{ وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ * بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }
ذكر أفعالهم القبيحة ، ثم ذكر مع هذا أنهم يزكون أنفسهم ، ويشهدون لها بالنجاة من عذاب الله ، والفوز بثوابه ، وأنهم لن تمسهم النار إلا أياما معدودة ، أي : قليلة تعد بالأصابع ، فجمعوا بين الإساءة والأمن .
ولما كان هذا مجرد دعوى ، رد الله تعالى عليهم فقال : { قُلْ } لهم يا أيها الرسول { أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا } أي بالإيمان به وبرسله وبطاعته ، فهذا الوعد الموجب لنجاة صاحبه الذي لا يتغير ولا يتبدل . { أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ } ؟ فأخبر تعالى أن صدق دعواهم متوقفة على أحد هذين الأمرين اللذين لا ثالث لهما : إما أن يكونوا قد اتخذوا عند الله عهدا ، فتكون دعواهم صحيحة . وإما أن يكونوا متقولين عليه فتكون كاذبة ، فيكون أبلغ لخزيهم وعذابهم ، وقد علم من حالهم أنهم لم يتخذوا عند الله عهدا ، لتكذيبهم كثيرا من الأنبياء ، حتى وصلت بهم الحال إلى أن قتلوا طائفة منهم ، ولنكولهم عن طاعة الله ونقضهم المواثيق ، فتعين بذلك أنهم متقولون مختلقون ، قائلون عليه ما لا يعلمون ، والقول عليه بلا علم ، من أعظم المحرمات ، وأشنع القبيحات .
يقول تعالى إخبارًا عن اليهود فيما نقلوه وادعوه لأنفسهم ، من أنهم لن تمسهم النار إلا أيامًا معدودة ، ثم ينجون منها ، فرد الله عليهم ذلك بقوله : { قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا }{[2071]} أي : بذلك ؟ فإن كان قد وقع عهد فهو لا يُخْلِف عهده{[2072]} .
ولكن هذا ما جرى ولا كان . ولهذا أتى ب " أم " التي بمعنى : بل ، أي : بل تقولون على الله ما لا تعلمون من الكذب والافتراء عليه .
قال{[2073]} محمد بن إسحاق ، عن سيف بن سليمان{[2074]} عن مجاهد ، عن ابن عباس : أن اليهود كانوا يقولون : هذه الدنيا سبعة آلاف سنة ، وإنما نُعَذَّب بكل ألف سنة يومًا في النار ، وإنما هي سبعة أيام معدودة{[2075]} . فأنزل الله تعالى : { وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَعْدُودَةً } إلى قوله : { خَالِدُونَ } [ البقرة : 82 ] .
ثم رواه عن محمد ، عن سعيد - أو عكرمة - عن ابن عباس ، بنحوه .
وقال العوفي عن ابن عباس : { وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَعْدُودَةً } اليهود قالوا{[2076]} : لن تمسنا النار إلا أربعين ليلة ، [ زاد غيره : هي مدة عبادتهم العجل ، وحكاه القرطبي عن ابن عباس وقتادة ]{[2077]} وقال الضحاك : قال ابن عباس : زعمت اليهود أنهم وجدوا في التوراة مكتوبًا : أن ما بين طرفي جهنم مسيرة أربعين سنة ، إلى أن ينتهوا إلى شجرة الزقوم ، التي هي نابتة في أصل الجحيم . وقال أعداء الله : إنما نعذب حتى ننتهي إلى شجرة الزقوم فتذهب جهنم وتهلك . فذلك قوله تعالى : { وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَعْدُودَةً }
وقال عبد الرزاق ، عن مَعْمَر ، عن قتادة : { وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَعْدُودَةً } يعني : الأيام التي عبدنا فيها العجل{[2078]} .
وقال عكرمة : خاصمت اليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم{[2079]} فقالوا : لن ندخل النار إلا أربعين ليلة ، وسيخلفنا إليها{[2080]} قوم آخرون ، يعنون{[2081]} محمدًا صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده على رءوسهم : " بل أنتم خالدون مخلدون لا يخلفكم إليها أحد " . فأنزل الله : { وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَعْدُودَةً } الآية .
وقال الحافظ أبو بكر بن مردويه رحمه الله : حدثنا عبد الرحمن بن جعفر ، حدثنا محمد بن محمد بن صخر ، حدثنا أبو عبد الرحمن المقرئ ، حدثنا ليث بن سعد ، حدثني سعيد بن أبي سعيد ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، قال : لما فتحت خيبر أهديت لرسول الله صلى الله عليه وسلم شاة فيها سم ، فقال {[2082]} رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اجمعوا لي من كان من اليهود هاهنا " فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من أبوكم ؟ " قالوا : فلان{[2083]} . قال : " كذبتم ، بل أبوكم فلان " . فقالوا : صدقت وبَرِرْت ، ثم قال لهم : " هل أنتم صادقيّ عن شيء إن سألتكم عنه ؟ " . قالوا : نعم ، يا أبا القاسم ، وإن كذبناك عرفت كذبنا كما عرفته في أبينا . فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من أهل النار ؟ " فقالوا : نكون فيها يسيرًا ثم تخلفونا فيها . فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اخسأوا ، والله لا نخلفكم فيها أبدًا " . ثم قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : " هل أنتم صادقيّ عن شيء إن سألتكم عنه ؟ " . قالوا : نعم يا أبا القاسم . فقال : " هل جعلتم في هذه الشاة سمًّا ؟ " . فقالوا : نعم . قال{[2084]} : " فما حملكم على ذلك ؟ " . فقالوا : أردنا إن كنت كاذبًا أن نستريح منك ، وإن كنت نبيًا لم يضرك .
