تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{هَلۡ يَنظُرُونَ إِلَّآ أَن تَأۡتِيَهُمُ ٱلۡمَلَـٰٓئِكَةُ أَوۡ يَأۡتِيَ رَبُّكَ أَوۡ يَأۡتِيَ بَعۡضُ ءَايَٰتِ رَبِّكَۗ يَوۡمَ يَأۡتِي بَعۡضُ ءَايَٰتِ رَبِّكَ لَا يَنفَعُ نَفۡسًا إِيمَٰنُهَا لَمۡ تَكُنۡ ءَامَنَتۡ مِن قَبۡلُ أَوۡ كَسَبَتۡ فِيٓ إِيمَٰنِهَا خَيۡرٗاۗ قُلِ ٱنتَظِرُوٓاْ إِنَّا مُنتَظِرُونَ} (158)

{ 158 } { هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ }

يقول تعالى : هل ينظر هؤلاء الذين استمر ظلمهم وعنادهم ، { إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ } مقدمات العذاب ، ومقدمات الآخرة بأن تأتيهم { الْمَلَائِكَةِ } لقبض أرواحهم ، فإنهم إذا وصلوا إلى تلك الحال ، لم ينفعهم الإيمان ولا صالح الأعمال . { أَوْ يَأْتِيَ

رَبُّكَ } لفصل القضاء بين العباد ، ومجازاة المحسنين والمسيئين . { أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ } الدالة على قرب الساعة .

{ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ } الخارقة للعادة ، التي يعلم بها أن الساعة قد دنت ، وأن القيامة قد اقتربت . { لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا } أي : إذا وجد بعض آيات الله لم ينفع الكافر إيمانه أن آمن ، ولا المؤمنَ المقصر أن يزداد خيرُه بعد ذلك ، بل ينفعه ما كان معه من الإيمان قبل ذلك ، وما كان له من الخير المرجوِّ قبل أن يأتي بعض الآيات .

والحكمة في هذا ظاهرة ، فإنه إنما كان الإيمان ينفع إذا كان إيمانا بالغيب ، وكان اختيارا من العبد ، فأما إذا وجدت الآيات صار الأمر شهادة ، ولم يبق للإيمان فائدة ، لأنه يشبه الإيمان الضروري ، كإيمان الغريق والحريق ونحوهما ، ممن إذا رأى الموت ، أقلع عما هو فيه كما قال تعالى : { فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ }

وقد تكاثرت الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم أن المراد ببعض آيات الله ، طلوع الشمس من مغربها ، وأن الناس إذا رأوها ، آمنوا ، فلم ينفعهم إيمانهم ، ويُغلق حينئذ بابُ التوبة .

ولما كان هذا وعيدا للمكذبين بالرسول صلى الله عليه وسلم ، منتظرا ، وهم ينتظرون بالنبي صلى الله عليه وسلم وأتباعه قوارع الدهر ومصائب الأمور ، قال : { قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ } فستعلمون أينا أحق بالأمن .

وفي هذه الآية دليل لمذهب أهل السنة والجماعة في إثبات الأفعال الاختيارية لله تعالى ، كالاستواء والنزول ، والإتيان لله تبارك وتعالى ، من غير تشبيه له بصفات المخلوقين .

وفي الكتاب والسنة من هذا شيء كثير ، وفيه أن من جملة أشراط الساعة طلوع الشمس من مغربها . وأن الله تعالى حكيم قد جرت عادته وسنته ، أن الإيمان إنما ينفع إذا كان اختياريا لا اضطراريا ، كما تقدم .

