تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{وَٱلشَّمۡسُ تَجۡرِي لِمُسۡتَقَرّٖ لَّهَاۚ ذَٰلِكَ تَقۡدِيرُ ٱلۡعَزِيزِ ٱلۡعَلِيمِ} (38)

وكذلك نزيل هذه الظلمة ، التي عمتهم وشملتهم ، فتطلع الشمس ، فتضيء الأقطار ، وينتشر الخلق لمعاشهم ومصالحهم ، ولهذا قال : { وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا } [ أي : دائما تجري لمستقر لها ] قدره اللّه لها ، لا تتعداه ، ولا تقصر عنه ، وليس لها تصرف في نفسها ، ولا استعصاء على قدرة اللّه تعالى . { ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ } الذي بعزته دبر هذه المخلوقات العظيمة ، بأكمل تدبير ، وأحسن نظام . { الْعَلِيمُ } الذي بعلمه ، جعلها مصالح لعباده ، ومنافع في دينهم ودنياهم .

 
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{وَٱلشَّمۡسُ تَجۡرِي لِمُسۡتَقَرّٖ لَّهَاۚ ذَٰلِكَ تَقۡدِيرُ ٱلۡعَزِيزِ ٱلۡعَلِيمِ} (38)

قوله تعالى : { والشمس تجري لمستقر لها } أي : إلى مستقر لها ، قيل : إلى انتهاء سيرها عند انقضاء الدنيا وقيام الساعة . وقيل : إنها تسير حتى تنتهي إلى أبعد مغاربها ، ثم ترجع فذلك مستقرها ؛ لأنها لا تجاوزها . وقيل : مستقرها نهاية ارتفاعها في السماء في الصيف ، ونهاية هبوطها في الشتاء ، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : مستقرها تحت العرش .

أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، أنبأنا محمد بن اسماعيل ، حدثنا الحميدي ، أنبأنا وكيع عن الأعمش ، عن إبراهيم التيمي ، عن أبيه عن أبي ذر قال : " سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن قوله عز وجل : { والشمس تجري لمستقر لها } قال : مستقرها تحت العرش " .

أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، أنبأنا محمد بن إسماعيل ، أنبأنا الحميدي ، أنبأنا وكيع ، حدثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن أبيه ، عن أبي ذر قال : " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي ذر حين غربت الشمس : أتدري أين تذهب ؟قال : قلت : الله ورسوله أعلم ، قال : فإنها تذهب حتى تسجد تحت العرش ، فتستأذن فيؤذن لها ويوشك أن تسجد فلا يقبل منها ، وتستأذن فلا يؤذن لها ، فيقال لها : ارجعي من حيث جئت فتطلع من مغربها ، فذلك قوله تعالى : { والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم } وروى عمرو بن دينار عن ابن عباس : { والشمس تجري لا مستقر لها } وهي قراءة ابن مسعود ، أي : لا قرار لها ولا وقوف . فهي جارية أبداً

{ ذلك تقدير العزيز العليم } .

 
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي [إخفاء]  
{وَٱلشَّمۡسُ تَجۡرِي لِمُسۡتَقَرّٖ لَّهَاۚ ذَٰلِكَ تَقۡدِيرُ ٱلۡعَزِيزِ ٱلۡعَلِيمِ} (38)

قوله تعالى : { والشمس تجري لمستقر لها } يجوز أن يكون تقديره وآية لهم الشمس . ويجوز أن يكون { الشمس } مرفوعا بإضمار فعل يفسره الثاني . ويجوز أن يكون مرفوعا بالابتداء { تجري } في موضع الخبر أي جارية . وفي صحيح مسلم عن أبي ذر قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله عز وجل : { والشمس تجري لمستقر لها } قال : ( مستقرها تحت العرش ) . وفيه عن أبي ذر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوما :

