{ ولقد فتنا سليمان وألقينا على كرسيه جسدا ثم أناب } وأظهر ما قيل فيه ما روي مرفوعا " أنه قال : لأطوفن الليلة على سبعين امرأة تأتي كل واحدة بفارس يجاهد في سبيل الله ولم يقل إن شاء الله ، فطاف عليهن فلم تحمل إلا امرأة جاءت بشق رجل ، فوالذي نفس محمد بيده لو قال إن شاء الله لجاهدوا فرسانا " . وقيل ولد له ابن فاجتمعت الشياطين على قتله فعلم ذلك ، فكان يغدوه في السحاب فما شعر به إلا أن ألقي على كرسيه ميتا فتنبه على خطئه بأن لم يتوكل على الله . وقيل إنه غزا صيدون من الجزائر فقتل ملكها وأصاب ابنته جرادة ، فأحبها وكان لا يرقأ دمعها جزعا على أبيها ، فأمر الشياطين فمثلوا لها صورته فكانت تغدو إليها وتروح مع ولائدها يسجدن لها كعادتهن في ملكه ، فأخبره آصف فكسر الصورة وضرب المرأة وخرج إلى الفلاة باكيا متضرعا ، وكانت له أم ولد اسمها أمينة إذا دخل للطهارة أعطاها خاتمه وكان ملكه فيه ، فأعطاها يوما فتمثل لها بصورته شيطان اسمه صخر وأخذ الخاتم وتختم به وجلس على كرسيه ، فاجتمع عليه الخلق ونفذ حكمه في كل شيء إلا في نسائه وغير سليمان عن هيئته ، فأتاها لطلب الخاتم فطردته فعرف أن الخطيئة قد أدركته ، فكان يدور على البيوت يتكفف حتى مضى أربعون يوما عدد ما عبدت الصورة في بيته ، فطار الشيطان وقذف الخاتم في البحر فابتلعته سمكة فوقعت في يده فبقر بطنها فوجد الخاتم فتختم به وخر ساجدا وعاد إليه الملك ، فعلى هذا الجسد صخر سمي به وهو جسم لا روح فيه لأنه كان متمثلا بما لم يكن كذلك ، والخطيئة تغافله عن حال أهله لأن اتخاذ التماثيل كان جائزا حينئذ ، وسجود الصورة بغير علمه لا يضره .
قد قلت آنفاً عند قوله تعالى : { ووهبنا لداود سليمان } [ ص : 30 ] إن ما ذكر من مناقب سليمان لم يخل من مقاصد ائتساء وعبرة وتحذير على عادة القرآن في ابتدار وسائل الإِرشاد بالترغيب والترهيب ، فكذلك كانت الآيات المتعلقة بندمه على الاشتغال بالخيل عن ذكر الله موقع أسوة به في مبادرة التوبة وتحذير من الوقوع في مثل غفلته ، وكذلك جاءت هذه الآيات مشيرة إلى فتنة عرضت لسليمان أعقبتها إنابة ثم أعقبتها إفاضة نعم عظيمة فذكرت عقب ذكر قصة ما ناله من السهو عن عبادته وهو دون الفتنة . والفَتن والفتون والفتنة : اضطراب الحال الشديد الذي يظهر به مقدار صبر وثبات من يحلّ به ، وتقدم ذلك عند قوله تعالى : { إنما نحن فتنة } في سورة البقرة ( 102 ) .
وقد أشارت الآية إلى حدث عظيم حلّ بسليمان ، واختلفت أقوال المفسرين في تعيين هذه الفتنة فذكروا قصصاً هي بالخرافات أشبه ، ومقام سليمان عن أمثالها أنزه . ومن أغربها قولهم : إنه ولد له ابن فخاف عليه الناسَ أن يقتلوه فاستودعه الريح لتحضنه وترضعه دَرّ ماء المُزن فلم يلبث أن أصابه الموت وألقته الريح على كرسي سليمان ليعلم أنه لا مردّ لمحتوم الموت . وهذا ما نظمه المعري تبعاً لأوهام الناس فقال حكاية عن سليمان :
خَاف غدْر الأنامِ فاستودع الري *** حَ سَليلاً تغذوه دَرَّ العِهَــاد
وتوخّى النجاةَ وقـــــد أيْ *** قَنَ أن الحِمام بالمرصــاد
فرمتْه بـــه على جَانب الكُر *** سِيِّ أمّ اللّهَيْــم أُخْتُ النّآد{[354]}
والذي يظهر من السياق أن قوله تعالى : { وألقينا على كرسيه جسداً } إشارة إلى شيء من هذه الفتنة ليرتبط قوله : { ثمَّ أنابَ } بذلك .
