{ 4 } { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ }
وهذا من لطفه بعباده أنه ما أرسل رسولا { إلا بلسان قومه ليبين لهم } ما يحتاجون إليه ، ويتمكنون من تعلم ما أتى به ، بخلاف ما لو كانوا على غير لسانهم ، فإنهم يحتاجون إلى أن يتعلموا تلك اللغة التي يتكلم بها ، ثم يفهمون عنه ، فإذا بين لهم الرسول ما أمروا به ، ونهوا عنه وقامت عليهم حجة الله { فيضل الله من يشاء } ممن لم ينقد للهدى ، ويهدي من يشاء ممن اختصه برحمته .
{ وهو العزيز الحكيم } الذي -من عزته- أنه انفرد بالهداية والإضلال ، وتقليب القلوب إلى ما شاء ، ومن حكمته أنه لا يضع هدايته ولا إضلاله إلا بالمحل اللائق به .
ويستدل بهذه الآية الكريمة على أن علوم العربية الموصلة إلى تبيين كلامه وكلام رسوله أمور مطلوبة محبوبة لله لأنه لا يتم معرفة ما أنزل على رسوله إلا بها إلا إذا كان الناس بحالة لا يحتاجون إليها ، وذلك إذا تمرنوا على العربية ، ونشأ عليها صغيرهم وصارت طبيعة لهم فحينئذ قد اكتفوا المؤنة ، وصلحوا لأن يتلقوا عن الله وعن رسوله ابتداء كما تلقى عنهم الصحابة رضي الله عنهم .
هذا من لطفه تعالى بخلقه : أنه يرسل إليهم رسلا{[15739]} منهم بلغاتهم ليفهموا عنهم ما يريدون وما أرسلوا به إليهم ، كما قال الإمام أحمد :
حدثنا وكيع ، عن عمر{[15740]} بن ذر قال : قال مجاهد : عن أبي ذر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لم يبعث الله ، عز وجل ، نبيا إلا بلغة قومه " {[15741]} .
وقوله : { فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ } أي : بعد البيان وإقامة الحجة عليهم يضل تعالى من يشاء عن وجه الهدى ، ويهدي من يشاء إلى الحق ، { وَهُوَ الْعَزِيزُ } الذي ما شاء كان ، وما لم يشأ لم يكن ، { الحكيم } في أفعاله ، فيضل من يستحق الإضلال ، ويهدي من هو أهل لذلك .
وقد كانت هذه سنة الله في خلقه : أنه ما بعث نبيا في أمة إلا أن يكون بلغتهم ، فاختص كل نبي بإبلاغ رسالته إلى أمته دون غيرهم ، واختص محمد بن عبد الله رسول الله بعموم الرسالة إلى سائر الناس ، كما ثبت في الصحيحين عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أعطيت خمسًا لم يُعطَهُن أحد من الأنبياء قبلي : نُصِرْتُ بالرعب مسيرة شهر ، وجعلت لي الأرض مسجدًا وطَهُورًا ، وأحلَّت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي ، وأعطيت الشفاعة ، وكان النبي يبعث إلى قومه ، وبعثت إلى الناس عامة " {[15742]} .
وله شواهد من وجوه كثيرة ، وقال تعالى : { قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا } [ الأعراف : 158 ] .
{ وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه } إلا بلغة قومه الذي هو منهم وبعث فيهم . { ليبيّن لهم } ما أمروا به فيفقهوه عنه بيسر وسرعة ، ثم ينقلوه ويترجموه إلى غيرهم فإنهم أولى الناس إليه بأن يدعوهم وأحق بأن ينذرهم ، ولذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإنذار عشيرته أولا ، ولو نزل على من بعث إلى أمم مختلفة كتب على ألسنتهم استقل ذلك بنوع من الإعجاز ، لكن أدى إلى اختلاف الكلمة وإضاعة فضل الجهاد في تعلم الألفاظ ومعانيها ، والعلوم المتشبعة منها وما في أتعاب القرائح وكد النفوس من القرب المقتضية لجزيل الثواب . وقرئ " بلسن " وهو لغة فيه كريش ورياش ، ولسن بضمتين وضمة وسكون على الجمع كعمد وعمد . وقيل الضمير في قومه لمحمد صلى الله عليه وسلم وأن الله تعالى أنزل الكتب كلها بالعربية ، ثم ترجمها جبريل عليه السلام أو كل نبي بلغة المنزل عليهم وذلك ليس بصحيح يرده قوله : { ليبين لهم } فإنه ضمير القوم ، والتوراة والإنجيل ونحوهما لم تنزل لتبين للعرب . { فيُضلّ الله من يشاء } فيخذله عن الإيمان . { ويهدي من يشاء } بالتوفيق له . { وهو العزيز } فلا يغلب على مشيئته . { الحكيم } الذي لا يضل ولا يهدي إلا لحكمه .
