تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{وَإِذَا رَأَيۡتَ ثَمَّ رَأَيۡتَ نَعِيمٗا وَمُلۡكٗا كَبِيرًا} (20)

{ إِذَا رَأَيْتَهُمْ } منتشرين في خدمتهم { حَسِبْتَهُمْ } من حسنهم { لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا } وهذا من تمام لذة أهل الجنة ، أن يكون خدامهم الولدان المخلدون ، الذين تسر رؤيتهم ، ويدخلون على مساكنهم ، آمنين من تبعتهم ، ويأتونهم بما يدعون وتطلبه نفوسهم ، { وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ } أي : هناك في الجنة ، ورمقت ما هم فيه من النعيم{[1311]} { رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا } فتجد الواحد منهم ، عنده من القصور والمساكن والغرف المزينة المزخرفة ، ما لا يدركه الوصف ، ولديه من البساتين الزاهرة ، والثمار الدانية ، والفواكه اللذيذة ، والأنهار الجارية ، والرياض المعجبة ، والطيور المطربة [ المشجية ] ما يأخذ بالقلوب ، ويفرح النفوس .

وعنده من الزوجات . اللاتي هن في غاية الحسن والإحسان ، الجامعات لجمال الظاهر والباطن ، الخيرات الحسان ، ما يملأ القلب سرورا ، ولذة وحبورا ، وحوله من الولدان المخلدين ، والخدم المؤبدين ، ما به تحصل الراحة والطمأنينة ، وتتم لذة العيش ، وتكمل الغبطة .

ثم علاوة ذلك وأعظمه الفوز برؤية{[1312]}  الرب الرحيم ، وسماع خطابه ، ولذة قربه ، والابتهاج برضاه ، والخلود الدائم ، وتزايد ما هم فيه من النعيم كل وقت وحين ، فسبحان الملك المالك ، الحق المبين ، الذي لا تنفد خزائنه ، ولا يقل خيره ، فكما لا نهاية لأوصافه فلا نهاية لبره وإحسانه .


[1311]:- في ب: أي رمقت ما أهل الجنة عليه من النعيم الكامل.
[1312]:- في ب: برضا.
 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَإِذَا رَأَيۡتَ ثَمَّ رَأَيۡتَ نَعِيمٗا وَمُلۡكٗا كَبِيرًا} (20)

وقوله : { إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا } أي : إذا رأيتهم في انتشارهم في قضاء حوائج السادة ، وكثرتهم ، وصباحة وجوههم ، وحسن ألوانهم وثيابهم وحليهم ، حسبتهم لؤلؤا منثورا . ولا يكون في التشبيه أحسن من هذا ، ولا في المنظر أحسن من اللؤلؤ المنثور على المكان الحسن .

قال قتاده ، عن أبي أيوب ، عن عبد الله بن عمرو : ما من أهل الجنة من أحد إلا يسعى عليه ألف خادم ، كل خادم على عمل ما عليه صاحبه .

وقوله : { وَإِذَا رَأَيْتَ } أي : وإذا رأيت يا محمد ، { ثَمَّ } أي : هناك{[29609]} ، يعني في الجنة ونعيمها وسَعَتها وارتفاعها وما فيها من الحَبْرَة والسرور ، { رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا } أي : مملكةً لله هُناك عظيمةً وسلطانًا باهرًا .

وثبت في الصحيح أن الله تعالى يقول لآخر أهل النار خروجا منها ، وآخر أهل الجنة دخولا إليها : إن لك مثلَ الدنيا وعشرة أمثالها .

وقد قَدّمنا{[29610]} في الحديث المَرويّ من طريق ثُوَير بن أبي فاختة ، عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن أدنى أهل الجنة منزلة لمن ينظر في ملكه مسيرة ألفي{[29611]} سنة ينظر إلى أقصاه كما ينظر إلى أدناه " . فإذا كان هذا عطاؤه تعالى لأدنى من يكون في الجنة ، فما ظنك بما هو أعلى منزلة ، وأحظى عنده تعالى .

وقد روى الطبراني هاهنا حديثًا غريبًا جدًا فقال : حدثنا علي بن عبد العزيز ، حدثنا محمد بن عمار الموصلي ، حدثنا عفيف{[29612]} بن سالم ، عن أيوب بن عتبة ، عن عطاء ، عن ابن عمر قال : جاء رجل من الحبشة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم : فقال له رسول الله : " سل واستفهم " . فقال : يا رسول الله ، فُضّلْتُم علينا بالصور والألوان والنبوة ، أفرأيتَ إن آمنتُ بما آمنتَ به وعملتُ بمثل ما عملتَ به ، إني لكائن معكَ في الجنة ؟ قال : " نعم ، والذي نفسي بيده ، إنه لَيُرَى بياض الأسود في الجنة من مسيرة ألف عام " . ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من قال : لا إله إلا الله ، كان له بها عَهدٌ عند الله ، ومن قال : سبحان الله وبحمده ، كتب له مائة ألف حسنة ، وأربعة وعشرون ألف حسنة " . فقال رجل : كيف نهلك بعد هذا يا رسول الله ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الرجل ليأتي يوم القيامة بالعمل لو وُضِعَ على جبل لأثقله ، فتقوم النعمة - أو : نعَم الله - فتكاد تستنفذ ذلك كله ، إلا أن يَتَغَمّده الله برحمته " . ونزلت هذه السورة : { هَلْ أَتَى عَلَى الإنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ } إلى قوله : { وَمُلْكًا كَبِيرًا } فقال الحبشي : وإن عيني لترى ما ترى عيناك في الجنة ؟ قال : " نعم " . فاستبكى حتى فاضت نفسه . قال ابن عمر : فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يُدليه في حُفرَته بيده{[29613]} .


[29609]:- (2) في أ: "أي هنالك".
[29610]:- (3) عند تفسير الآية: 23 من سورة "القيامة".
[29611]:- (4) في أ: "مسيرة ألف".
[29612]:- (1) في م، أ، هـ: "حدثنا عقبة" والمثبت من المعجم الأوسط للطبراني.
[29613]:- (2) المعجم الأوسط برقم (4774) "مجمع البحرين"، وقال: "لا يروى عن ابن عمر إلا بهذا الإسناد، تفرد به عفيف".
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَإِذَا رَأَيۡتَ ثَمَّ رَأَيۡتَ نَعِيمٗا وَمُلۡكٗا كَبِيرًا} (20)

الخطاب لغير معين . و { ثَمّ } إشارة إلى المكان ولا يكون إلاّ ظرفاً والمشار إليه هنا ما جرى ذكره أعني الجنة المذكورة في قوله : { وجزاهم بما صبروا جَنة } [ الإنسان : 12 ] .

وفعل { رأيتَ } الأول منزل منزلة اللازم يدل على حصول الرؤية فقط لا تعلُّقِها بمرئي ، أي إذا وجهت نظرك ، و { رأيتَ } الثاني جواب { إذا } ، أي إذا فتحت عينك ترى نعيماً .

والتقييد ب { إذا } أفاد معنى الشرطية فدل على أن رؤية النعيم لا تتخلف عن بصر المبصر هنالك فأفاد معنى : لا ترى إلاّ نعيماً ، أي بخلاف ما يرى في جهات الدنيا .

وفي قوله : { ومُلْكاً كبيراً } تشبيه بليغ ، أي مثل أحوال المُلك الكبير المتنعِّم ربه .

وفائدة هذا التشبيه تقريب المشبه لِمدارك العقول .

والكبير مستعار للعظيم وهو زائد على النعيم بما فيه من رفعة وتذليل للمصاعب .