ويحتمل أنه قصة أخرى غير قصة فتنته . وأظهر أقوالهم أن تكون الآية إشارة إلى ما في « صحيح البخاري » « عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : قال سليمان لأَطُوفَنّ الليلة على تسعين امرأة كلهن تأتي بفارس يجاهد في سبيل الله . فقال له صاحبه : قل إن شاء الله . فلم يقل : إن شاء الله . فطاف عليهن جميعاً فلم تحمل منهن إلا إمرأة واحدة جاءت بشقِّ رَجل ، وأيْم الذي نفس محمد بيده لو قال : إن شاء الله لجاهدوا في سبيل الله فرساناً أجمعون » . وليس في كلام النبي صلى الله عليه وسلم أن ذلك تأويل هذه الآية ولا وضع البخاري ولا الترمذي الحديثَ في التفسير من كتابيهما . قال جماعة : فذلك النصف من الإِنسان هو الجَسد الملقَى على كرسيّه جاءت به القابلة فألقته له وهو على كرسيه ، فالفتنة على هذا خيبة أمله ومخالفة ما أبلغه صاحبُه .
وإطلاق الجسد على ذلك المولود ؛ إمّا لأنه وُلِد ميتاً ، كما هو ظاهر قوله : « شق رجل » ، وإمّا لأنه كان خلقة غير معتادة فكان مجرد جسد . وهذا تفسير بعيد لأن الخبر لم يقتض أن الشق الذي ولدته المرأة كان حيّاً ولا أنه جلس على كرسي سليمان . وتركيب هذه الآية على ذلك الخبر تكلّف .
وقال وهب بن منبه وشَهْر بن حَوْشَب : تزوج سليمان ابنة ملك صيدون بعد أن غزا أباها وقتله فكانت حزينة على أبيها ، وكان سليمان قد شغف بحبها فسألته لترضى أن يأمر المصورين ليصنعوا صورة لأبيها فصنعت لها فكانت تغدو وتروح مع ولائدها يسجدن لتلك الصورة فلما علم سليمان بذلك أمر بذلك التمثال فكسر ، وقيل : كانت تعبد صنماً لها من ياقوت خُفية فلما فطن سليمان أو أسلمت المرأة ترك ذلك الصنم . وهذا القول مختزل مما وقع في « سفر الملوك » الأول من كتب اليهود إذ جاء في الإِصحاح الحادي عشر : وأحَب سليمان نساء غريبة كثيرة بنت فرعون ومعها نساء مؤابيات وعمونيات ، وأدوميات وصيدونيات وحثيات من الأمم التي قال عنهم الرب لبني إسرائيل : لا تدخلون إليهم لأنهم يُميلون قلوبكم وراء آلهتهم . فبنى هيكلاً للصنم ( كموش ) صنَم المؤابيين على الجبل الذي تُجاه أورشليم فقال الله له : من أجل أنك لم تحفظ عهدي فإني أمزق مملكتك بعدك تمزيقاً وأعطيها لعبدك ولا أعطي ابنك إلا سِبطاً واحداً الخ .
ويؤخذ من ذلك كله : أن سليمان اجتهد وسمح لنسائه المشركات أن يعبدْن أصنامهن في بيوتهن التي هي بيوته أو بنى لهن معابد يعبدْنَ فيها فلم يرضَ الله منه ذلك لأنه وإن كان قد أباح له تزوج المشركات فما كان ينبغي لنبيء أن يسمح لنسائه بذلك الذي أبيح لعامة الناس الذين يتزوجون المشركات وإن كان سليمان تأول أن ذلك قاصر على المرأة لا يتجاوز إليه .