هذه الآية طعن ورد على المستغربين أمر محمد عليه السلام ، أي لست يا محمد ببدع من الرسل ، وإنما أرسلناك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور على عادتنا في رسلنا ، في أن نبعثهم بألسنة أممهم ليقع البيان والعبارة المتمكنة ، ثم يكون سائر الناس من غير أهل اللسان عيالاً في التبيين على أهل اللسان الذي يكون للنبي ، وجعل الله العلة في إرسال الرسل بألسنة قومهم طلب البيان ثم قطع{[7001]} قوله : { فيضل } أي إن النبي إنما غايته أن يبلغ ويبين ، وليس فيما كلف أن يهدي ويضل ، بل ذلك بيد الله ينفذ فيه سابق قضائه ، وله في ذلك العزة التي لا تعارض ، والحكمة التي لا تعلل ، لا رب غيره .
قال القاضي أبو محمد : فإن اعترض أعجمي بأن يقول : من أين يبين لي هذا الرسول الشريعة وأنا لا أفهمه ؟ قيل له : أهل المعرفة باللسان يعبرون ذلك ، وفي ذلك كفايتك .
فإن قال : ومن أين تتبين لي المعجزة وأفهم الإعجاز وأنا لا أفقه اللغة ؟ قيل له : الحجة عليك إذعان أهل الفصاحة والذين كانوا يظن بهم أنهم قادرون على المعارضة وبإذعانهم قامت الحجة على البشر ، كما قامت الحجة في معجزة موسى بإذعان السحرة ، وفي معجزة عيسى بإذعان الأطباء .
و «اللسان » في هذه الآية يراد به اللغة{[7002]} .
وقرأ أبو السمال «بلسْن » بسكون السين دون ألف - كريش ورياش - ويقال : لسن ولسان في اللغة ، فأما العضو فلا يقال فيه لسن - بسكون السين{[7003]} .
إذا كانت صيغة القصر مستعملة في ظاهرها ومسلّطة على متعلّقي الفعل المقصور كان قصراً إضافياً لقلب اعتقاد المخاطبين ، فيتعين أن يكون ردّاً على فريق من المشركين قالوا : هلا أنزل القرآن بلغة العجم . وقد ذكر في « الكشاف » في سورة فصلت عند قوله تعالى : { ولو جعلناه قرآناً أعجمياً لقالوا لولا فصلت آياته أأعجمي وعربي } [ سورة فصلت : 44 ] فقال : كانوا لتعنتهم يقولون : هلا نزل القرآن بلغة العجم ، وهو مروي في « تفسير الطبري » هنالك عن سعيد بن جبير أن العرب قالوا ذلك .
ثم يجوز أن يكون المراد بلغة العجم لغة غير العرب مثل العبرانية أو السريانية من اللغات التي أنزلت بها التوراة والإنجيل ، فكان من جملة ما موّت لهم أوهامهم أن حسبوا أن للكتب بالإلهية لغة خاصة تنزل بها ثم تُفسر للّذين لا يعرفون تلك اللّغة . وهذا اعتقاد فاش بين أهل العقول الضعيفة ، فهؤلاء الّذين يعالجون سرّ الحرف والطلسمات يموّهون بأنها لا تكتب إلا باللغة السريانية ويزعمون أنها لغة الملائكة ولغة الأرواح . وقد زعم السراج البلقيني : أن سؤال القبر يكون باللغة السريانية وتلقاه عنه جلال الدّين السيوطي واستغربه فقال :
ومن عجيب ما ترى العينان *** أن سُؤال القبر بالسرياني
أفتى بهذا شيخنا البلقينــي *** ولـــم أره لغيره بعيني
وقد كان المتنصرون من العرب والمتهودون منهم مثل عرب اليمن تترجم لهم بعض التوراة والإنجيل بالعربية كما ورد في حديث ورقة بن نوفل في كتاب بدء الوحي من « صحيح البخاري » ، فاستقرّ في نفوس المشركين من جملة مطاعنهم أن القرآن لو كان من عند الله لكان باللغة التي جاءت بها الكتب السالفة . فصارت عربيته عندهم من وجوه الطعن في أنه منزل من الله ، فالقصر هنا لرد كلامهم ، أي ما أرسلنا من رسول بلسان إلا لسان قومه المرسل إليهم لا بلسان قوم آخرين .
