{ قال رب أنى يكون لي غلام وكانت امرأتي عاقرا وقد بلغت من الكبر عتيا } جساوة وقحولا في المفاصل ، وأصله عتو وكقعود فاستثقلوا توالي الضمتين والواوين فكسروا التاء فانقلبت الواو الأولى ياء ، ثم قلبت الثانية وأدغمت وقرأ حمزة والكسائي وحفص { عتيا } بالكسر ، وإنما استعجب الولد من شيخ فان وعجوز عاقر اعترافا بأن المؤثر فيه كمال قدرته وأن الوسائط عند التحقيق ملغاة ولذلك : { قال } .
جملة { قَالَ رَبّ } جواب للبشارة .
و { أنى } استفهام مستعمل في التعجب ، والتعجب مكنى به عن الشكر ، فهو اعتراف بأنها عطية عزيزة غير مألوفة لأنّه لا يجوز أن يسأل الله أن يهب له ولداً ثمّ يتعجب من استجابة الله له . ويجوز أن يكون قد ظن الله يهب له ولداً من امرأة أخرى بأن يأذنه بتزوج امرأة غير عاقر ، وتقدّم القول في نظير هذه الآية في سورة آل عمران .
وجملة { امرأتي عاقراً } حال من ياء التكلّم . وكرّر ذلك مع قوله في دعائه { وكَانَتِ امرأتي عاقِراً } . وهو يقتضي أنّ زكرياء كان يظن أن عدم الولادة بسبب عقر امرأته ، وكان الناس يحسبون ذلك إذا لم يكن بالرجل عُنّةٌ ولا خصاء ولا اعتراض ، لأنهم يحسبون الإنعَاظ والإنزال هما سبب الحمل إن لم تكن بالمرأة عاهة العُقر .
وهذا خطأ فإن عدم الولادة يكون إمّا لعلّة بالمرأة في رحمها أو لعلة في ماء الرجل يكون غير صالح لنماء البويضات التي تبرزها رحم المرأة .
و { من } في قوله { من الكبر عُتِيّاً } للابتداء ، وهو مجاز في معنى التعليل .
والكِبر : كثرة سني العمر ، لأنه يقارنه ظهور قلّة النشاط واختلال نظام الجسم .
و { عُتِيّاً } مفعول { بَلَغْتُ } .
والبلوغ : مجاز في حلول الإبان ، وجعل نفسه هنا بالغاً الكبر وفي آية آل عمران ( 40 ) قال : { وقد بلغني الكبر } لأن البلوغ لما كان مجازاً في حصول الوصف صح أن يسند إلى الوصف وإلى الموصوف .
والعُتيّ بضم العين في قراءة الجمهور مصدر عتا العود إذا يبس ، وهو بوزن فعول أصله عُتُووٌ ، والقياس فيه أن تصحح الواو لأنها إثر ضمّة ولكنهم لما استثقلوا توالي ضمتين بعدهما واوان وهما بمنزلة ضمتين تخلصوا من ذلك الثقل بإبدال ضمّة العين كسرة ثم قلبوا الواو الأولى ياء لوقوعها ساكنة إثْرَ كسرة فلما قلبت ياءً اجتمعت تلك الياء مع الواو التي هي لام ، وكأنهم ما كسروا التاء في عتي بمعنى اليبس إلاّ لدفع الالتباس بينه وبين العُتوّ الذي هو الطغيان فلا موجب لطلب تخفيف أحدهما دون الآخر .
شبه عظامه بالأعواد اليابسة على طريقة المكنية ، وإثباتُ وصف العُتي لها استعارة تخييلية .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: قال زكريا لما بشره الله بيحيى: ربّ أنّي يكونُ لي غُلام، ومن أيّ وجه يكون لي ذلك، وامرأتي عاقر لا تحبل، وقد ضعُفت من الكبر عن مباضعة النساء أبأن تقوّيني على ما ضعفت عنه من ذلك، وتجعل زوجتي ولودا، فإنك القادر على ذلك وعلى ما تشاء، أم بأن أنكح زوجة غير زوجتي العاقر؟ يستثبت ربه الخبر، عن الوجه الذي يكون من قبله له الولد، الذي بشره الله به، لا إنكارا منه صلى الله عليه وسلم حقيقة كون ما وعده الله من الولد، وكيف يكون ذلك منه إنكارا لأن يرزقه الولد الذي بشّره به، وهو المبتدئ مسألة ربه ذلك بقوله:"فَهَبْ لي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّا يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ" بعد قوله "إنّي وَهَنَ العَظْمُ مِني وَاشْتَعَلَ الرّأسُ شَيْبا"...
