{ 41 - 42 ْ } { وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ * الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ْ }
يخبر تعالى بفضل المؤمنين الممتحنين { الَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ ْ } أي : في سبيله وابتغاء مرضاته { مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا ْ } بالأذية والمحنة من قومهم ، الذين يفتنونهم ليردوهم إلى الكفر والشرك ، فتركوا الأوطان والخلان ، وانتقلوا عنها لأجل طاعة الرحمن ، فذكر لهم ثوابين : ثوابا عاجلا في الدنيا من الرزق الواسع والعيش الهنيء ، الذي رأوه عيانا بعد ما هاجروا ، وانتصروا على أعدائهم ، وافتتحوا البلدان وغنموا منها الغنائم العظيمة ، فتمولوا وآتاهم الله في الدنيا حسنة .
{ وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ ْ } الذي وعدهم الله على لسان رسوله { أَكْبَرُ ْ } من أجر الدنيا ، كما قال تعالى : { الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ ْ } وقوله : { لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ْ } أي : لو كان لهم علم ويقين بما عند الله من الأجر والثواب لمن آمن به وهاجر في سبيله لم يتخلف عن ذلك أحد .
يخبر تعالى عن جزائه للمهاجرين في سبيله ابتغاء مرضاته ، الذين فارقوا الدار والإخوان والخلان ، رجاء ثواب الله وجزائه .
ويحتمل أن يكون سبب نزول هذه الآية الكريمة في مُهاجرة الحبشة الذي اشتد أذى قومهم لهم بمكة ، حتى خرجوا من بين أظهرهم إلى بلاد الحبشة ، ليتمكنوا من عبادة ربهم ، ومن أشرافهم : عثمان بن عفان ، ومعه زوجته رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وجعفر بن أبي طالب ، ابن عم الرسول{[16455]} وأبو سلمة بن عبد الأسد{[16456]} في جماعة قريب من ثمانين ، ما بين رجل وامرأة ، صديق وصديقة ، رضي الله عنهم وأرضاهم . وقد فعل فوعدهم تعالى بالمجازاة الحسنة في الدنيا والآخرة فقال : { لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً } قال ابن عباس والشعبي ، وقتادة : المدينة . وقيل : الرزق الطيب ، قاله مجاهد .
ولا منافاة بين القولين ، فإنهم تركوا مساكنهم وأموالهم فعوضهم الله خيرًا منها{[16457]} في الدنيا ، فإن من ترك شيئًا لله عوضه الله بما هو خير له منه{[16458]} وكذلك وقع فإنهم مكن الله لهم في البلاد وحكمهم على رقاب العباد ، فصاروا أمراء حكاما ، وكل منهم للمتقين إماما ، وأخبر أن ثوابه للمهاجرين في الدار الآخرة أعظم مما أعطاهم في الدنيا ، فقال : { وَلأجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ } أي : مما أعطيناهم في الدنيا { لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ } أي : لو كان المتخلفون عن الهجرة معهم يعلمون ما ادخر الله لمن أطاعه واتبع رسوله ؛ ولهذا قال هُشَيْم ، عن العوام ، عمن حدثه ؛ أن عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، كان إذا أعطى الرجل من المهاجرين عطاءه{[16459]} يقول : خذ بارك الله لك فيه ، هذا ما وعدك الله في الدنيا ، وما ادخر{[16460]} لك في الآخرة أفضل ، ثم قرأ{[16461]} هذه الآية : { لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلأجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ }{[16462]} .
{ والذين هاجروا في الله من بعد ما ظُلموا } هم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه المهاجرون ظلمهم قريش فهاجر بعضهم إلى الحبشة ثم إلى المدينة وبعضهم إلى المدينة ، أو المحبوسون المعذبون بمكة بعد هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم بلال وصهيب وخباب وعمار وعابس وأبو جندل وسهيل رضي الله تعالى عنهم ، وقوله : { في الله } أي في حقه ولوجهه . { لنُبوّئنّهم في الدنيا حسنة } مباءة حسنة وهي المدينة أو تبوئة حسنة . { ولأجر الآخرة أكبر } مما يعجل لهم في الدنيا . وعن عمر رضي الله تعالى عنه : أنه كان إذا أعطى رجلا من المهاجرين عطاء قال له خذ بارك الله لك فيه هذا ما وعدك الله في الدنيا وما ادخر لك في الآخرة أفضل . { لو كانوا يعلمون } الضمير للكفار أي لو علموا أن الله يجمع لهؤلاء المهاجرين خير الدارين لوافقوهم ، أو للمهاجرين أي لو علموا ذلك لزادوا في اجتهادهم وصبرهم .
لما ثبتت حكمة البعث بأنها تبيين الذي اختلف فيه الناس من هدى وضلالة ، ومن ذلك أن يتبين أن الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين يعلم منه أنّه بتبيين بالبعث أن الذين آمنوا كانوا صادقين بدلالة المضادة وأنهم مثابون ومكرمون . فلما علم ذلك من السياق وقع التصريح به في هذه الآية .