فموقع هذه الآية عقب آية { كتاب أنزلناه إليك } بيّن المناسبة .
وتقدير النظم : كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور ، وأنزلناه بلغة قومك لتبيّن لهم الذي أوحينا إليك وما أرسلنا من رسول إلاّ بلسان قومه ليبين لهم فيخرجهم من الظلمات إلى النور .
وإذا كانت صيغة القصر جارية على خلاف مقتضى الظاهر ولم يكن ردّاً لمقالة بعض المشركين يكُن تنزيلاً للمشركين منزلة من ليسوا بعرب لعدم تأثرهم بآيات القرآن ، ولقولهم : { قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه } وكان مناط القصر هو ما بعد لام العلّة . والمعنى : ما أرسلناك إلاّ لتبيين لهم وما أرسلنا من رسول إلا ليبين لقومه ، وكان قوله : { إلا بلسان قومه } إدْماجاً في الاستثناء المتسلط عليه القصرُ ؛ أو يكون متعلقاً بفعل { ليبين } مقدماً عليه . والتقدير : ما أرسلناك إلا لتبين لهم بلسانهم ، وما أرسلنا من رسول إلا ليبين لقومه بلسانهم ، فما لقومك لم يهتدوا بهذا القرآن وهو بلسانهم ، وبذلك يتضح موقع التفريع في قوله : { فيضل الله من يشاء ويهدي من يشاء } .
واللسان : اللغة وما به التخاطب . أطلق عليها اللسان من إطلاق اسم المحل على الحال به ، مثل : سَال الوادي .
والباء للملابسة ، فلغة قومه ملابسة لِكلامه والكتاببِ المنزل إليه لإرشادهم .
والقوم : الأمة والجماعة ، فقوم كلُ أحد رهطه الذين جماعتهم واحدة ويتكلمون بلغة واحدة ، وقوم كل رسول أمته المبعوث إليهم ، إذ كان الرسُل يبعثون إلى أقوامهم ، وقوم محمد صلى الله عليه وسلم هم العرب ، وأما أمته فهم الأقوام المبعوث إليهم وهم الناس كافة .
وإنما كان المخاطب أولاً هم العرب الذين هو بين ظهرانيهم ونزل الكتاب بلغتهم لتعذر نزوله بلغات الأمم كلها ، فاختار الله أن يكون رسوله عليه الصلاة والسلام من أمة هي أفصح الأمم لساناً ، وأسرعهم أفهاماً ، وألمعهم ذكاءً ، وأحسنهم استعداداً لقبول الهدى والإرشاد ، ولم يؤمن برسول من الرسل في حياته عددٌ من الناس مثل الذين آمنوا بمحمّد صلى الله عليه وسلم في حياته فقد عم الإسلامُ بلاد العرب وقد حج مع النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع نحو خمسين ألفاً أو أكثر . وقيل مائة ألف وهم الرجال المستطيعون .
واختار أن يكون الكتاب المنزل إليهم بلغة العرب ، لأنها أصلح اللغات جمعَ معان ، وإيجاز عبارة ، وسهولة جري على الألسن ، وسرعة حفظ ، وجمال وقع في الأسماع ، وجعلت الأمة العربية هي المتلقية للكتاب بادىء ذي بدء ، وعهد إليها نشره بين الأمم .
وفي التعليل بقوله : { ليبين لهم } إيماء إلى هذا المعنى ، لأنه لما كان المقصود من التشريع البيان كانت أقرب اللغات إلى التبيين من بين لغات الأمم المرسل إليهم هي اللغة التي هي أجدر بأن يأتي الكتاب بها ، قال تعالى : { نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين } [ سورة الشعراء : 195 ] . فهذا كله من مطاوي هذه الآية .
ولكن لما كان المقصود من سياقها الرد على طعنهم في القرآن بأنه نزل بلغة لم ينزل بها كتاب قبله اقتُصر في رد خطئهم على أنه إنما كان كذلك ليبيّن لهم لأن ذلك هو الذي يهمهم .