وقوله: "وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الكِبَرِ عِتِيّا "يقول: وقد عتوت من الكبر فصرت نحل العظام يابسها، يقال منه للعود اليابس: عود عاتٍ وعاسٍ، وقد عتا يعتو عِتِيّا وعُتُوّا، وعسى يعسو عِسِيا وعسوّا، وكلّ متناه إلى غايته في كبر أو فساد، أو كفر، فهو عات وعاس...
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
وفي تسميتها عاقراً وجهان: أحدهما: لأنها تصير إذا لم تلد كأنها تعقر النسل أي تقطعه. الثاني: لأن في رحمها عقراً يفسد المني، ولم يقل ذلك عن شك بعد الوحي ولكن على وجه الاستخبار: أتعيدنا شابين؟ أو ترزقنا الولد شيخين؟
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
أي كانت على صفة العقر حين أنا شاب وكهل، فما رزقت الولد لاختلال أحد السببين، أفحين اختل السببان جميعاً أُرزقه؟
فإن قلت: لم طلب أولاً وهو وامرأته على صفة العتيّ والعقر، فلما أسعف بطلبته استبعد واستعجب؟ قلت: ليجاب بما أجيب به، فيزداد المؤمنون إيقاناً ويرتدع المبطلون، وإلا فمعتقد زكريا أولاً وآخراً كان على منهاج واحد: في أنّ الله غني عن الأسباب.
[عتيا] أي بلغت عتياً: وهو اليبس والجساوة في المفاصل والعظام كالعود القاحل يقال: عتا العود وعسا من أجل الكبر والطعن في السن العالية. أو بلغت من مدارج الكبر ومراتبه ما يسمى عتياً.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
فكأنه قيل: ما قال في جواب هذه البشارة العظمى؟ فقيل: {قال} عالماً بصدقها طالباً لتأكيدها، والتلذيذ بترديدها، وهل ذلك من امرأته أو غيرها؟ وهل إذا كان منها يكونان على حالتهما من الكبر أو غيرها غير طائش ولا عجل {رب} أي المحسن إليّ بإجابة دعائي دائماً {أنّى} أي من أين وكيف وعلى أيّ حال {يكون لي غلام} يولد لي على غاية القوة والنشاط والكمال في الذكورة {وكانت} أي والحال أنه كانت {امرأتي} إذا كانت شابة {عاقراً} غير قابلة للولد عادة وأنا وهي شابان فلم يأتنا ولد لاختلال أحد السببين، فكيف بها وقد أسنت! {وقد بلغت} أنا {من الكبر عتياً} أي أمراً في اليبس مجاوزاً للحد هو غاية في الكبر ما بعدها غاية، وقد حصل من ذلك من الضعف ويبس الأعضاء وقحلها ما يمنع في العادة من حصول الولد مطلقاً لاختلال السببين معاً فضلاً عن أن يصلح لأن يعبر عنه بغلام.
روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي 1270 هـ :
استئناف مبني على السؤال كأنه قيل فماذا قال عليه السلام حينئذٍ؟ فقيل قال: {رَبّ} ناداه تعالى بالذات مع وصول خطابه تعالى إليه بواسطة الملك للمبالغة في التضرع والمناجاة والجد في التبتل إليه عز وجل، وقيل لذلك والاحتراز عما عسى يوهم خطابه للملك من توهم أن علمه تعالى بما يصدر عنه متوقف على توسطه كما أن علم البشر بما يصدر عنه تعالى متوقف على ذلك في عامة الأوقات؛ ولا يخفى أن الاقتصار على الأول أولى {أنى يَكُونُ لِي غلام} كلمة {أنى} عنى كيف أو من أين؟... وقال الراغب: هو حالة لا سبيل إلى إصلاحها ومداواتها، وقيل إلى رياضتها...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
{رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ ْ} والحال أن المانع من وجود الولد، موجود بي وبزوجتي؟ وكأنه وقت دعائه، لم يستحضر هذا المانع لقوة الوارد في قلبه، وشدة الحرص العظيم على الولد، وفي هذه الحال، حين قبلت دعوته، تعجب من ذلك.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وكأنما أفاق زكريا من غمرة الرغبة وحرارة الرجاء، على هذه الاستجابة القريبة للدعاء. فإذا هو يواجه الواقع.. إنه رجل شيخ بلغ من الكبر عتيا، وهن عظمه واشتعل شيبه، وامرأته عاقر لم تلد له في فتوته وصباه: فكيف يا ترى سيكون له غلام؟ إنه ليريد أن يطمئن، ويعرف الوسيلة التي يرزقه الله بها هذا الغلام: (قال: رب أنى يكون لي غلام وكانت امرأتي عاقرا وقد بلغت من الكبر عتيا؟). إنه يواجه الواقع، ويواجه معه وعد الله. وإنه ليثق بالوعد، ولكنه يريد أن يعرف كيف يكون تحقيقه مع ذلك الواقع الذي يواجهه ليطمئن قلبه. وهي حالة نفسية طبيعية. في مثل موقف زكريا النبي الصالح. الإنسان! الذي لا يملك أن يغفل الواقع، فيشتاق أن يعرف كيف يغيره الله!...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
جملة {قَالَ رَبّ} جواب للبشارة. و {أنى} استفهام مستعمل في التعجب، والتعجب مكنى به عن الشكر، فهو اعتراف بأنها عطية عزيزة غير مألوفة لأنّه لا يجوز أن يسأل الله أن يهب له ولداً ثمّ يتعجب من استجابة الله له. ويجوز أن يكون قد ظن الله يهب له ولداً من امرأة أخرى بأن يأذنه بتزوج امرأة غير عاقر، وتقدّم القول في نظير هذه الآية في سورة آل عمران...