وعلى هذا التأويل يكون المراد بالجسد الصنم لأنه صورة بلا روح كما سمى الله العجل الذي عبده بنو إسرائيل جَسداً في قوله : { فأخرج لهم عجلاً جسداً له خوار } ( طه : 88 .
( ويكون معنى إلقائه على كرسيّه نصبه في بيوت زوجاته المشركات بقرب من مواضع جلوسه إذ يكون له في كل بيت منها كرسي يجلس عليه .
وعطف { ثُمَّ أنابَ } بحرف { ثمّ } المفيد للتراخي الرتبي لأن رتبة الإِنابة أعظم ذكر في قوله : { فقال إنِّي أحببتُ حُبَّ الخيرِ } [ ص : 32 ] . والإِنابة : التوبة .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: ولقد ابتَلينا سليمان "وألقينا على كرسيه جسدا": شيطانا متمثلاً بإنسان...
وقوله: "ثُمّ أنابَ "سليمان، فرجع إلى مُلكه من بعد ما زال عنه مُلكه فذهب.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
أحدهما: أنه امتحن بأمر فكان منه في ذلك زلة وغفلة فعوتب بما ذكر، وعوقب بنزع ملكه.
والثاني: أنه فتنه وامتحنه بنزع ملكه منه لا بزلة منه ولا عثرة، وصرفه إلى غيره لا بسبب كان منه وزلة وجعله لغيره، ثم إن كان ينزع الملك منه بأدنى سبب كان منه وزلة، فعوتب؛ فلأن الأنبياء صلوات الله عليهم، كانوا مخصوصين بالعتاب والتعبير بأدنى شيء يكون منهم مما يعد ذلك الذي كان منهم من أفضل الأعمال، ثم كان منهم من التوبة التضرع إلى الله عز وجل بالذي كان منهم؛ لما عرفوا لأنفسهم الخصوصية لهم من الكرامات والفضائل التي خصوا بها، فرأوا على أنفسهم بما أكرموا من أنواع الكرامات والفضائل التي خصوا هم بها من التوبة لله وفضل التضرع والابتهال إلى الله؛ لما رأوا ما ارتكبوا كفرانا له في ما أنعم عليهم وأحسن إليهم فضل تضرع وابتهال ما لا يلزم ذلك غيرهم في مثل ما كان منهم.
{وألقينا على كرسيه جسدا} يحتمل أن يكون كرسيه ملكه، فيكون ما ذكر كناية عن نزع ملكه...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما ظهر بهذا ما له من ضخامة الملك وعز السلطان وكانت الأوبة عظيمة جداً، وكان الثبات على مقام الشهود مع حفظه من جميع جهاته أعظم، نبه عليه بقوله مؤكداً لما طبعت عليه النفوس من ظن أن الأواب لا ينبغي أن يواجه بالعتاب:
{ولقد فتنا} أي بما لنا من العظمة {سليمان} أي مع إسراعه بالرجوع إلى الله والتنبه لما فيه رضاه نوعاً من الفتنة، الله أعلم بحقيقتها، فأسفرت تلك الفتنة عن رسوخه في مقام الأوبة، فتنبه لما أردنا بها من تدريبه على ما أقمناه فيه كما فعلنا بأبيه داود عليهما السلام فاقتد بهما في الاستبصار بالبلاء، فإنا نريد بك أمراً عظيماً جليلاً شريفاً كريماً {وألقينا} بما لنا من العظمة.
{على كرسيه} الذي كانت تهابه أسود الفيل.
ولما كانت العبرة إنما هي بالمعاني، فمن كان معناه ناقصاً كان كأنه جسد لا روح فيه، له صورة بلا معنى، قال: {جسداً} فغلب على ذلك المكان الشريف مع ما كنا شرفناه به من هيبة النبوة المقرونة بالملك، بحيث لم يكن أحد يظن أن أحداً يقدر على أن يدنو إليه فضلاً عن أن يغلب عليه، فمكنا هذا الجسد منه تمكيناً لا كلفة عليه فيه، بل كان ذلك بحيث كأنه ألقى عليه بغير اختياره ليعلم أن الملك إنما هو لنا، نفعل ما نشاء بمن نشاء، فالسعادة لمن رجانا والويل لمن يأمن مكرنا فلا يخشانا، فعما قليل تصير هذه البلدة في قبضتك، وأهلها مع العزة والشقاق طوع مشيئتك، ويكون لك بذلك أمر لا يكون لأحد بعدك كما أنه ما كان لأحد كان قبلك، من نفوذ الأمر وضخامة العز وإحلال الساحة الحرام بقدر الحاجة، وسعة الملك وبقاء الذكر، والذي أنت فيه الآن ابتلاء واختبار وتدريب على ما يأتي من الأمور الكبار.
