82)

إذا جرينا على ما فَسر به المفسرون تكون هذه الجملة عطفاً على جملة { أفبهذا الحديث أنتم مدهنون } [ الواقعة : 81 ] عطفَ الجملة على الجملة فتكون داخلة في حيّز الاستفهام ومستقلة بمعناها .

والمعنى : أفتجعلون رزقكم أنكم تكذبون ، وهو تفريع على ما تضمنه الاستدلال بتكوين نسل الإنسان وخلق الحَب ، والماء في المزن ، والنار من أعواد الاقتداح ، فإن في مجموع ذلك حصول مقومات الأقوات وهي رزق ، والنسل رزق ، يقال : رُزق فلان ولَداً ، لأن الرزق يطلق على العطاء النافع ، قال لبيد :

رُزقتْ مرابيعَ النجومِ وصَابها *** وَدْقُ الرواعد جَوْدُها فرهامها

أي أعطيتْ وقال تعالى : { ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون } [ الذاريات : 57 ] فعطف الإِطعام على الرزق والعطف يقتضي المغايرة .

والاستفهام المقدر بعد العاطف إنكاري ، وإذ كان التكذيب لا يصح أن يجعل رزقاً تعين بدلالة الاقتضاء تقدير محذوف يفيده الكلام فقدره المفسرون : شُكْر رزقكم ، أو نحوه ، أي تجعلون شكر الله على رزقه إياكم أن تكذبوا بقدرته على إعادة الحياة ، لأنهم عدلوا عن شكر الله تعالى فيما أنعم به عليهم فاستنقصوا قدرته على إعادة الأجسام ، ونسبوا الزرع لأنفسهم ، وزعموا أن المطر تمطره النجوم المسماة بالأنواء فلذلك قال ابن عباس : نزلت في قولهم : مُطرنا بنوء كذا ، أي لأنهم يقولونه عن اعتقاد تأثير الأنواء في خَلْق المطر ، فمعنى قول ابن عباس : نزلت في قولهم : مطرنا بنوء كذا ، أنه مراد من معنى الآية .

قال ابن عطية : أجمع المفسرون على أن الآية توبيخ للقائلين في المطر الذي ينزله الله رزقاً : هذا بنوء كذا وكذا اهـ .

أشار هذا إلى ما روي في « الموطأ » عن زيد بن خالد الجهني قال : صلّى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح بالحديبية على إثْر سماء فلما انصرف النبي صلى الله عليه وسلم أقبل على الناس فقال : هل تدرون ماذا قال ربكم ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم قالَ : قَال أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر ، فأما من قال : مُطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب ، وأما من قال مطرنا بِنَوْءِ كذا ونوء كذا فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب ، وليس فيه زيادة فنزلت هذه الآية ولو كان نزولها يومئذٍ لقاله الصحابي الحاضر ذلك اليوم .

ووقع في « صحيح مسلم » عن ابن عباس أنه قال : « مطر الناس على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي أصبح من الناس شاكر ومنهم كافر ، قالوا : هذه رحمة الله ، وقال بعضهم : لقد صَدق نَوْء كذا وكذا . قال فنزلت : { فلا أقسم بمواقع النجوم } [ الواقعة : 75 ] حتى بلغ { وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون } فزاد على ما في حديث زيد بن خالد قوله فنزلت : { فلا أقسم } الخ .

وزيادة الراوي مختلف في قبولها بدون شرط أو بشرط عدم اتحاد المجلس ، أو بشرط أن لا يكون ممن لا يغفل مثلُه عن مثل تلك الزيادة عادةً وهي أقوال لأئمة الحديث وأصول الفقه ، وابن عباس لم يكن في سن أهل الرواية في مدة نزول هذه السورة بمكة فعل قوله : فنزلت تأويل منه ، لأنه أراد أن الناس مُطرواً في مكة في صدر الإسلام فقال المؤمنون قولاً وقال المشركون قولاً فنزلت آية { وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون } تنديداً على المشركين منهم بعقيدة من العقائد التي أنكرها الله عليهم وأن ما وقع في الحديبية مطر آخر لأن السورة نزلت قبل الهجرة .

ولم يرو أن هذه الآية ألحقت بالسورة بعد نزول السورة .

ولعل الراوي عنه لم يحسن التعبير عن كلامه فأوهم بقوله فنزلت { فلا أقسم بمواقع النجوم } [ الواقعة : 75 ] بأن يكون ابن عباس قال : فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم { فلا أقسم بمواقع النجوم ، أو نحو تلك العبارة . وقد تكرر مثل هذا الإِيهام في أخبار أسباب النزول ويتأكد هذا صيغة تكذبون } لأن قولهم : مطرنا بنوء كذا ، ليس فيه تكذيب بشيء ، ولذلك احتاج ابن عطية إلى تأويله بقوله : « فإن الله تعالى قال : { ونزلنا من السماء ماء مباركاً فأنبتنا به جنات وحبَّ الحصيد والنخلَ باسقات لها طلع نضيد رزقاً للعباد } [ ق : 9 11 ] فهذا معنى { أنكم تكذبون } أي تكذبون بهذا الخبر .