( أتدرون أين تذهب هذه الشمس ) ؟ قالوا الله ورسوله أعلم ، قال : ( إن هذه تجري حتى تنتهي إلى مستقرها تحت العرش فتخر ساجدة فلا تزال كذلك حتى يقال لها : ارتفعي ارجعي من حيث جئت فترجع فتصبح طالعة من مطلعها ثم تجري حتى تنتهي إلى مستقرها تحت العرش فتخر ساجدة ولا تزال كذلك حتى يقال لها ارتفعي ارجعي من حيث جئت فترجع فتصبح طالعة من مطلعها ثم تجري لا يستنكر الناس منها شيئا حتى تنتهي إلى مستقرها ذاك تحت العرش فيقال لها : ارتفعي أصبحي طالعة من مغربك فتصبح طالعة من مغربها ) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أتدرون متى ذلكم ؟ ذاك حين { لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا } [ الأنعام :158 ] ) . ولفظ البخاري عن أبي ذر قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي ذر حين غربت الشمس : ( تدري أين تذهب ) قلت الله ورسوله أعلم ، قال : ( فإنها تذهب حتى تسجد تحت العرش فتستأذن فيؤذن لها ، ويوشك أن تسجد فلا يقبل منها ، وتستأذن فلا يؤذن لها يقال لها : ارجعي من حيث جئت فتطلع من مغربها ، فذلك قوله تعالى : { والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم } ) . ولفظ الترمذي عن أبي ذر قال : دخلت المسجد حين غابت الشمس والنبي صلى الله عليه وسلم جالس . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( يا أبا ذر أتدري أين تذهب هذه ) قال قلت : الله ورسوله أعلم . قال : ( فإنها تذهب فتستأذن في السجود فيؤذن لها وكأنها قد قيل لها اطلعي من حيث جئت فتطلع من مغربها ) قال : ثم قرأ " ذلك{[13211]} مستقر لها " قال :وذلك قراءة عبد الله . قال أبو عيسى : هذا حديث حسن صحيح . وقال عكرمة : إن الشمس إذا غربت دخلت محرابا تحت العرش تسبح الله حتى تصبح ، فإذا أصبحت استعفت ربها من الخروج فيقول لها الرب : ولم ذاك ؟ قالت : إني إذا خرجت عبدت من دونك . فيقول الرب تبارك وتعالى : أخرجي فليس عليك من ذاك شيء ، سأبعث إليهم جهنم مع سبعين ألف ملك يقودونها حتى يدخلوهم فيها .

وقال الكلبي وغيره : المعنى تجري إلى أبعد منازلها في الغروب ، ثم ترجع إلى أدنى منازلها ، فمستقرها بلوغها الموضع الذي لا تتجاوزه بل ترجع منه ؛ كالإنسان يقطع مسافة حتى يبلغ أقصى مقصوده فيقضي وطره ، ثم يرجع إلى منزله الأول الذي ابتدأ منه سفره . وعلى تبليغ الشمس أقصى منازلها ، وهو مستقرها إذا طلعت الهنعة ، وذلك اليوم أطول الأيام في السنة ، وتلك الليلة أقصر الليالي ، فالنهار خمس عشرة ساعة والليل تسع ساعات ، ثم يأخذ في النقصان وترجع الشمس ، فإذا طلعت الثريا استوى الليل والنهار ، وكل واحد ثنتا عشرة ساعة ، ثم تبلغ أدنى منازلها وتطلع النعائم ، وذلك اليوم أقصر الأيام ، والليل خمس عشرة ساعة ، حتى إذا طلع فرس الدلو المؤخر استوى الليل والنهار ، فيأخذ الليل من النهار كل يوم عشر ثلث ساعة ، وكل عشرة أيام ثلث ساعة ، وكل شهر ساعة تامة ، حتى يستويا ويأخذ الليل حتى يبلغ خمس عشرة ساعة ، ويأخذ النهار من الليل كذلك . وقال الحسن : إن للشمس في السنة ثلاثمائة وستين مطلعا ، تنزل في كل يوم مطلعا ، ثم لا تنزله إلى الحول ، فهي تجري في تلك المنازل وهي مستقرها . وهو معنى الذي قبله سواء . وقال ابن عباس : إنها إذا غربت وانتهت إلى الموضع الذي لا تتجاوزه استقرت تحت العرش إلى أن تطلع .

قلت : ما قاله ابن عباس يجمع الأقوال فتأمله . وقيل : إلى انتهاء أمدها عند انقضاء الدنيا ، وقرأ ابن مسعود وابن عباس { والشمس تجري لا مستقر لها } أي : إنها تجري في الليل والنهار لا وقوف لها ولا قرار ، إلى أن يكورها الله يوم القيامة . وقد احتج من خالف المصحف فقال : أنا أقرأ بقراءة ابن مسعود وابن عباس . قال أبو بكر الأنباري : وهذا باطل مردود على من نقله ؛ لأن أبا عمرو روى عن مجاهد عن ابن عباس وابن كثير روى عن مجاهد عن ابن عباس { والشمس تجري لمستقر لها } فهذان السندان عن ابن عباس اللذان يشهد بصحتهما الإجماع - يبطلان ما روي بالسند الضعيف مما يخالف مذهب الجماعة ، وما اتفقت عليه الأمة .

