{ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي ْ }أي : وهى وضعف ، وإذا ضعف العظم ، الذي هو عماد البدن ، ضعف غيره ، { وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا ْ } لأن الشيب دليل الضعف والكبر ، ورسول الموت ورائده ، ونذيره ، فتوسل إلى الله تعالى بضعفه وعجزه ، وهذا من أحب الوسائل إلى الله ، لأنه يدل على التبري من الحول والقوة ، وتعلق القلب بحول الله وقوته .
{ وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا ْ } أي : لم تكن يا رب تردني خائبا ولا محروما من الإجابة ، بل لم تزل بي حفيا ولدعائي مجيبا ، ولم تزل ألطافك تتوالى علي ، وإحسانك واصلا إلي ، وهذا توسل إلى الله بإنعامه عليه ، وإجابة دعواته السابقة ، فسأل الذي أحسن سابقا ، أن يتمم إحسانه لاحقا .
{ قال رب إني وهن العظم مني } تفسير للنداء والوهن الضعف ، وتخصيص العظم لأنه دعامة البدن وأصل بنائه ولأنه أصلب ما فيه ، فإذا وهن كان ما وراءه أوهن وتوحيد لأن المراد به الجنس وقرئ و{ هن } و{ وهن } بالضم والكسر ونظيره كمل بالحركات الثلاث { واشتعل الرأس شيبا } شبه الشيب في بياضه وإنارته بشواظ النار وانتشاره وفشوه في الشعر باشتعالها ثم أخرجه مخرج الاستعارة وأسند الاشتعال إلى الرأس الذي هو مكان الشيب مبالغة وجعله مميزا إيضاحا للمقصود ، واكتفى باللام على الإضافة للدلالة على أن علم المخاطب بتعين المراد يغني عن التقيد { ولم أكن بدعائك رب شقيا } بل كلما دعوتك استجبت لي وهو توسل بما سلف معه من الاستجابة ، وتنبيه على أن المدعو له وإن لم يكن معتادا فإجابته معتادة ، وأنه تعالى عوده بالإجابة وأطمعه فيها ، ومن حق الكريم أن لا يخيب من أطمعه .
جملة { قَالَ ربّ إنِّي وهَنَ العَظمُ مِني } مبنية لجملة { نادى ربه } [ مريم : 3 ] . وهي وما بعدها تمهيد للمقصود من الدعاء وهو قوله : { فَهَب لِي مِن لَّدُنكَ ولِيّاً } . وإنّما كان ذلك تمهيداً لما يتضمنه من اضطراره لسؤال الولد . والله يجيب المضطر إذا دعاه ، فليس سؤاله الولدَ سؤال توسع لمجرد تمتع أو فخر .
ووصَف من حاله ما تشتد معه الحاجة إلى الولد حالاً ومئالاً ، فكان وهن العظم وعموم الشيب حالاً مقتضياً للاستعانة بالولد مع ما يقتضيه من اقتراب إبان الموت عادة ، فذلك مقصود لنفسه ووسيلة لغيره وهو الميراث بعد الموت . والخبران من قوله : { وهن العظم مني واشتعل الرأس شيباً } مستعملان مجازاً في لازم الإخبار ، وهو الاسترحام لحاله . لأن المخبَر بفتح الباء عالم بما تضمنه الخبران .
والوهن : الضعف . وإسناده إلى العظم دون غيره مما شمله الوهن في جسده لأنه أوجز في الدلالة على عموم الوهن جميع بدنه لأنّ العظم هو قوام البدن وهو أصلب شيء فيه فلا يبلغه الوهن إلاّ وقد بلغ ما فوقه .
والتعريف في ( العظَمُ ) تعريف الجنس دال على عموم العظام منه .
وشبّه عموم الشّيب شعرَ رأسه أو غلَبَته عليه باشتعال النار في الفحم بجامع انتشار شيء لامع في جسم أسود ، تشبيهاً مركباً تمثيلياً قابلاً لاعتبار التفريق في التشبيه ، وهو أبدع أنواع المركب . فشبه الشعر الأسود بفحم والشعر الأبيض بنار على طريق التمثيلية المكنية ورمز إلى الأمرين بفعل { اشتَعَل } .