وتفريع قوله : { فيضل الله من يشاء } الخ على مجموع جملة { وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم } ، ولذلك جاء فعل { يضلّ } مرفوعاً غير منصوب إذ ليس عطفاً على فعل { ليبين } لأن الإضلال لا يكون معلولاً للتبيين ولكنه مفرع على الإرسال المعلل بالتبيين . والمعنى أن الإرسال بلسان قومه لحكمة التبيين . وقد يحصل أثر التبيين بمعونة الاهتداء وقد لا يحصل أثره بسبب ضلال المبيّن لهم .
والإضلال والهدى من الله بما أعد في نفوس الناس من اختلاف الاستعداد .
وجملة { وهو العزيز الحكيم } تذييل لأن العزيز قويّ لا ينفلت شيء من قدرته ولا يخرج عما خُلق له ، والحكيم يضع الأشياء مواضعها ، فموضع الإرسال والتبيين أتي على أكمل وجه من الإرشاد . ومَوْقع الإضلال والهدى هو التكوين الجاري على أنسب حال بأحوال المرسل إليهم ، فالتبيين من مقتضَى أمر التشريع والإضلالُ من مقتضَى أمر التكوين .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه}، يعني بلغة قومه ليفهموا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذلك قوله سبحانه: {ليبين لهم فيضل الله من يشاء} على ألسنة الرسل عن دينه الهدى، {ويهدي} إلى دينه، الهدى على ألسنة الرسل، {من يشاء}، ثم رد تعالى ذكره المشيئة إلى نفسه، فقال: {وهو العزيز} في ملكه، {الحكيم}،حكم الضلالة والهدى لمن يشاء...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: وما أرسلنا إلى أمة من الأمم يا محمد من قبلك ومن قبل قومك رسولاً إلا بلسان الأمة التي أرسلناه إليها ولغتهم، "ليُبَيّنَ لهم "يقول: ليفهمهم ما أرسله الله به إليهم من أمره ونهيه، ليثبت حجة الله عليهم، ثم التوفيق والخذلان بيد الله، فيخذل عن قبول ما أتاه به رسوله من عنده من شاء منهم، ويوفّق لقبوله من شاء ولذلك رفع «فيُضلّ»، لأنه أريد به الابتداء لا العطف على ما قبله، كما قيل: "لنُبَيّنَ لَكُمْ ونُقِرّ في الأرْحَامِ ما نَشاءُ". "وهو العزيز" الذي لا يمتنع مما أراده من ضلال أو هداية من أراد ذلك به، و"الحكيم" في توفيقه للإيمان من وفقه له وهدايته له من هداه إليه، وفي إضلاله من أضلّ عنه، وفي غير ذلك من تدبيره...
آراء ابن حزم الظاهري في التفسير 456 هـ :
{وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم} فوجب أخذ كل نص في القرآن والأخبار على ظاهره ومقتضاه، ومن حمله على غير مقتضاه في اللغة العربية فقد خالف قول الله تعالى وحكمه، وقال عليه – عز وجل – الباطل، وخلاف قوله عز وجل...
أنزل القرآن على نبيه صلى الله عليه وسلم بلسان عربي مبين، فمن لم يعلم النحو واللغة فلم يعلم اللسان الذي به بين الله لنا ديننا، وخاطبنا به، ومن لم يعلم ذلك فلم يعلم دينه، ومن لم يعلم دينه، ففرض عليه أن يتعلمه، وفرض عليه واجب تعلم النحو واللغة، ولا بد منه على الكفاية كما قدمنا. ولو سقط علم النحو لسقط فهم القرآن وفهم حديث النبي صلى الله عليه وسلم، ولو سقط الإسلام...