وأن الإنسان يكتسب الخير بإيمانه . فالطاعة والبر والتقوى إنما تنفع وتنمو إذا كان مع العبد الإيمان . فإذا خلا القلب من الإيمان لم ينفعه شيء من ذلك .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{هَلۡ يَنظُرُونَ إِلَّآ أَن تَأۡتِيَهُمُ ٱلۡمَلَـٰٓئِكَةُ أَوۡ يَأۡتِيَ رَبُّكَ أَوۡ يَأۡتِيَ بَعۡضُ ءَايَٰتِ رَبِّكَۗ يَوۡمَ يَأۡتِي بَعۡضُ ءَايَٰتِ رَبِّكَ لَا يَنفَعُ نَفۡسًا إِيمَٰنُهَا لَمۡ تَكُنۡ ءَامَنَتۡ مِن قَبۡلُ أَوۡ كَسَبَتۡ فِيٓ إِيمَٰنِهَا خَيۡرٗاۗ قُلِ ٱنتَظِرُوٓاْ إِنَّا مُنتَظِرُونَ} (158)

الضمير في { ينظرون } هو للطائفة التي قيل لها قبلك فقد جاءكم بينة من ربكم ، وهم العادلون بربهم من العرب الذين مضت أكثر آيات السورة في جدالهم ، و { ينظرون } معناه ينتظرون ، و { الملائكة } هنا يراد بها ملائكة الموت الذين يصحبون عزرائيل المخصوص بقبض الأرواح ، قاله مجاهد وقتادة وابن جريج . ويحتمل أن يريد الملائكة الذين يتصرفون في قيام الساعة ، وقرأ حمزة والكسائي «إلا أن يأتيهم » بالياء ، وقرأ الباقون «تأتيهم » بالتاء من فوق ، وقوله { أو يأتي ربك } قال الطبري : لموقف الحساب يوم القيامة ، وأسند ذلك إلى قتادة وجماعة من المتأولين ، ويحكي الزجاج أن المراد بقوله { أو يأتي ربك } أي العذاب الذي يسلطه الله في الدنيا على من يشاء من عباده كالصيحات والرجفات والخسف ونحوه .

قال القاضي أبو محمد : وهذا الكلام على كل تأويل فإنما هو بحذف مضاف تقديره أمر ربك أو بطش ربك أو حساب ربك وإلا فالإتيان المفهوم من اللغة مستحيل في حق الله تعالى ، ألا ترى أن الله تعالى يقول { فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا }{[5163]} فهذا إتيان قد وقع وهو على المجاز وحذف المضاف ، وقوله : { أو يأتي بعض آيات ربك } أما ظاهر اللفظ لو وقفنا معه فيقتضي أنه توعدهم بالشهير الفظيع من أشراط الساعة دون أن يخص من ذلك شرطاً يريد بذلك الإبهام الذي يترك السامع مع أقوى تخيله ، لكن لما قال بعد ذلك { يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفساً إيمانها } وبينت الآثار الصحاح في البخاري ومسلم أن الآية التي معها هذا الشرط هي طلوع الشمس من المغرب ، قوى أن الإشارة بقوله : { أو يأتي بعض آيات ربك } إنما هي إلى طلوع الشمس من مغربها ، وقال بهذا التأويل مجاهد وقتادة والسدي وغيرهم ، ويقوي أيضاً أن تكون الإشارة إلى غرغرة الإنسان عند الموت أو ما يكون في مثابتها لمن لم يغرغر{[5164]} .

ففي الحديث «أن توبة العبد تقبل مالم يغرغر » ، وهذا إجماع لأن من غرغر وعاين فهو في عداد الموتى ، وكون المرء في هذه الحالة من آيات الله تعالى ، وهذا على من يرى الملائكة المتصرفين في قيام الساعة .

قال القاضي أبو محمد : فمقصد هذه الآية تهديد الكافرين بأحوال لا يخلون منها كأنه قال : هل ينظرون مع إقامتهم على الكفر إلا الموت الذي لهم بعده أشد العذاب ، والأخذات المعهودة لله عز وجل ، أو الآيات التي ترفع التوبة وتعلم بقرب القيامة .