وأدمج مع ذلك وعدهم بحسن العاقبة في الدنيا مقابلة وعيد الكافرين بسوء العاقبة فيها الواقع بالتعّريض في قوله تعالى : { فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين } [ سورة النحل : 36 ] .
فالجملة معطوفة على جملة { وليعلم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين } [ سورة النحل : 39 ] .
والمهاجر : متاركة الدّيار لغرض ما .
و{ في } مستعملة في التّعليل ، أي لأجل الله . والكلام على تقدير مضاف يظهر من السّياق . تقديره : هاجروا لأجل مرضاة الله .
وإسناد فعل { ظلموا } إلى المجهول لظهور الفاعل من السّياق وهو المشركون . والظلم يشمل أصناف الاعتداء من الأذى والتعذيب .
والتبوئة : الإسكان . وأطلقت هنا على الجزاء بالحسنى على المهاجرة بطريق المضادّة للمهاجرة ، لأن المهاجرة الخروج من الدّيار فيضادّها الإسكان .
وفي الجمع بين { هاجروا } و { لنبوئنهم } محسّن الطباق . والمعنى : لنجازينّهم جزاءً حسناً . فعبر عن الجزاء بالتّبوئة لأنه جزاء على ترك المباءة .
و { حسنة } صفة لمصدر محذوف جار على « نبوئنهم » ، أي تبوئة حسنة .
وهذا الجزاء يجبر كل ما اشتملت عليه المهاجرة من الأضرار التي لقيها المهاجرون من مفارقة ديارهم وأهليهم وأموالهم ، وما لاقَوُه من الأذى الذي ألجأهم إلى المهاجرة من تعذيب واستهزاء ومَذلّة وفتنة ، فالحسنة تشتمل على تعويضهم دياراً خيراً من ديارهم ، ووطناً خيراً من وطنهم ، وهو المدينة ، وأموالاً خيراً من أموالهم ، وهي ما نالوه من المغانم ومن الخراج . روي أن عُمر رضي الله عنه كان إذا أعطى رجلاً من المهاجرين عطاء قال له : « هذا ما وعدك ربّك في الدنيا ، وما ذخر لك في الآخرة أكبر » ؛ وغلبة لأعدائهم في الفتوح وأهمّها فتح مكّة ، وأمناً في حياتهم بما نالوه من السلطان ، قال تعالى : { وليبدلنّهم من بعد خوفهم أمنا } [ سورة النور : 55 ] . وسبب النزول الذين هاجروا إلى أرض الحبشة من المسلمين لا محالة ، أو الذين هاجروا إلى المدينة الهجرة الأولى قبل هجرة النبي وبقية أصحابه رضي الله عنهم مثل مصعب بن عمير وأصحابه إن كانت هذه الآية نازلة بعد الهجرة الأولى إلى المدينة . وكلا الاحتمالين لا ينافي كون السورة مكّية . ولا يقتضي تخصيص أولئك بهذا الوعد .
ثم أعقب هذا الوعد بالوعد العظيم المقصود وهو قوله : ولأجر الآخرة أكبر } . ومعنى { أكبر } أنّه أهمّ وأنفع . وإضافته إلى { الآخرة } على معنى ( في ) ، أي الأمر الذي في الآخرة .
وجملة { لو كانوا يعلمون } معترضة ، وهي استئناف بياني ناشىء عن جملة الوعد كلّها ، لأن ذلك الوعد العظيم بخير الدنيا والآخرة يثير في نفوس السامعين أن يسألوا كيف لم يقتدِ بهم من بقوا على الكفر فتقع جملة { لو كانوا يعلمون } بياناً لما استبهم على السّائِل .
والتقدير : لو كانوا يعلمون ذلك لاقتدوا بهم ولكنّهم لا يعلمون . فضمير { يعلمون } عائد إلى { الذين كفروا } [ سورة النحل : 39 ] .
ويجوز أن يكون السؤال المثار هو : كيف يحْزن المهاجرون على ما تركوه من ديارهم وأموالهم وأهليهم ، فيكون : المعنى لو كان المهاجرون يعلمون ما أعدّ لهم عِلم مشاهدة لما حزِنوا على مفارقة ديارهم ولكانت هجرتهم عن شوق إلى ما يلاقونه بعد هجرتهم ، لأن تأثير العلم الحسّي على المزاج الإنساني أقوى من العلم العقلي لعدم احتياج العلم الحسّي إلى استعمال نظر واستدلال ، ولعدم اشتمال العلم العقلي على تفاصيل الكيفيات التي تحبّها النفوس وترتمي إليها الشهوات ، كما أشار إليه قوله تعالى : { قال أو لم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي } [ سورة البقرة : 260 ] . فليس المراد بقوله تعالى : { لو كانوا يعلمون } لو كانوا يعتقدون ويؤمنون ، لأن ذلك حاصل لا يناسب موقع { لو } الامتناعية .
فضمير { يعلمون } على هذا « للذين هاجروا » . وفي هذا الوجه تتناسق الضمائر .