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي 516 هـ :
فإن قيل: كيف هذا وقد بعث النبي صلى الله عليه وسلم إلى كافة الخلق؟ قيل: بعث من العرب بلسانهم، والناس تبع لهم، ثم بث الرسل إلى الأطراف يدعونهم إلى الله عز وجل ويترجمون لهم بألسنتهم...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} أي ليفقهوا عنه ما يدعوهم إليه، فلا يكون لهم حجة على الله ولا يقولوا: لم نفهم ما خوطبنا به... والمراد بالإضلال التخلية ومنع الألطاف، وبالهداية: التوفيق واللطف، فكان ذلك كناية عن الكفر والإيمان {وَهُوَ العزيز} فلا يغلب على مشيئته {الحكيم} فلا يخذل إلا أهل الخذلان، ولا يلطف إلا بأهل اللطف...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
هذه الآية طعن ورد على المستغربين أمر محمد عليه السلام، أي لست يا محمد ببدع من الرسل، وإنما أرسلناك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور على عادتنا في رسلنا، في أن نبعثهم بألسنة أممهم ليقع البيان والعبارة المتمكنة، ثم يكون سائر الناس من غير أهل اللسان عيالاً في التبيين على أهل اللسان الذي يكون للنبي، وجعل الله العلة في إرسال الرسل بألسنة قومهم طلب البيان ثم قطع قوله: {فيضل} أي إن النبي إنما غايته أن يبلغ ويبين، وليس فيما كلف أن يهدي ويضل، بل ذلك بيد الله ينفذ فيه سابق قضائه، وله في ذلك العزة التي لا تعارض، والحكمة التي لا تعلل، لا رب غيره...
اعلم أنه تعالى لما ذكر في أول السورة: {كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور} كان هذا إنعاما على الرسول من حيث إنه فوض إليه هذا المنصب العظيم، وإنعاما أيضا على الخلق من حيث أنه أرسل إليهم من خلصهم من ظلمات الكفر وأرشدهم إلى نور الإيمان، فذكر في هذه الآية ما يجري مجرى تكميل النعمة والإحسان في الوجهين. أما بالنسبة إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، فلأنه تعالى بين أن سائر الأنبياء كانوا مبعوثين إلى قومهم خاصة، وأما أنت يا محمد فمبعوث إلى عامة الخلق، فكان هذا الإنعام في حقك أفضل وأكمل، وأما بالنسبة إلى عامة الخلق، فهو أنه تعالى ذكر أنه ما بعث رسولا إلى قوم إلا بلسان أولئك القوم، فإنه متى كان الأمر كذلك، كان فهمهم لأسرار تلك الشريعة، ووقوفهم على حقائقها أسهل، وعن الغلط والخطأ أبعد. فهذا هو وجه النظم...
: لم لا يجوز أن يكون المراد من {قومه} أهل بلده، وليس المراد من {قومه} أهل دعوته. والدليل على عموم الدعوة قوله تعالى: {قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا} بل إلى الثقلين...
جهود القرافي في التفسير 684 هـ :
إن الحكمة في أن الله تعالى إنما يبعث رسله بألسنة قومهم ليكون ذلك أبلغ في الفهم عنه ومنه، وهو أيضا يكون أقرب ليفهم عنهم جميع مقاصدهم في الموافقة والمخالفة وإزاحة الأعذار والعلل والأجوبة عن الشبهات المعارضة وإيضاح البراهين القاطعة. فإن مقصود الرسالة في أول وهلة إنما هو البيان والإرشاد. وهو مع اتحاد اللغة أقرب، وإنما أمر جماعة من الرسل عليهم السلام بالقتال بعد اليأس من النفع بالبيان. فإذا تقررت نبوة النبي في قومه قامت الحجة على غيرهم، فإن أقارب الإنسان ومخالطيه المطلعين على حاله والعارفين بوجوه الطعن عليه أكثر من غيرهم إذا سلموا ووافقوا، فغيرهم أولى أن يسلم ويوافق. فهذه هي الحكمة في إرسال الرسول بلسان قومه ومن قومه. وفرق بين قوله تعالى: {وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه} وبين قوله:"وما أرسلنا من رسول إلا لقومه". فالقول الثاني هو المفيد لاختصاص الرسالة بهم لا الأول...