قال القاضي أبو محمد : ويصح أن يريد بقوله : { أو يأتي بعض آيات ربك } جميع ما يقطع بوقوعه من أشراط الساعة ثم خصص بعد ذلك بقوله : { يوم يأتي بعض آيات ربك } الآية التي ترفع التوبة معها ، وقد بينت الأحاديث أنها طلوع الشمس من مغربها{[5165]} ، وقرأ زهير الفرقبي{[5166]} «يومُ يأتي » بالرفع وهو على الابتداء والخبر في الجملة التي هي «لا ينفع » إلى آخر الآية ، والعائد من الجملة محذوف لطول الكلام وقرأ ابن سيرين وعبد الله بن عمرو وأبو العالية «لا تنفع » بتاء ، وأنث الإيمان بما أضيف إلى مؤنث .

أو لما نزل منزلة التوبة ، وقال جمهور أهل التأويل كما تقدم الآية التي لا تنفع التوبة من الشرك أو من المعاصي بعدها ، هي طلوع الشمس عن المغرب .

وروي عن ابن مسعود أنها إحدى ثلاث ، إما طلوع الشمس من مغربها ، وإما خروج الدابة ، وإما خروج يأجوج ومأجوج{[5167]} .

قال أبو محمد : وهذا فيه نظر لأن الأحاديث ترده وتخصص الشمس .

وروي في هذا الحديث أن الشمس تجري كل يوم حتى تسجد تحت العرش وتستأذن فيؤذن لها في طلوع المشرق ، وحتى إذا أراد الله عز وجل سد باب التوبة أمرها بالطلوع من مغربها{[5168]} ، قال ابن مسعود وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فتطلع هي والقمر كالبعيرين القرينين{[5169]} ، ويقوي النظر أيضاً أن الغرغرة هي الآية التي ترفع معها التوبة ، وقوله { أو كسبت في إيمانها خيراً } يريد جميع أعمال البر فرضها ونفلها ، وهذا الفصل هو للعصاة المؤمنين كما قوله { لم تكن آمنت من قبل } هو للكفار ، والآية المشار إليها تقطع توبة الصنفين ، وقرأ أبو هريرة «أو كسبت في إيمانها صالحاً » وقوله تعالى : { قل انتظروا } الآية تتضمن الوعيد أي فسترون من يحق كلامه ويتضح ما أخبر به .


[5163]:- من الآية (2) من سورة (الحشر).
[5164]:- الحديث بلفظ (إن الله عز وجل ليقبل توبة العبد ما لم يغرغر) أخرجه الترمذي في الدعوات، وابن ماجة في الزهد، والإمام أحمد في أكثر من موضع. (المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي). ومعنى يغرغر: تبلغ روحه رأس حلقه. قاله القرطبي.
[5165]:- منها ما رواه أحمد، وعبد بن حميد، والترمذي، وأبو يعلى، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، وابن مردويه- عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: {يوم يأتي بعض آيات ربك) قال: (طلوع الشمس من مغربها)، وأخرج مثله الطبراني، وابن عدي، وابن مردويه- عن أبي هريرة، والأحاديث في ذلك كثيرة.
[5166]:- زهير الفرقبي بضم الفاء وسكون الراء- يعرف بالنحوي، وقيل له: الفرقبي لأنه كان يتاجر إلى ناحية فرقب، له اختيار في القراءة وكان في زمن عاصم. مات سنة 156، وقيل: 155 (راجع طبقات القراء).
[5167]:- في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثلاث إذا خرجن لا ينفع نفسا إيمانُها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا: طلوع الشمس من مغربها والدجّال ودابة الأرض).
[5168]:- أخرج ابن أبي شيبة، وأحمد، ومسلم، وعبد بن حميد، وغيرهم- عن عبد الله ابن عمرو قال: حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أول الآيات خروجا طلوع الشمس من مغربها وخروج الدابة ضحى، فأيتهما كانت قبل صاحبتها =فالأخرى على أثرها، ثم قال عبد الله- وكان قد قرأ الكتب- وأظن أولهما خروجا طلوع الشمس من مغربها، وذلك أنها كلماخرجت أتت تحت العرش فسجدت واستأذنت في الرجوع- إلى آخر الحديث وهو طويل. (الدر المنثور).
[5169]:- أخرجه سعيد بن منصور، والفريابي، وعبد بن حميد، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ والطبراني- عن ابن مسعود. (الدر المنثور)