يخبر تعالى أنه المستحق للعبادة وحده لا شريك له ، فإنه يسجد{[20056]} لعظمته كل شيء طوعا وكرها وسجود [ كل شيء مما ]{[20057]} يختص به ، كما قال : { أَوَلَمْ يَرَوْا{[20058]} إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ } [ النحل : 48 ] . وقال هاهنا : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأرْضِ } أي : من الملائكة في أقطار السموات ، والحيوانات في جميع الجهات ، من الإنس والجن والدواب والطير ، { وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ } [ الإسراء : 44 ] .
وقوله : { وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ } : إنما ذكر هذه على التنصيص ؛ لأنها قد عُبدت من دون الله ، فبين أنها تسجد لخالقها ، وأنها مربوبة مسخرة { لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ } [ فصلت : 37 ] .
وفي الصحيحين عن أبي ذر ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أتدري أين تذهب هذه الشمس ؟ " . قلت : الله ورسوله أعلم . قال : " فإنها تذهب فتسجد تحت العرش ، ثم تستأمر فيوشك أن يقال لها : ارجعي من حيث جئت " {[20059]} .
وفي المسند وسنن أبي داود ، والنسائي ، وابن ماجه ، في حديث الكسوف : " إن الشمس والقمر خَلْقان من خَلْق الله ، وإنهما لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته ، ولكن الله عز وجل إذا تَجَلى لشيء من خلقه خشع{[20060]} له " {[20061]} .
وقال أبو العالية : ما في السماء نجم ولا شمس ولا قمر ، إلا يقع لله ساجدًا حين يغيب ، ثم لا ينصرف حتى يؤذن له ، فيأخذ ذات اليمين حتى يرجع إلى مطلعه .
وأما الجبال والشجر فسجودهما بفَيء ظلالهما{[20062]} عن اليمين والشمائل : وعن ابن عباس قال : جاء رجل فقال : يا رسول الله ، إني رأيتني الليلة وأنا نائم ، كأني أصلي خلف شجرة ، فسجدتُ فسجَدَت الشجرة لسجودي ، فسمعتُها وهي تقول : اللهم ، اكتب لي بها عندك أجرًا ، وضع عني بها وزرًا ، واجعلها لي عندك ذخرًا ، وتقبلها مني كما تقبلتها من عبدك داود . قال ابن عباس : فقرأ
النبي{[20063]} صلى الله عليه وسلم سجدة ثم سَجَد ، فسمعته وهو يقولُ مثلَ ما أخبره الرجل عن قول الشجرة .
رواه الترمذي ، وابن ماجه ، وابن حبّان في صحيحه{[20064]} .
وقوله : { وَالدَّوَابُّ } أي : الحيوانات كلها .
وقد جاء في الحديث عن الإمام أحمد : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن اتخاذ ظهور الدواب{[20065]}منابر{[20066]} فرب مركوبة خير{[20067]} وأكثر ذكرًا لله من راكبها .
وقوله : { وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ } أي : يسجد لله طوعا مختارًا متعبدًا بذلك ، { وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ } أي : ممن امتنع وأبى واستكبر ، { وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ } .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن شيبان الرملي ، حدثنا القداح ، عن جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن علي قال : قيل لعلي : إن هاهنا رجلا يتكلم في المشيئة . فقال له علي : يا عبد الله ، خلقك الله كما يشاء أو كما شئت{[20068]} ؟ قال : بل كما شاء . قال : فيمرضك إذا شاء أو إذا شئت ؟ قال : بل إذا شاء . قال : فيشفيك إذا شاء أو إذا شئت ؟ قال : بل إذا شاء . قال : فيدخلك حيث شئت أو حيث يشاء ؟ قال : بل حيث يشاء . قال : والله لو قلت غير ذلك لضربتُ الذي فيه عيناك بالسيف .
وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا قرأ ابنُ آدم السجدة اعتزل{[20069]} الشيطان يبكي يقول : يا ويله . أمر ابن آدم بالسجود فسجد ، فله الجنة ، وأمِرتُ بالسجود فأبيتُ ، فلي النار " رواه مسلم{[20070]} .
وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو سعيد مولى بني هاشم وأبو عبد الرحمن المقرئ قالا حدثنا ابن لَهِيعة ، حدثنا مَشْرَح بن هاعان{[20071]} أبو مُصعب المعافري قال : سمعت عقبة بن عامر يقول : قلت يا رسول الله ، أفضلت سورة الحج على سائر القرآن بسجدتين ؟ قال : " نعم ، فمن لم يسجد بهما فلا يقرأهما " .
ورواه أبو داود والترمذي ، من حديث عبد الله بن لهيعة ، به{[20072]} . وقال الترمذي : " ليس بقوي{[20073]} " وفي هذا نظر ؛ فإن ابن لَهِيعة قد صَرح فيه بالسماع ، وأكثر ما نَقَموا عليه تدليسه .
وقد قال أبو داود في المراسيل : حدثنا أحمد بن عمرو بن السَّرح ، أنبأنا ابن وَهْب ، أخبرني معاوية بن صالح ، عن عامر بن جَشِب{[20074]} ، عن خالد بن مَعْدان ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " فُضِّلت سورة الحج على القرآن بسجدتين " .
ثم قال أبو داود : وقد أسندَ هذا ، يعني : من غير هذا الوجه ، ولا يصح{[20075]} .