وأسند الاشتعال إلى الرأس ، وهو مكان الشعر الذي عمّه الشيب ، لأنّ الرأس لا يعمه الشيب إلاّ بعد أن يعمّ اللّحية غالباً ، فعموم الشيب في الرأس أمارة التوغل في كبر السن .
وإسناد الاشتعال إلى الرأس مجاز عقلي ، لأنّ الاشتعال من صفات النار المشبه بها الشيب فكان الظاهر إسناده إلى الشيب ، فلما جيء باسم الشيب تمييزاً لنسبة الاشتعال حصل بذلك خصوصية المجاز وغرابته ، وخصوصية التفصيل بعد الإجمال ، مع إفادة تنكير { شَيباً } من التعظيم فحصل إيجاز بديع . وأصل النظم المعتاد : واشتعل الشيب في شعر الرأس .
ولِما في هذه الجملة من الخصوصيات من مبنى المعاني والبيان كان لها أعظم وقع عند أهل البلاغة نبه عليه صاحب « الكشاف » ووضحه صاحب « المفتاح » فانظُرهما .
وقد اقتبس معناها أبو بكر بن دريد في قوله :
واشتعل المُبيضّ في مُسوده *** مثلَ اشتعال النّار في جزل الغضا
ولكنّه خليق بأن يكون مضرب قولهم في المثل : « ماء ولا كصدّى » .
والشيب : بياض الشعر . ويعرض للشعر البياض بسبب نقصان المادة التي تعطي اللون الأصلي للشعر ، ونقصانها بسبب كبر السن غالباً ، فلذلك كان الشيب علامة على الكبر ، وقد يبيضّ الشعر مِنْ مرض .
وجملة { لم أكن بدعائك رب شقياً } معترضة بين الجمل التمهيدية ، والباء في قوله : { بدعائك } للمصاحبة .
والشقيّ : الذي أصابته الشقوة ، وهي ضد السعادة ، أي هي الحرمان من المأمول وضلال السّعي . وأطلق نفي الشقاوة والمراد حصول ضدها وهو السعادة على طريق الكناية إذ لا واسطة بينهما عرفاً .
ومثل هذا التركيب جرى في كلامهم مجرى المثل في حصول السعادة من شيء . ونظيره قوله تعالى في هذه السورة في قصة إبراهيم : { عسى ألا أكون بدعاء ربي شقياً } [ مريم : 48 ] أي عسى أن أكون سعيداً . أي مستجاب الدعوة . وفي حديث أبي هُريرة عن النبيء صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربّه في شأن الذين يذكرون الله ومن جالسهم « هم الجلساء لا يشقى بهم جليسهم » أي يسعد معهم . وقال بعض الشعراء ، لم نعرف اسمه وهو إسلامي :
وكنت جليسَ قعقاع بن شَوْر *** ولا يشقَى بقعقاع جليس
والمعنى : لم أكن فيما دعوتك من قبل مردود الدعوة منك ، أي أنه قد عهد من الله الاستجابة كلما دعاه .
وهذا تمهيد للإجابة من طريق غير طريق التمهيد الذي في الجمل المصاحبة له بل هو بطريق الحث على استمرار جميل صنع الله معه ، وتوسلٌ إليه بما سلف له معه من الاستجابة .
روي أن محتاجاً سأل حاتماً الطائي أو مَعْنَ بن زائدةَ قائلاً : « أنا الذي أحسنت إليّ يوم كذا » فقال : « مرحباً بمن تَوسل بنا إلينا » .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{قال رب إني وهن العظم مني}، يعني: ضعف العظم مني، {واشتعل الرأس شيبا}، يعني: بياضا، {ولم أكن بدعائك رب شقيا}، يعني: خائبا فيما خلا، كنتَ تستجيب لي، فلا تخيبني في دعائي إياك بالولد.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله:"قالَ رَبّ إنّي وَهَنَ العَظْمُ مِنّي" يقول تعالى ذكره، فكان نداؤه الخفيّ الذي نادى به ربه أن قال: "رَبّ إنّي وَهَنَ العَظْمُ مِنّي "يعني بقوله وَهَنَ: ضعف ورقّ من الكبر...