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما قدم ما أفهم أنه أرسله صلى الله عليه وسلم بلسان قومه إلى الناس كافة لأن اللسان العربي أسهل الألسنة وأجمعها وأفصحها وأبينها، فكان في غاية العدالة، وختم بأن السبيل إليه في غاية الاستقامة والاعتدال، دلّ على شرف هذا اللسان لصلاحيته لجميع الأمم وخفته عليهم بخصوص لسان كل من الرسل بقومه، فلذلك أتبعه قوله: {وما أرسلنا} أي بما لنا من العظمة، وأغرق في النفي فقال: {من رسول} أي في زمن من الأزمان {إلا بلسان} أي لغة {قومه} أي الذين فيهم قوة المحاولة لما يريدون {ليبين} أي بياناً شافياً {لهم} كما تقدم أنا أرسلناك بكتاب عربي بلسان قومك لتبين لهم ولجميع الخلق، فإن لسانك أسهل الألسنة وأعذبها، فهو معطوف على {أنزلناه} بالتقدير الذي تقدم، فإذا تقرر ذلك علم أنه لا مانع حينئذ لأمة من الأمم عن الاستقامة على هذا الصراط إلا إذن الله ومشيئته {فيضل} أي فتسبب عن ذلك أنه يضل {الله} أي الذي له الأمر كله {من يشاء} إضلاله، وقدم سبحانه هذا اهتماماً بالدلالة على أنه سبحانه خالق الشر كما أنه خالق الخير مع أن السياق لذم الكافرين الذين هم رؤوس أهل الضلال {ويهدي من يشاء} هدايته فإنه سبحانه هو المضل الهادي، وأما الرسل فمبينون ملزمون للحجة تمييزاً للضال من المهتدي {وهو} أي وحده {العزيز} الذي لا يرام ما عنده إلا به، ولا يمتنع عليه شيء أراده {الحكيم} الذي لا ينقض ما دبره، فلذلك دبر بحكمته إرساله صلى الله عليه وعلى آله وسلم إلى الخلق كافة باللسان العربي، لأن المقصود جمع الخلق على الحق، فجمعهم على لسان واحد أنسب ما يكون لذلك، ولو أنزل بألسنة كلها لكان منافياً لهذا المقصود، وإن كان مع الإعجاز بكل لسان كان قريباً من الإلجاء فيفوت الإيمان بالغيب، ويؤدي أيضاً إلى ادعاء أهل كل لسان أن التعبير عنه بلسانهم أعظم، فيؤدي ذلك إلى المفاخرة والعصبية المؤدي إلى أشد الفرقة، وأنسب الألسنة لسان قوم الرسول لأنهم، أقرب إليه، فيكون فهمهم لأسرار شريعته و وقوفهم على حقائقها أسهل، ويكونون عن الغلط والخطأ أبعد، فإذا فهموا عنه دعوا من يليهم بالتراجمة وهلم جرا، فانتشر الأمر وعم وسهل، وكان مع ذلك أبعد من التحريف وأسلم من التنازع...
تيسير التفسير لاطفيش 1332 هـ :
الآية تدل على أن تعليم الدين واجب، وأَنه فرض كفاية، ويتعين على الأَب لأَولاده، وعلى الزوج لزوجه، وعلى السيد لعبده، وأَن علمهم غير هؤلاءِ أَجزى، وتدل على أَن التعلم واجب، ولام لهم للنفع، وعلى المتعلم تعظيم معلمه والتقرب إلى الله تعالى بنفعه، ولزم المعلم أَن لا يقصد النفع الدنيوي من معلمه...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
تنتهي مهمة الرسول -كل رسول- عند البيان. أما ما يترتب عليه من هدى ومن ضلال، فلا قدرة له عليه، وليس خاضعا لرغبته، إنما هو من شأن الله. وضع له سنة ارتضتها مشيئته المطلقة. فمن سار على درب الضلال ضل، ومن سار على درب الهدى وصل.. هذا وذلك يتبع مشيئة الله، التي شرعت سنته في الحياة.