ولما كان المراد بإطلاق الجسد عليه التعريف بأنه لا معنى له لا أنه لا روح فيه، أطلقه ولم يتبعه ما يبين أنه جماد.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
[نص مكرر لاشتراكه مع الآية 31]
والإشارتان الواردتان هنا عن الصافنات الجياد وهي الخيل الكريمة. وعن الجسد الذي ألقي على كرسي سليمان.. كلتاهما إشارتان لم تسترح نفسي لأي تفسير أو رواية مما احتوته التفاسير والروايات عنهما. فهي إما إسرائيليات منكرة، وإما تأويلات لا سند لها. ولم أستطع أن أتصور طبيعة الحادثين تصوراً يطمئن إليه قلبي، فأصوره هنا وأحكيه. ولم أجد أثراً صحيحاً أركن إليه في تفسيرهما وتصويرهما سوى حديث صحيح. صحيح في ذاته ولكن علاقته بأحد هذين الحادثين ليست أكيدة. هذا الحديث هو ما رواه أبو هريرة -رضي الله عنه- عن رسول الله [صلى الله عليه وسلم] وأخرجه البخاري في صحيحه مرفوعاً. ونصه: قال سليمان: لأطوفن الليلة على سبعين امرأة، كل واحدة تأتي بفارس يجاهد في سبيل الله، ولم يقل: إن شاء الله، فطاف عليهن فلم يحمل إلا امرأة واحدة جاءت بشق رجل، والذي نفسي بيده، لو قال إن شاء الله لجاهدوا في سبيل الله فرساناً أجمعون.. وجائز أن تكون هذه هي الفتنة التي تشير إليها الآيات هنا، وأن يكون الجسد هو هذا الوليد الشق. ولكن هذا مجرد احتمال.. أما قصة الخيل فقيل: إن سليمان -عليه السلام- استعرض خيلاً له بالعشي. ففاتته صلاة كان يصليها قبل الغروب. فقال ردوها عليّ. فردوها عليه فجعل يضرب أعناقها وسيقانها جزاء ما شغلته عن ذكر ربه. ورواية أخرى أنه إنما جعل يمسح سوقها وأعناقها إكراماً لها لأنها كانت خيلاً في سبيل الله.. وكلتا الروايتين لا دليل عليها. ويصعب الجزم بشيء عنها.
ومن ثم لا يستطيع متثبت أن يقول شيئاً عن تفصيل هذين الحادثين المشار إليهما في القرآن.
وكل ما نخرج به هو أنه كان هناك ابتلاء من الله وفتنة لنبي الله سليمان -عليه السلام- في شأن يتعلق بتصرفاته في الملك والسلطان كما يبتلي الله انبياءه ليوجههم ويرشدهم، ويبعد خطاهم عن الزلل. وأن سليمان أناب إلى ربه ورجع، وطلب المغفرة؛ واتجه إلى الله بالدعاء والرجاء:
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
كذلك جاءت هذه الآيات مشيرة إلى فتنة عرضت لسليمان أعقبتها إنابة ثم أعقبتها إفاضة نعم عظيمة، فذكرت عقب ذكر قصة ما ناله من السهو عن عبادته وهو دون الفتنة.
الفَتن والفتون والفتنة: اضطراب الحال الشديد الذي يظهر به مقدار صبر وثبات من يحلّ به.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
هذه الآيات تتحدّث عن أحداث أخرى من قصّة سليمان، وتبيّن أنّ الإنسان مهما امتلك من قوّة وقدرة فإنّها ليست منه، بل إنّ كلّ ما عنده هو من الله سبحانه وتعالى، هذا الموضوع يزيل حجب الغرور والغفلة عن عين الإنسان، ويجعله يشعر بصغر حجمه قياساً إلى هذا الكون...