وقد اختلف أهل العربية في وجه النصب في الشّيْب، فقال بعض نحويّي البصرة: نصب على المصدر من معنى الكلام، كأنه حين قال: اشتعل، قال: شاب، فقال: شَيْبا على المصدر... وقال غيره: نصب الشيب على التفسير، لأنه يقال: اشتعل شيبُ رأسي، واشتعل رأسي شيبا...
وقوله: "ولَمْ أكُنْ بِدُعائِكَ رَبّ شَقِيّا" يقول: ولم أشق يا ربّ بدعائك، لأنك لم تخيب دعائي قبل إذ كنت أدعوك في حاجتي إليك، بل كنت تجيب وتقضي حاجتي قِبَلك...
عن ابن جريج، قوله: "ولَمْ أكُنْ بدُعائِكَ رَبّ شَقِيّا" يقول: قد كنتَ تعرّفني الإجابة فيما مضى.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{واشتعل الرأس شيبا} اعتذر إليه، وقدم زكريا ما حل به من الكبر وبلوغه الوقت الذي لا يطمع في ذلك الوقت الولد؛ أي بلغت المبلغ الذي ضعف فيه بدني ورق عظمي. ثم سأل ربه الولد، ليس على أنه كان لا يعرف قدرة الله أنه قادر على هبة الولد وإنشائه في كل وقت؛ الكبر والضعف وبالسبب وبغير السبب. لكنه لا يعرف أنه يسع ويصلح سؤال الولد وهبته في الوقت الذي كان بلغه، وهو الوقت الذي لا يطمع فيه الولد في الأغلب، وهو ما ذكر في سورة آل عمران: {كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا قال يا مريم أنى لك هذا قالت هو من عند الله} (الآية: 37) فعند ذلك عرف زكريا أنه يسع دعاء هبة الولد وسؤاله في وقت الإياس حين رأى عند مريم فاكهة الشتاء في الصيف وفاكهة الصيف في الشتاء غير متغيرة عن حالها. فسأل عند ذلك ربه الولد، وهو قوله: {هنالك دعا زكريا ربه قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة} الآية (الآية: 38) والله أعلم.
{ولم أكن بدعائك رب شقيا} قال بعضهم: أي كنت تعودني الإجابة في دعائي إياك في ما مضى. وقال بعضهم: أي لم يكن دعائي مما يخيب عندك، وهما واحد؛ ذكر منته وفضله الذي كان منه إليه.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
والوهن: الضعف، وهو نقصان القوة، يقال وهن الرجل يهن وهنا إذا ضعف. ومنه قوله (ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الاعلون)...
تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :
(واشتعل الرأس شيبا) أي: شعر الرأس. والعرب تقول إذا كثر الشيب في الرأس: اشتعل رأسه، وهذا أحسن استعارة، لأنه يشتعل فيه كاشتعال النار في الحطب...