(وهو العزيز الحكيم).. القادر على تصريف الناس والحياة، يصرفهم بحكمة وتقدير فليست الأمور متروكة جزافا بلا توجيه ولا تدبير...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
إذا كانت صيغة القصر مستعملة في ظاهرها ومسلّطة على متعلّقي الفعل المقصور كان قصراً إضافياً لقلب اعتقاد المخاطبين، فيتعين أن يكون ردّاً على فريق من المشركين قالوا: هلا أنزل القرآن بلغة العجم.. وقد كان المتنصرون من العرب والمتهودون منهم مثل عرب اليمن تترجم لهم بعض التوراة والإنجيل بالعربية كما ورد في حديث ورقة بن نوفل في كتاب بدء الوحي من « صحيح البخاري»، فاستقرّ في نفوس المشركين من جملة مطاعنهم أن القرآن لو كان من عند الله لكان باللغة التي جاءت بها الكتب السالفة. فصارت عربيته عندهم من وجوه الطعن في أنه منزل من الله، فالقصر هنا لرد كلامهم، أي ما أرسلنا من رسول بلسان إلا لسان قومه المرسل إليهم لا بلسان قوم آخرين. فموقع هذه الآية عقب آية {كتاب أنزلناه إليك} بيّن المناسبة. وتقدير النظم: كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور، وأنزلناه بلغة قومك لتبيّن لهم الذي أوحينا إليك وما أرسلنا من رسول إلاّ بلسان قومه ليبين لهم فيخرجهم من الظلمات إلى النور. وإذا كانت صيغة القصر جارية على خلاف مقتضى الظاهر ولم يكن ردّاً لمقالة بعض المشركين يكُن تنزيلاً للمشركين منزلة من ليسوا بعرب لعدم تأثرهم بآيات القرآن، ولقولهم: {قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه} وكان مناط القصر هو ما بعد لام العلّة. والمعنى: ما أرسلناك إلاّ لتبيين لهم وما أرسلنا من رسول إلا ليبين لقومه، وكان قوله: {إلا بلسان قومه} إدْماجاً في الاستثناء المتسلط عليه القصرُ؛ أو يكون متعلقاً بفعل {ليبين} مقدماً عليه. والتقدير: ما أرسلناك إلا لتبين لهم بلسانهم، وما أرسلنا من رسول إلا ليبين لقومه بلسانهم، فما لقومك لم يهتدوا بهذا القرآن وهو بلسانهم، وبذلك يتضح موقع التفريع في قوله: {فيضل الله من يشاء ويهدي من يشاء}. واللسان: اللغة وما به التخاطب. أطلق عليها اللسان من إطلاق اسم المحل على الحال به، مثل: سَال الوادي. والباء للملابسة، فلغة قومه ملابسة لِكلامه والكتابِ المنزل إليه لإرشادهم.
والقوم: الأمة والجماعة، فقوم كلُ أحد رهطه الذين جماعتهم واحدة ويتكلمون بلغة واحدة، وقوم كل رسول أمته المبعوث إليهم، إذ كان الرسُل يبعثون إلى أقوامهم، وقوم محمد صلى الله عليه وسلم هم العرب، وأما أمته فهم الأقوام المبعوث إليهم وهم الناس كافة. وإنما كان المخاطب أولاً هم العرب الذين هو بين ظهرانيهم ونزل الكتاب بلغتهم لتعذر نزوله بلغات الأمم كلها، فاختار الله أن يكون رسوله عليه الصلاة والسلام من أمة هي أفصح الأمم لساناً، وأسرعهم أفهاماً، وألمعهم ذكاءً، وأحسنهم استعداداً لقبول الهدى والإرشاد، ولم يؤمن برسول من الرسل في حياته عددٌ من الناس مثل الذين آمنوا بمحمّد صلى الله عليه وسلم في حياته فقد عم الإسلامُ بلاد العرب وقد حج مع النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع نحو خمسين ألفاً أو أكثر. وقيل مائة ألف وهم الرجال المستطيعون. واختار أن يكون الكتاب المنزل إليهم بلغة العرب، لأنها أصلح اللغات جمعَ معان، وإيجاز عبارة، وسهولة جري على الألسن، وسرعة حفظ، وجمال وقع في الأسماع، وجعلت الأمة العربية هي المتلقية للكتاب بادئ ذي بدء، وعهد إليها نشره بين الأمم. وفي التعليل بقوله: {ليبين لهم} إيماء إلى هذا المعنى... قوله: {فيضل الله من يشاء}... المعنى أن الإرسال بلسان قومه لحكمة التبيين. وقد يحصل أثر التبيين بمعونة الاهتداء وقد لا يحصل أثره بسبب ضلال المبيّن لهم. والإضلال والهدى من الله بما أعد في نفوس الناس من اختلاف الاستعداد. وجملة {وهو العزيز الحكيم} تذييل لأن العزيز قويّ لا ينفلت شيء من قدرته ولا يخرج عما خُلق له، والحكيم يضع الأشياء مواضعها، فموضع الإرسال والتبيين أتي على أكمل وجه من الإرشاد. ومَوْقع الإضلال والهدى هو التكوين الجاري على أنسب حال بأحوال المرسل إليهم، فالتبيين من مقتضَى أمر التشريع والإضلالُ من مقتضَى أمر التكوين...