وقال الحافظ أبو بكر الإسماعيلي : حدثنا ابن أبي داود ، حدثنا يزيد بن عبد الله ، حدثنا الوليد ، حدثنا أبو عمرو ، حدثنا حفص بن عنان ، حدثني نافع ، حدثني أبو الجهم : أن عمر سجد سجدتين في الحج ، وهو بالجابية ، وقال : إن هذه فضلت بسجدتين{[20076]} .
وروى أبو داود وابن ماجه ، من حديث الحارث بن سعيد العُتَقيّ ، عن عبد الله بن مُنَين ، عن عمرو بن العاص ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرأه خمس عشرة سجدة في القرآن ، منها ثلاث في المُفَصّل ، وفي سورة الحج سجدتان{[20077]} . فهذه{[20078]} شواهد يَشُدّ بعضها بعضا .
{ ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض } يستخر لقدرته ولا يتأتى عن تدبيره ، أو يدل بذلته على عظمته مدبره ، ومن يجوز أن يعم أولي العقل وغيرهم على التغليب فيكون قوله : { والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب } إفرادا لها بالذكر لشهرتها واستبعاد ذلك منها . وقرىء { والدواب } بالتخفيف كراهة التضعيف أو الجمع بين الساكنين . { وكثير من الناس } عطف عليها إن جوز إعمال اللفظ الواحد في كل واحد من مفهوميه ، وإسناده باعتبار أحدهما إلى أمر وباعتبار الآخر إلى آخر ، فإن تخصيص الكثير يدل على خصوص المعنى المسند إليهم ، أو مبتدأ خبره محذوف يدل عليه خبر قسيمه نحو حق له الثواب ، أو فاعل فعل مضمر أي ويسجد له كثير من الناس سجود طاعة . { وكثير حق عليه العذاب } بكفره وإبائه عن الطاعة ، ويجوز أن يجعل " وكثيرا " تكريرا للأول مبالغة في تكثير المحقوقين بالعذاب وأن يعطف به على الساجدين بالمعنى العام موصوفا بما بعده . وقرىء { حق } بالضم و " حقا " بإضمار فعله . { ومن يهن الله } بالشقاوة { فما له من مكرم } يكرمه بالسعادة ، وقرىء بالفتح بمعنى الإكرام . { إن الله يفعل ما يشاء } من الإكرام والإهانة .
جملة مستأنفة لابتداء استدلال على انفراد الله تعالى بالإلهية . وهي مرتبطة بمعنى قوله { يدعو من دون الله ما لا يضره وما لا ينفعه } إلى قوله : { لبئس المولى ولبئس العشير } [ الحج : 12 ، 13 ] ارتباط الدليل بالمطلوب فإنّ دلائل أحوال المخلوقات كلها عاقِلها وجمادها شاهدة بتفرد الله بالإلهية . وفي تلك الدلالة شهادة على بطلان دعوة من يدعو من دون الله ما لا يضره وما لا ينفعه .
وما وقع بين هاتين الجملتين استطرادٌ واعتراضٌ .
والرؤية : علمية . والخطاب لغير معين .
والاستفهام إنكاريّ . أنكر على المخاطبين عدم علمهم بدلالة أحوال المخلوقات على تفرد الله بالإلهية . ويجوز أن يكون الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والاستفهام تقريرياً ، لأنّ حصول علم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك متقرّر من سورة الرعد وسورة النحل . وقد تقدم الكلام على معنى هذا السجود في السورتين المذكورتين .
وقد استعمل السجود في حقيقته ومجازه ، وهو حسن وإن أباه الزمخشري ، وقد حققناه في المقدمة التاسعة ، لأن السجود المثبت لكثير من الناس هو السجود الحقيقي ، ولولا إرادة ذلك لما احترس بإثباته لكثير من الناس لا لجميعهم .
ووجه هذا التفكيك أن سجود الموجودات غير الإنسانية ليس إلا دلالة تلك الموجودات على أنها مسخرة بخلق الله ، فاستعير السجود لحالة التسخير والانطياع . وأما دلالة حال الإنسان على عبوديته لله تعالى فلما خالطها إعراض كثير من الناس عن السجود لله تعالى ، وتلبّسهم بالسجود للأصنام كما هو حال المشركين غطّى سجودهم الحقيقي على السجود المجازي الدال على عبوديتهم لله لأن المشاهدة أقوى من دلالة الحال فلم يثبت لهم السجود الذي أثبت لبقيّة الموجودات وإن كان حاصلاً في حالهم كحال المخلوقات الأخرى .
وجملة { وكثير حق عليه العذاب } معترضة بالواو .
وجملة { حق عليه العذاب } مكنّى بها عن ترك السجود لله ، أي حق عليهم العذاب لأنهم لم يسجدوا لله ، وقد قضى الله في حكمه استحقاق المشرك لعذاب النار . فالذين أشركوا بالله وأعرضوا عن إفراده بالعبادة قد حق عليهم العذاب بما قضى الله به وأنذرهم به .
وجملة { ومن يهن الله فما له من مكرم } اعتراض ثان بالواو .
والمعنى : أن الله أهانهم باستحقاق العذاب فلا يجدون من يكرمهم بالنصر أو بالشفاعة .
وجملة { إن الله يفعل ما يشاء } في محل العلة للجملتين المعترضتين لأن وجود حرف التوكيد في أول الجملة مع عدم المنكر يمحّض حرفَ التوكيد إلى إفادة الاهتمام فنشأ من ذلك معنى السببية والتعليل ، فتغني ( أنّ ) غناء حرف التعليل أو السببية .