قلت : والأحاديث الثابتة التي ذكرناها ترد قوله ، فما أجرأه على كتاب الله ، قاتله الله . وقوله : { لمستقر لها } أي : إلى مستقرها ، والمستقر موضع القرار . { ذلك تقدير } أي : الذي ذكر من أمر الليل والنهار والشمس تقدير { العزيز العليم } .


[13211]:كذا في الأصول وفي صحيح الترمذي ولعله تحريف، إذ لا تعرف قراءة بهذا النص، وقراءة عبد الله بن مسعود "والشمس تجري لا مستقر لها" كما سيأتي.
 
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي [إخفاء]  
{وَٱلشَّمۡسُ تَجۡرِي لِمُسۡتَقَرّٖ لَّهَاۚ ذَٰلِكَ تَقۡدِيرُ ٱلۡعَزِيزِ ٱلۡعَلِيمِ} (38)

ولما ذكر الوقتين ، ذكر آيتيهما فقال : { والشمس } أي التي سلخ النهار من الليل بغيبوبتها { تجري } ولما كان غيابها بالليل مثل سكون الإنسان في مبيته ، وجعلها على خط قدر لسيرها كل يوم بتقدير لا زيع فيه ومنهاج لا يعوج ، قال : { لمستقر } أي عظيم { لها } وهو السير الذي لا تعدوه جنوباً ولا شمالاً ذاهبة وآئبة ، وهي فيه مسرعة - بدليل التعبير باللام في موضع " إلى " ويدل على هذا قراءة " لا مستقر لها " بل هي جارية ابداً إلى انقراض الدنيا في موضع مكين محكم هو أهل للقرار ، وعبر به مع أنها لا تستقر ما دام هذا الكون لئلا يتوهم أن دوام حركتها لأجل أن موضع جريها لا يمكن الاستقرار عليه ، ولا ينافي هذا ما في صحيح البخاري وفي كتاب الإيمان من صحيح مسلم عن أبي ذر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " مستقرها تحت العرش ، وأنها تذهب فتستأذن في السجود فيؤذن لها وكأنها قد قيل لها : ارجعي من حيث جئت ، فتطلع من مغربها " - هذا لفظ مسلم ، وسيأتي لفظ البخاري ، ويمكن أن يكون المستقر آخر جريها عند إبادة هذا الوجود .

ولما كان هذا الجري على نظام لا يختل على مر السنين وتعاقب الأحقاب تكل الأوهام عن استخراجه ، وتتحير الأفهام في استنباطه ، عظمه بقوله : { ذلك } أي الأمر الباهر للعقول ؛ وزاد في عظمه بصيغة التفعيل في قوله : { تقدير } وأكد ذلك لافتاً القول عن مطلق مظهر العظمة إلى تخصيصه بصفتي العزة والعلم تعظيماً لهذه الآية تنبيهاً على أنها أكبر آيات السماء فقال : { العزيز } أي الذي لا يقدر أحد في شيء من أمره على نوع مغالبة ، وهو غالب على كل شيء { العليم * } أي المحيط علماً بكل شيء الذي يدبر الأمر ، فيطرد على نظام عجيب ونهج بديع لا يعتريه وهن ولا يلحقه يوماً نوع خلل إلى أن يريد سبحانه إبادة هذا الكون فتسكن حركاته وتفنى موجوداته ، روى البخاري عن أبي ذر رضي الله عنه قال : " كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد عند غروب الشمس فقال : يا أبا ذر ! أتدري أين تذهب ؟ قال : قلت : الله ورسوله أعلم ، قال : فإنها تذهب حتى تسجد تحت العرش فتستأذن فيؤذن لها ، ويوشك أن تسجد فلا يقبل منها وتستأذن فلا يؤذن لها ، فيقال لها : ارجعي من حيث جئت ، فذلك قوله تعالى : { والشمس تجري لمستقر لها } " .