أحكام القرآن لإلكيا الهراسي 504 هـ :
{وَهَنَ العَظْمُ مِنّي}، الآية: [4]: يدل على أنه يستحب للمرء أن يذكر في دعائه نعم الله تعالى عليه، وما يليق بالخضوع، لأن قوله: {وَهَنَ العَظْمُ مِنّي}، إظهار للخضوع، وقوله: {وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقيّا}، إظهار لعادات تفضله في إجابة أدعيته...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
... وإنما ذكر العظم لأنه عمود البدن وبه قوامه وهو أصل بنائه، فإذا وهن تداعى وتساقطت قوته، ولأنه أشد ما فيه وأصلبه، فإذا وهن كان ما وراءه أوهن. ووحَّده لأن الواحد هو الدال على معنى الجنسية، وقصده إلى أن هذا الجنس الذي هو العمود والقوام وأشد ما تركب منه الجسد قد أصابه الوهن، ولو جمع لكان قصداً إلى معنى آخر، وهو أنه لم يهن منه بعض عظامه ولكن كلها. [واشتعل الرأس شيبا]... شبه الشيب بشواظ النار في بياضه وإنارته وانتشاره في الشعر وفشوّه فيه وأخذه منه كل مأخذ، باشتعال النار؛ ثم أخرجه مخرج الاستعارة، ثم أسند الاشتعال إلى مكان الشعر ومنبته وهو الرأس، وأخرج الشيب مميزاً ولم يضف الرأس اكتفاء بعلم المخاطب أنه رأس زكريا، فمن ثم فصحت هذه الجملة وشهد لها بالبلاغة. توسل إلى الله بما سلف له [معه] من الاستجابة. وعن بعضهم أن محتاجاً سأله وقال: أنا الذي أحسنت إليّ وقت كذا. فقال: مرحباً بمن توسل بنا إلينا، وقضى حاجته.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
فكأنه قيل: ما ذلك الندا؟ فقيل: {قال رب} بحذف الأداة للدلالة على غاية القرب {إني وهن} أي ضعف جداً {العظم مني} أي هذا الجنس الذي هو أقوى ما في بدني، وهو أصل بنائه، فكيف بغيره! ولو جمع لأوهم أنه وهن مجموع عظامه لا جميعها {واشتعل الرأس} أي شعره مني {شيباً ولم أكن} فيما مضى قط مع صغر السن {بدعائك} أي بدعائي إياك {رب شقياً} فأجرِني في هذه المرة أيضاً على عوائد فضلك، فإن المحسن يربي أول إحسانه بآخره وإن كان ما ادعوا به في غاية البعد في العادة، لكنك فعلت مع أبي إبراهيم عليه السلام مثله، فهو دعاء وشكر واستعطاف.
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
وهذا توسلٌ منه عليه السلام بما سلف منه من الاستجابة عند كلِّ دعوة إثرَ تمهيدِ ما يستدعي الرحمةَ ويستجلب الرأفةَ من كِبَر السّنِّ وضَعفِ الحال، فإنه تعالى بعد ما عوّد عبدَه بالإجابة دهراً طويلاً لا يكاد يُخيّبه أبداً لاسيما عند اضطرارِه وشدة افتقارِه، والتعرضُ في الموضوعين لوصف الربوبيةِ المنْبئة عن إضافة ما فيه صلاحُ المربوبِ، مع الإضافة إلى ضميره عليه الصلاة والسلام لاسيما توسيطُه بين كان وخبرها لتحريك سلسلةِ الإجابةِ بالمبالغة في التضرّع، ولذلك قيل: إذا أراد العبدُ أن يُستجابَ له دعاؤُه فليدعُ الله تعالى بما يناسبه من أسمائه وصفاتِه.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
إنه يناجي ربه بعيدا عن عيون الناس، بعيدا عن أسماعهم. في عزلة يخلص فيها لربه، ويكشف له عما يثقل كاهله ويكرب صدره ويناديه في قرب واتصال: (رب..) بلا واسطة حتى ولا حرف النداء. وإن ربه ليسمع ويرى من غير دعاء ولا نداء ولكن المكروب يستريح إلى البث، ويحتاج إلى الشكوى. والله الرحيم بعباده يعرف ذلك من فطرة البشر، فيستحب لهم أن يدعوه وأن يبثوه ما تضيق به صدورهم. (وقال ربكم ادعوني أستجب لكم) ليريحوا أعصابهم من العبء المرهق، ولتطمئن قلوبهم إلى أنهم قد عهدوا بأعبائهم إلى من هو أقوى وأقدر؛ وليستشعروا صلتهم بالجناب الذي لا يضام من يلجأ إليه، ولا يخيب من يتوكل عليه...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
جملة {قَالَ ربّ إنِّي وهَنَ العَظمُ مِني} مبينة لجملة {نادى ربه} [مريم: 3]. وهي وما بعدها تمهيد للمقصود من الدعاء وهو قوله: {فَهَب لِي مِن لَّدُنكَ ولِيّاً}. وإنّما كان ذلك تمهيداً لما يتضمنه من اضطراره لسؤال الولد. والله يجيب المضطر إذا دعاه، فليس سؤاله الولدَ سؤال توسع لمجرد تمتع أو فخر. ووصَف من حاله ما تشتد معه الحاجة إلى الولد حالاً ومئالاً، فكان وهن العظم وعموم الشيب حالاً مقتضياً للاستعانة بالولد مع ما يقتضيه من اقتراب إبان الموت عادة، فذلك مقصود لنفسه ووسيلة لغيره وهو الميراث بعد الموت. والخبران من قوله: {وهن العظم مني واشتعل الرأس شيباً} مستعملان مجازاً في لازم الإخبار، وهو الاسترحام لحاله. لأن المخبَر بفتح الباء عالم بما تضمنه الخبران...
