{ لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا * إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا }
يخبر تعالى أنه لا يحب الجهر بالسوء من القول ، أي : يبغض ذلك ويمقته ويعاقب عليه ، ويشمل ذلك جميع الأقوال السيئة التي تسوء وتحزن ، كالشتم والقذف والسب ونحو ذلك فإن ذلك كله من المنهي عنه الذي يبغضه الله . ويدل مفهومها أنه يحب الحسن من القول كالذكر والكلام الطيب اللين .
وقوله : { إِلَّا مَن ظُلِمَ } أي : فإنه يجوز له أن يدعو على من ظلمه ويتشكى{[250]} منه ، ويجهر بالسوء لمن جهر له به ، من غير أن يكذب عليه ولا يزيد على مظلمته ، ولا يتعدى بشتمه غير ظالمه ، ومع ذلك فعفوه وعدم مقابلته أولى ، كما قال تعالى : { فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ }
{ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا } ولما كانت الآية قد اشتملت على الكلام السيئ والحسن والمباح ، أخبر تعالى أنه { سميع } فيسمع أقوالكم ، فاحذروا أن تتكلموا بما يغضب ربكم فيعاقبكم على ذلك . وفيه أيضا ترغيب على القول الحسن . { عَلِيمٌ } بنياتكم ومصدر أقوالكم .
قال [ علي ]{[8521]} بن أبي طلحة عن ابن عباس : { لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ } يقول : لا يحب الله أن يدعو أحد على أحد ، إلا أن يكون مظلوما ، فإنه قد أرخص له أن يدعو على من ظلمه ، وذلك قوله : { إِلا مَنْ ظُلِمَ } وإن صبر فهو خير له .
وقال{[8522]} أبو داود : حدثنا عبيد الله بن معاذ ، حدثنا أبي ، حدثنا سفيان ، عن حبيب ، عن عطاء ، عن عائشة قالت : سُرق لها شيء ، فجعلت تدعو عليه ، فقال النبي{[8523]} صلى الله عليه وسلم " لا تُسَبّخي عنه " {[8524]} .
وقال الحسن البصري : لا يدع عليه ، وليقل : اللهم أعني عليه ، واستخرج حقي منه . وفي رواية عنه قال : قد أرخص له أن يدعو على من ظلمه من غير أن يعتدي عليه .
وقال عبد الكريم بن مالك الجَزَريّ في هذه الآية : هو الرجل يشتمك فتشتمه ، ولكن إن افترى عليك فلا تفتر عليه ؛ لقوله : { وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ } [ الشورى : 41 ] .
وقال{[8525]} أبو داود : حدثنا القَعْنَبِيّ ، حدثنا عبد العزيز بن محمد ، عن العلاء ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " المُسْتَبَّانِ ما قالا فعلى البادئ منهما ، ما لم يعتد المظلوم " {[8526]} .
وقال عبد الرزاق : أنبأنا المثنى بن الصباح ، عن مجاهد في قوله : { لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلا مَنْ ظُلِمَ } قال : ضاف رجل رجلا فلم يؤدّ إليه حقّ ضيافته ، فلما خرج أخبر الناس ، فقال : " ضفت فلانا فلم يؤدّ إليّ حق ضيافتي " . فذلك الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم ، حين لم يؤد الآخر إليه حق ضيافته .
وقال محمد بن إسحاق ، عن ابن أبي نَجِيح ، عن مجاهد : { لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلا مَنْ ظُلِمَ } قال : قال هو الرجل ينزل بالرجل فلا يحسن ضيافته ، فيخرج فيقول : " أساء ضيافتي ، ولم يحسن " . وفي رواية هو الضيف المحول رحلُه ، فإنه يجهر لصاحبه بالسوء من القول .
وكذا روي عن غير واحد ، عن مجاهد ، نحو هذا . وقد روى الجماعة سوى النسائي والترمذي ، من طريق الليث بن سعد - والترمذي من حديث ابن لَهِيعة - كلاهما عن يزيد بن أبي حبيب ، عن أبي الخير مَرْثَد بن عبد الله ، عن عقبة بن عامر قال : قلنا يا رسول الله ، إنك تبعثنا{[8527]} فننزل بقوم فلا يَقْرُونا ، فما ترى في ذلك ؟ قال : " إذا نزلتم بقوم فأمَرُوا لكم بما ينبغي للضيف ، فاقبلوا منهم ، وإن لم يفعلوا فخذوا منهم حق الضيف الذي ينبغي لهم " {[8528]} .
وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، سمعت أبا الجودي يحدث ، عن سعيد بن المهاجر ، عن المقدام أبي كريمة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " أيما مسلمٍ ضاف قومًا ، فأصبح الضيف محرومًا ، فإن حقًا على كل مسلم نَصْرَه حتى يأخذ بقِرى ليلته من زرعه وماله " .
تفرد به أحمد من هذا الوجه{[8529]} وقال أحمد أيضًا : حدثنا يحيى بن سعيد ، حدثنا شعبة ، حدثني منصور ، عن الشَّعْبي عن المقدام أبي كريمة ، سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " ليلة الضيف واجبة على كل مسلم ، فإن أصبح بفِنَائه محرومًا كان دَيْنًا له عليه ، إن شاء اقتضاه وإن شاء تركه " .
ثم رواه أيضًا عن غُنْدَر عن شعبة . وعن زياد{[8530]} بن عبد الله البكَّائي . عن وَكِيع ، وأبي نُعَيْم ، عن سفيان الثوري - ثلاثتهم عن منصور ، به . وكذا رواه أبو داود من حديث أبي عَوَانة ، عن منصور ، به{[8531]} .