وكرّر ذلك مع قوله في دعائه {وكَانَتِ امرأتي عاقِراً}. وهو يقتضي أنّ زكرياء كان يظن أن عدم الولادة بسبب عقر امرأته، وكان الناس يحسبون ذلك إذا لم يكن بالرجل عُنّةٌ ولا خصاء ولا اعتراض، لأنهم يحسبون الإنعَاظ والإنزال هما سبب الحمل إن لم تكن بالمرأة عاهة العُقر...
وهذا خطأ فإن عدم الولادة يكون إمّا لعلّة بالمرأة في رحمها أو لعلة في ماء الرجل يكون غير صالح لنماء البويضات التي تبرزها رحم المرأة...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
وهنا نجد نبي الله زكريا، وقد وقف بين حالين: حال الإيمان بالله خالق الأسباب والمسببات الذي لا تقيد إرادته عادة ولا سبب أي سبب، والحال التي تسود الناس، وهي سيطرة الأسباب والمسببات العادية على تفكيرهم، فبالأولى طلب ما طلب عالما أن الله تعالى فوق الأسباب والمسببات، وبالثانية ثار عجبه، ولذا قال تعالى عنه: {قال رب أنّى يكون لي غلام وكانت امرأتي عاقرا وقد بلغت من الكبر عتيا}. الاستفهام ليس للاستنكار، فكيف يستنكر نبي قدرة الله تعالى على الأشياء من غير وسائط وأسباب، وهو خالق الوسائط والأسباب، وإنما كان هذا السؤال للتنبيه إلى موضع الغرابة، وليؤمن من لم يكن آمن بقدرة الله تعالى، وأنه لا يحتاج في خلقه إلى وسائط وليسمع الناس بيان الله تعالى أنه هين عليه، وأنه ليس بغريب من الله تعالى، فقد خلق الإنسان ولم يك شيئا، وأن الله تعالى غني عن الوسائط والأسباب، وشكرا لنعمة الله في إجابة الدعاء فقد أجاب سبحانه مع ظهور ما يبعد الإجابة، ولكن ليس على الله ببعيد.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
فقد غيرني الزمان إلى حالة لم يبق لي معها شيء من الحيوية فصرت تماماً كالعود اليابس الذي لا خضرة فيه ولا حياة، فكيف يمكن أن أهب الحياة لغيري في مثل هذه الظروف الصعبة؟ وكأن زكريا قد فوجئ بأمر لم يكن ينتظره لأنه لم يحسب أن الإنجاب يتم بمثل هذه السهولة، وأن الدعاء يستجاب بهذه السرعة، وأن ما كان مستحيلاً في نظره أصبح واقعاً في حياته. وربما كان يتصور أن دعاءه بالولد يدخل في نطاق التمنيات التي يتحدث بها الإنسان إلى ربه، دون أن يكون له طمع كبير في تحققها، لا لأنه يشك في قدرة الله على ذلك، بل لأنه لا يعتقد أن الله يتدخل في الأمور بشكل مباشر لمصلحة شخص معين، بعد أن جعل الحياة كلها خاضعة للسنن الكونية في وجودها وفي حركتها العامة والخاصة. وهذا ما جعل السؤال ينطلق منه في ما يشبه الصراخ العنيف، كما توحي الآية...