والوهن: الضعف. وإسناده إلى العظم دون غيره مما شمله الوهن في جسده لأنه أوجز في الدلالة على عموم الوهن جميع بدنه لأنّ العظم هو قوام البدن وهو أصلب شيء فيه فلا يبلغه الوهن إلاّ وقد بلغ ما فوقه. والتعريف في (العظَمُ) تعريف الجنس دال على عموم العظام منه.. والشيب: بياض الشعر. ويعرض للشعر البياض بسبب نقصان المادة التي تعطي اللون الأصلي للشعر، ونقصانها بسبب كبر السن غالباً، فلذلك كان الشيب علامة على الكبر، وقد يبيضّ الشعر مِنْ مرض...
والشقيّ: الذي أصابته الشقوة، وهي ضد السعادة، أي هي الحرمان من المأمول وضلال السّعي. وأطلق نفي الشقاوة والمراد حصول ضدها وهو السعادة على طريق الكناية إذ لا واسطة بينهما عرفاً.
قال زكريا (رب) أي يا رب؛ لأنه يدعو بأمر يتعلق بعطاء الربوبية الذي يشمل المؤمن والكافر، إنه يطلب الولد، وهذا أمر يتعلق ببنية الحياة وصلاحها للإنجاب، وهذه من عطاء الرب سبحانه وتعالى من بعد أبيه. فكأن زكريا عليه السلام دعا ربه: يا رب يا من تعطى من آمن بك، وتعطى من كفر، يا من تعطي من أطاع، وتعطي من عصى، حاشاك أن تمنع عطاءك عمن أطاعك ويدعو الناس إلى طاعتك. أما الدعاء بالله ففي أمور العبادة والتكليف. ثم يقدم زكريا عليه السلام حيثيات هذا المطلب:... ولما كان العظم شيئا باطنا مدفونا تحت الجلد، فهو حيثية باطنة، فأراد زكريا عليه السلام أن يأتي بحيثية أخرى ظاهرة بينة، فأتى بأمر واضح: (واشتعل الرأس شيبا...)
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي} فقد ضعف جسدي، واختلت قواه، ولم يعد هذا العظم الذي يعتمد عليه البدن في حركته وسكونه قادراً على حملي، لأنه فقد القوة والصلابة اللتين يتوقف عليهما نشاطه، {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً} فقد انتشر الشيب في رأسي، تماماً كما ينتشر اللهب في الهشيم عندما تشتعل فيه النار. فقد بلغت سن الشيخوخة التي تعطِّل فيَّ كل حيوية وقوّة ونشاط في ما أريد القيام به من حركة الحياة، {وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَآئِكَ رَبِّ شَقِيّاً} فقد عوّدتني أن تستجيب لي كلما دعوتك، فأنت الرب العظيم القادر الذي لا يضيق بأي دعاء مهما كان صعباً أو سهلاً. ولذلك لم يضعف الأمل في قلبي ولم يهتز أمام كل هذا الضعف، ولم يجد اليأس طريقه إلى وجداني المنفتح على رحمتك وقدرتك، وتلك هي سعادة الروح المتصلة بالله، في ما تحبه، وفي ما تريده، فلا مجال للإحساس بالشقاء الداخلي، مهما كانت الأوضاع والظروف.