ورواه أحمد ، والبخاري ، والنسائي ، من حديث الليث بن سعد ، بنحوه{[2085]} .
قيل : الواو لعطف الجملة على جملة : { وقد كان فريق منهم } [ البقرة : 75 ] فتكون حالاً مثلها أي كيف تطمعون أن يؤمنوا لكم وهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه ويقولون : { لن تمسنا النار } . والأظهر عندي أن الواو عطف على قوله { يكتبون } [ البقرة : 79 ] إلخ أي فعلوا ذلك وقالوا لن تمسنا النار . ووجه المناسبة أن قولهم { لن تمسنا النار } دل على اعتقاد مقرر في نفوسهم يشيعونه بين الناس بألسنتهم قد أنبأ بغرور عظيم من شأنه أن يقدمهم على تلك الجريمة وغيرها إذ هم قد أمنوا من المؤاخذة إلا أياماً معدودة تعادل أيام عبادة العجل أو أياماً عن كل ألف سنة من العالم يوم وإن ذلك عذاب مكتوب على جميعهم فهم لا يتوقون الإقدام على المعاصي لأجل ذلك ، فبالعطف على أخبارهم حصلت فائدة الإخبار عن عقيدة من ضلالاتهم . ولموقع هذا العطف حصلت فائدة الاستئناف البياني إذ يعجب السامع من جرأتهم على هذا الإجرام .
وقوله : { وقالوا } أراد به أنهم قالوه عن اعتقاد لأن الأصل الصدق في القول حتى تقوم القرينة على أنه قول على خلاف الاعتقاد كما في قوله { قالوا آمنا } [ البقرة : 14 ] ولأجل أن أصل القول أن يكون على وفق الاعتقاد ساغ استعمال القول في معنى الظن والاعتقاد في نحو قولهم : قال مالك ، وفي نحو قول عمرو بن معد يكرب : *علام تقول الرمح يثقل عاتقي*
والمس حقيقته اتصال اليد بجرم من الأجرام وكذلك اللمس قال تعالى : { والذين كذبوا بآياتنا يمسهم العذاب } [ الأنعام : 49 ] .
وعبر عن نفيهم بحرف { لن } الدال على تأييد النفي تأكيداً لانتفاء العذاب عنهم بعد تأكيد ، ولدلالة ( لن ) على استغراق الأزمان تأتّى الاستثناء من عموم الأزمنة بقوله : { إلا أياماً معدودة } على وجه التفريع فهو منصوب على الظرفية .
والوصف بمعدودة مؤذن بالقلة لأن المراد بالمعدود الذي يعده الناس إذا رأوه أو تحدثوا عنه ، وقد شاع في العرف والعوائد أن الناس لا يعمدون إلى عد الأشياء الكثيرة دفعاً للملل أو لأجل الشغل سواء عرفوا الحساب أم لم يعرفوه لأن المراد العد بالعين واللسان لا العد بجمع الحسابات إذ ليس مقصوداً هنا .
وتأنيث { معدودة } وهو صفة { أياماً } مراعى فيه تأويل الجمع بالجماعة وهي طريقة عربية مشهورة ولذلك كثر في صفة الجمع إذا أنثوها أن يأتوا بها بصيغة الإفراد إلا إذا أرادوا تأويل الجمع بالجماعات ، وسيأتي ذلك في قوله تعالى : { أياماً معدودات } [ البقرة : 184 ] .
وقوله : { قل أتخذتم عند الله عهداً } جواب لكلامهم ولذلك فصل على طريقة المحاورات كما قدمناه في قوله تعالى : { قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها } [ البقرة : 30 ] والاستفهام غير حقيقي بدليل قوله بعده { بلى } فهو استفهام تقريري للإلجاء إلى الاعتراف بأصدق الأمرين وليس إنكاري لوجود المعادل وهو { أم تقولون } لأن الاستفهام الإنكاري لا معادل له .
والمراد بالعهد الوعد المؤكد فهو استعارة ، لأن أصل العهد هو الوعد المؤكد بقسم والتزام ، ووعد الذي لا يخلف الوعد كالعهد ، ويجوز أن يكون العهد هنا حقيقة لأنه في مقام التقرير دال على انتفاء ذلك .
وذكر الاتخاذ دون أعاهدتم أو عاهدكم لما في الاتخاذ من توكيد العهد و{ عند } لزيادة التأكيد يقولون اتخذ يداً عند فلان .
وقوله : { فلن يخلف الله عهده } الفاء فصيحة دالة على شرط مقدر وجزائه وما بعد الفاء هو علة الجزاء والتقدير فإن كان ذلك فلكم العذر في قولكم لأن الله لا يخلف عهده وتقدم ذلك عند قوله تعالى : { فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً } [ البقرة : 60 ] . ولكون ما بعد فاء الفصيحة دليل شرط وجزائه لم يلزم أن يكون ما بعدها مسبباً عما قبلها ولا مترتباً عنه حتى يشكل عليه عدم صحة ترتب الجزاء في الآية على الشرط المقدر لأن ( لن ) للاستقبال .
و ( أم ) في قوله : { أم تقولون على الله ما لا تعلمون } معادلة همزة الاستفهام فهي متصلة وتقع بعدها الجملة كما صرح به ابن الحاجب في « الإيضاح » وهو التحقيق كما قال عبد الحكيم ، فما قاله صاحب « المفتاح » من أن علامة أم المنقطعة كون ما بعدها جملة أمر أغلبي ولا معنى للانقطاع هنا لأنه يفسد ما أفاده الاستفهام من الإلجاء والتقرير .