والذي نحاه الفخر منحى آخر فجعل معنى { وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون } تكملة للإِدهان الذي في قوله تعالى : { أفبهذا الحديث أنتم مدهنون } [ الواقعة : 81 ] فقال : « أي تخافون أنكم إن صدّقتم بالقرآن ومنعتم ضعفاءكم عن الكفر يفوت عليكم من كسبكم ما تربحونه بسببهم فتجعلون رزقكم أنكم تكذّبون الرسول أي فيكون عطفاً على { مدهنون } [ الواقعة : 81 ] عطف فعل على اسم شبيه به ، وهو من قبيل عطف المفردات ، أي أنتم مدهنون وجاعلون رزقكم أنكم تكذِّبون ، فهذا التكذيب من الإدهان ، أي أنهم يعلمون صدق الرسول صلى الله عليه وسلم ولكنهم يظهرون تكذيبه إبقاء على منافعهم فيكون كقوله تعالى : { فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون } [ الأنعام : 33 ] . وعلى هذا يقدر قوله : { أنكم تكذبون } مجروراً بباء الجر محذوفة ، والتقدير : وتجعلون رزقكم بأنكم تكذبون ، أي تجعلون عوضه بأن تكذِّبوا بالبعث » .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{وَتَجۡعَلُونَ رِزۡقَكُمۡ أَنَّكُمۡ تُكَذِّبُونَ} (82)

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

قوله:"وَتَجْعَلُونَ رِزقَكمْ أنّكُمْ تُكَذّبُونَ "يقول: وتجعلون شكر الله على رزقه إياكم التكذيب، وذلك كقول القائل لآخر: جعلت إحساني إليك إساءة منك إليّ، بمعنى: جعلت: شكر إحساني، أو ثواب إحساني إليك إساءة منك إليّ.

وقد ذُكر عن الهيثم بن عديّ: أن من لغة أزد شنوءة: ما رزق فلان: بمعنى ما شكر...

وقال آخرون: بل معنى ذلك: وتجعلون حظكم منه التكذيب...

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

{وتجعلون رزقكم أنكم تكذّبون} الله تعالى جعل هذا القرآن حياة للدين وقواما، والرزق حياة للأبدان وما به قوامها، فكذبوا الأمرين جميعا ما به حياة الدين وحياة الأبدان جميعا... {وتجعلون رزقكم} وهو هذا القرآن الذي خصكم به دون آبائكم، ورزقكم به ما لم يرزق آبائكم منه، ثم جعلتم تكذبون ذلك الرزق الذي خصصتم به ورزقتم...

تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :

... الرزق هاهنا بمعنى الهداية التي أعطاهم الله تعالى بالقرآن، فكأن الله تعالى لما أنزل القرآن، وبين لهم طريق الحق به فكذبوه وأنكروا، سمي بذلك البيان رزقا، وجعل تكذيبهم كفرانا لهذا الرزق...

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

«تكذبون» وهو قولهم في القرآن: شعر وسحر وافتراء. وفي المطر: وهو من الأنواء، ولأنّ كل مكذب بالحق كاذب.

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

{وتجعلون رزقكم} أي حظكم ونصيبكم وجميع ما تنتفعون به من هذا الكتاب وهو نفعكم كله {أنكم تكذبون} أي توجدون حقيقة التكذيب في الماضي والحال، وتجددون ذلك في كل وقت به وبما أرشد إليه من الأمور الجليلة وهي كل ما هو أهل للتصديق به وتصفونه بالأوصاف المتناقضة، ومن ذلك ما أرشد إليه من أنه لا فاعل إلا الله تعالى فتقولون أنتم إذا أمطركم ما يرزقكم به: هذا بنوء كذا...

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

(وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون).. فإذا التكذيب هو رزقكم الذي تحصلون عليه في حياتكم وتدخرونه لآخرتكم؟ وما أسوأه من رزق!...

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

أفتجعلون رزقكم أنكم تكذبون، وهو تفريع على ما تضمنه الاستدلال بتكوين نسل الإنسان وخلق الحَب، والماء في المزن، والنار من أعواد الاقتداح، فإن في مجموع ذلك حصول مقومات الأقوات وهي رزق، والنسل رزق، يقال: رُزق فلان ولَداً، لأن الرزق يطلق على العطاء النافع...

وإذ كان التكذيب لا يصح أن يجعل رزقاً تعين بدلالة الاقتضاء تقدير محذوف يفيده الكلام فقدره المفسرون: شُكْر رزقكم، أو نحوه، أي تجعلون شكر الله على رزقه إياكم أن تكذبوا بقدرته على إعادة الحياة، لأنهم عدلوا عن شكر الله تعالى فيما أنعم به عليهم فاستنقصوا قدرته على إعادة الأجسام، ونسبوا الزرع لأنفسهم، وزعموا أن المطر تمطره النجوم المسماة بالأنواء...

.