ومن هذه الأحاديث وأمثالها ذهب أحمد وغيره إلى وجوب الضيافة ، ومن هذا القبيل الحديث الذي رواه الحافظ أبو بكر البزَّار .
حدثنا عمرو بن علي ، حدثنا صفوان بن عيسى ، حدثنا محمد بن عَجْلان ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ؛ أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إن لي جارا يؤذيني ، فقال له : " أخرج متاعك فضعه على الطريق " . فأخذ الرجل متاعه فطرحه على الطريق ، فجعل كل من مر به قال : مالك ؟ قال : جاري يؤذيني . فيقول : اللهم العنه ، اللهم أخزه ! قال : فقال الرجل : ارجع إلى منزلك ، وقال{[8532]} لا أوذيك أبدًا " .
وقد رواه أبو داود في كتاب الأدب ، عن أبي توبة الربيع بن نافع ، عن سليمان بن حيان أبي خالد الأحمر ، عن محمد بن عجلان به{[8533]} .
ثم قال البزار : لا نعلمه يروى عن أبي هريرة إلا بهذا الإسناد ، ورواه أبو جُحَيفة وهب بن عبد الله ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ويوسف بن عبد الله بن سلام ، عن النبي صلى الله عليه وسلم{[8534]} .
{ لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم } إلا جهر من ظلم بالدعاء على الظالم والتظلم منه . وروي أن رجلا ضاف قوما فلم يطعموه فاشتكاهم فعوتب عليه . فنزلت وقرئ من ظلم على البناء للفاعل فيكون الاستثناء منقطعا أي ولكن الظالم يفعل ما لا يحبه الله . { وكان الله سميعا } لكلام المظلوم . { عليما } بالظالم .
المحبة في الشاهد إرادة يقترن بها استحسان وميل اعتقاد ، فتكون الأفعال الظاهرة من المحب بحسب ذلك ، و { الجهر بالسوء من القول } لا يكون من الله تعالى فيه شيء من ذلك ، أما أنه يريد وقوع الواقع منه ولا يحبه هو في نفسه . و { الجهر } : كشف الشيء ، ومنه الجهرة في قول الله تعالى { أرنا الله جهرة }{[4352]} ومنه قولهم : جهرت البئر ، إذا حفرت حتى أخرجت ماءها ، واختلف القراء في قوله تعالى { إلا من ظلم } وقراءة جمهور الناس بضم الظاء وكسر اللام ، وقرأ ابن أبي إسحاق وزيد بن أسلم ومسلم بن يسار وغيرهم «إلا من ظَلَم » بفتح الظاء واللام ، واختلف المتأولون على القراءة بضم الظاء ، فقالت فرقة : المعنى لا يحب الله أن يجهر أحد بالسوء من القول «إلا من ظُلم » فلا يكره له الجهر به ، ثم اختلفت هذه الفرقة في كيفية الجهر بالسوء وما هو المباح من ذلك ، فقال الحسن : هو الرجل يظلم الرجل فلا يدع عليه ، ولكن ليقل : اللهم أعنّي عليه ، اللهم استخرج لي حقي ، اللهم حلْ بيني وبين ما يريد من ظلمي ، وقال ابن عباس وغيره : المباح لمن ظُلم أن يدعو على من ظلمه ، وإن صبر فهو أحسن له ، وقال مجاهد وغيره : هو في الضيف المحول رحله ، فإنه يجهر الذي لم يكرمه بالسوء من القول ، فقد رخص له أن يقول فيه : وفي هذا نزلت الآية ، ومقتضاها ذكر الظلم وتبيين الُظلامة في ضيافة وغيرها ، وقال ابن عباس والسدي : لا بأس لمن ظَلم أن ينتصر ممن ظلمه بمثل ظلمه ، ويجهر له بالسوء من القول .
قال القاضي رحمه الله : فهذه الأقوال على أربع مراتب :
قول الحسن_ دعاء في المدافعة ، وتلك أقل منازل السوء من القول .
وقول ابن عباس_ الدعاء على الظالم بإطلاق في نوع الدعاء .
وقول مجاهد_ ذكر الظلامة والظلم .
وقول السدي_ الانتصار بما يوازي الظلامة .
وقال ابن المستنير : { إلا من ظلم } معناه إلا من أكره على أن يجهر بسوء من القول كفراً أو نحوه ، فذلك مباح ، والآية في الإكراه ، واختلف المتأولون على القراءة بفتح الضاد واللام ، فقال ابن زيد : المعنى «إلا من ظلم » في قول أو فعل ، فاجهروا له بالسوء من القول في معنى النهي عن فعله والتوبيخ والرد عليه ، قال : وذلك أنه لما أخبر الله تعالى عن المنافقين أنهم في الدرك الأسفل من النار ، كان ذلك جهراً بالسوء من القول . ثم قال لهم بعد ذلك { ما يفعل الله بعذابكم } [ النساء : 147 ] الآية ، على معنى التأنيس والاستدعاء إلى الشكر والإيمان ، ثم قال للمؤمنين : «ولا يحب الله أن يجهر بالسوء من القول إلا لمن ظلم » في إقامته على النفاق ، فإنه يقال له : ألست المنافق الكافر الذي لك في الآخرة الدرك الأسفل ؟ ونحو هذا من الأقوال ، وقال قوم معنى الكلام : «ولا يحب الله أن يجهر أحد بالسوء من القول » ثم استثنى استثناء منقطعاً ، تقديره : لكن من ظلم فهو يجهر بالسوء وهو ظالم في ذلك وإعراب { من } يحتمل في بعض هذه التأويلات النصب ، ويحتمل الرفع على البدل من ( أحد ) المقدر{[4353]} ، و «سميع عليم » : صفتان لائقتان بالجهر بالسوء وبالظلم أيضاً ، فإنه يعلمه ويجازي عليه .