لما ذكر تعالى ما أخذه الله على أهل الكتاب من اليهود والنصارى ، وأنهم نقضوا ذلك إلا قليلا منهم ، أمرهم جميعا أن يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم ، واحتج عليهم بآية قاطعة دالة على صحة نبوته ، وهي : أنه بين لهم كثيرا مما يُخْفُون عن الناس ، حتى عن العوام من أهل ملتهم ، فإذا كانوا هم المشار إليهم في العلم ولا علم عند أحد في ذلك الوقت إلا ما عندهم ، فالحريص على العلم لا سبيل له إلى إدراكه إلا منهم ، فإتيان الرسول صلى الله عليه وسلم بهذا القرآن العظيم الذي بيَّن به ما كانوا يتكاتمونه بينهم ، وهو أُمِّيّ لا يقرأ ولا يكتب - من أدل الدلائل على القطع برسالته ، وذلك مثل صفة محمد في كتبهم ، ووجود البشائر به في كتبهم ، وبيان آية الرجم ونحو ذلك .
{ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ ْ } أي : يترك بيان ما لا تقتضيه الحكمة .
{ قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ ْ } وهو القرآن ، يستضاء به في ظلمات الجهالة وعماية الضلالة .
{ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ ْ } لكل ما يحتاج الخلق إليه من أمور دينهم ودنياهم . من العلم بالله وأسمائه وصفاته وأفعاله ، ومن العلم بأحكامه الشرعية وأحكامه الجزائية .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا}: محمد صلى الله عليه وسلم، {يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب}، يعني التوراة، أخفوا أمر الرجم، وأمر محمد صلى الله عليه وسلم، {ويعفوا عن كثير}: ويتجاوز عن كثير مما كتمتم، فلا يخبركم بكتمانه، {وقد جاءكم من الله نور}: ضياء من الظلمة، {وكتاب مبين}: بيّن.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول عزّ ذكره لجماعة أهل الكتاب من اليهود والنصارى الذين كانوا في عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أهل الكتاب من اليهود والنصارى، قد جاءكم رسولنا، يعني محمدا صلى الله عليه وسلم.
"يُبَيّنُ لَكُمْ كَثِيرا مِمّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الكِتابِ": يبين لكم محمد رسولنا كثيرا مما كنتم تكتمونه الناس ولا تبينونه لهم مما في كتابكم. وكان مما يخفونه من كتابهم فبينه رسول الله صلى الله عليه وسلم للناس: رجم الزانين المحصنين. وقيل: إن هذه الآية نزلت في تبيين رسول الله صلى الله عليه وسلم للناس من إخفائهم ذلك من كتابهم.
"وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ": ويترك أخذكم بكثير مما كنتم تخفون من كتابكم الذي أنزله الله إليكم، وهو التوراة، فلا تعملون به حتى يأمره الله بأخذكم به.
"قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللْهِ نُورٌ وكِتابٌ مُبِينٌ": يقول جلّ ثناؤه لهؤلاء الذين خاطبهم من أهل الكتاب: قد جاءكم يا أهل التوراة والإنجيل من الله نور، يعني بالنور محمدا صلى الله عليه وسلم، الذي أنار الله به الحقّ، وأظهر به الإسلام، ومحق به الشرك فهو نور لمن استنار به يبين الحقّ، ومن إنارته الحقّ تبيينه لليهود كثيرا مما كانوا يخفون من الكتاب. وقوله: "وكِتابٌ مُبِينٌ "يقول جلّ ثناؤه: قد جاءكم من الله تعالى النور الذي أنار لكم به معالم الحقّ. "وكِتَابٌ مُبِينٌ "يعني: كتابا فيه بيان ما اختلفوا فيه بينهم من توحيد الله وحلاله وحرامه وشرائع دينه، وهو القرآن الذي أنزله على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، يبين للناس جميع ما بهم الحاجة إليه من أمر دينهم ويوضحه لهم، حتى يعرفوا حقه من باطله.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{قد جاءكم رسولنا} ولم يقل: فلان بن فلان ليعلم أن الرسل، عليهم الصلاة والسلام، ليسوا يعرفون بالأسامي والأنساب، ولكن إنما يعرفون بالآيات المعجزة والبراهين النيرة...
وفيه دلالة إثبات رسالة محمد صلى الله عليه وسلم لأنه قال: {يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب} وهم إذن كتموا ذلك، وأخفوه [أعني الرؤساء، فلم يخبروا واحدا أنهم كتموا ذلك، وأخفوه] حتى يبلغ الخبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم اختلف إلى أحد منهم، أو أنظر في كتابهم قط ليعلم ما كتموا. فلما بين لهم ما قد كتموا، وأخفوا عن الناس، دل ذلك لهم أنه إنما علم ذلك بالله تعالى.
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
{قَدْ جَآءَكم منَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ} في النور تأويلان: أحدهما: محمد صلى الله عليه وسلم، وهو قول الزجاج. والثاني: القرآن وهو قول بعض المتأخرين.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
وصف الرسول -صلى الله عليه وسلم- بإظهار بعض ما أخفوه، وذلك علامة على صدقه؛ إذ لولا صدقه لما عَرَفَ ذلك. ووصفه بالعفو عن كثير من أفعالهم، وذلك من أمارات خُلُقِه؛ إذ لولا خُلُقُهُ لَمَا فعل ذلك؛ فإظهار ما أبداه دليل عِلْمه، والعفو عما أخفى برهان حِلْمِه.
تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :
(قد جاءكم من الله نور) قيل: هو الإسلام، (وسمي نور لأنه يهتدى به كما يهتدي بالنور، وقيل محمد صلى الله عليه وسلم) وسمي نورا لأنه يتبين به الأشياء، كما يتبين بالنور.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{يا أَهْلَ الكتاب} خطاب لليهود والنصارى {مّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ} من نحو صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن نحو الرجم {وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ} مما تخفونه لا يبينه إذا لم تضطر إليه مصلحة دينية، ولم يكن فيه فائدة إلا اقتضاء حكم وصفته مما لا بدّ من بيانه، وكذلك الرجم وما فيه إحياء شريعة وإماتة بدعة. وعن الحسن: ويعفو عن كثير منكم لا يؤاخذه...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{يا أهل الكتاب} لفظ يعم اليهود والنصارى ولكن نوازل الإخفاء كالرجم وغيره إنما حفظت لليهود، لأنهم كانوا مجاوري رسول الله صلى الله عليه وسلم في مهاجره. وقال محمد بن كعب القرظي: أول ما نزل من هذه السورة هاتان الآيتان في شأن اليهود والنصارى، ثم نزل سائر السورة بعرفة في حجة الوداع...
اعلم أنه تعالى لما حكى عن اليهود وعن النصارى نقضهم العهد وتركهم ما أمروا به، دعاهم عقيب ذلك إلى الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم فقال {يا أهل الكتاب} والمراد بأهل الكتاب اليهود والنصارى، وإنما وحد الكتاب لأنه خرج مخرج الجنس، ثم وصف الرسول بأمرين: الأول: أنه يبين لهم كثيرا مما كانوا يخفون. قال ابن عباس: أخفوا صفة محمد صلى الله عليه وسلم، وأخفوا أمر الرجم، ثم إن الرسول صلى الله عليه وسلم بين ذلك لهم، وهذا معجز لأنه عليه الصلاة والسلام لم يقرأ كتابا ولم يتعلم علما من أحد، فلما أخبرهم بأسرار ما في كتابهم كان ذلك إخبارا عن الغيب فيكون معجزا. الوصف الثاني للرسول: قوله {ويعفوا عن كثير} أي لا يظهر كثيرا مما تكتمونه أنتم، وإنما لم يظهره لأنه لا حاجة إلى إظهاره في الدين، والفائدة في ذكر ذلك أنهم يعلمون كون الرسول عالما بكل ما يخفونه، فيصير ذلك داعيا لهم إلى ترك الإخفاء لئلا يفتضحوا.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
بين الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم وللمؤمنين أنه أخذ الميثاق على أهل الكتاب من اليهود والنصارى من قبل، كما أخذه على هذه الأمة الآن، وأنهم نقضوا ميثاقه، وأضاعوا حظا عظيما مما أوحاه تعالى إليهم، ولم يقيموا ما حفظوا منه. وهذا البيان من دلائل نبوته صلى الله عليه وآله وسلم التي هي من معجزات القرآن الكثيرة. ثم ناداهم بعد ذلك ووجه إليهم الخطاب في إقامة الحجة عليهم بقوله عز وجل:
{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ} قيل إن هذا الآية نزلت في قصة إخفاء اليهود حكم رجم الزاني حين تحاكموا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك وستأتي القصة في السورة. والصواب أن الآية على إطلاقها فكان رسول الله وخاتم النبيين صلى الله عليه وآله وسلم قد بين لأهل الكتاب كثيرا من الأحكام والمسائل التي كانوا يخفونها مما أنزل الله عليهم، منها حكم رجم الزاني هو مما حفظوه من أحكام التوراة (كما تراه في 22: 20 – 24 من سفر التثنية) ولم يلتزموا العمل به، وأنكروه أمام النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأقسم على عالمهم ابن صوريا وناشده الله حتى اعترف به. فهذا مما كانوا يخفونه عند وجوب العمل به أو الفتوى. وكذلك أخفوا صفات النبي صلى الله عليه وآله وسلم والبشارات به وحرفوه بالحمل على معان أخرى. اليهود والنصارى في هذا سواء. وهذا النوع غير ما أضاعوه من كتبهم ونسوه البتة، كنسيان اليهود ما جاء في التوراة من خبر الحساب والجزاء في الآخرة. وما أظهره لهم الرسول مما كانوا يخفونه عنه وعن المسلمين كانت الحجة عليهم فيه أقوى، لأنهم كانوا يعلمون أنه أمي لم يطلع على شيء من كتبهم، ولهذا آمن من آمن من علماء اليهود المصنفين واعترفوا بعد إيمانهم بما بقي عندهم من البشارات وصفات النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
{وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ} مما كنتم تخفونه فلا يفضحكم ببيانه. وهذا النص حجة عليهم أيضا لأنهم يعلمون أنهم يخفون عن المسلمين وعن عامتهم كثيرا من المسائل لئلا يكون حجة عليهم إذ هم لا يعلمون أنهم يخفون عن المسلمين وعن عامتهم كثيرا من المسائل لئلا يكون حجة عليهم إذ هم لا يعلمون به، كدأب علماء السوء في كل أمة: يكتمون من العلم ما يكون حجة عليهم، كاشفا عن سوء حالهم، أو يحرفونه تحريفا معنويا بحمله على غير معناه المراد.
{قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ} في المراد بالنور هنا ثلاثة أقوال: أحدهما أنه النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ثانيها أنه الإسلام، ثالثها أنه القرآن، ووجه تسمية كل من هذه الثلاثة نورا هو أنها للبصيرة كالنور للبصر، فلولا النور لما أدرك البصر شيئا من المبصرات، ولولا ما جاء به النبي من القرآن والإسلام لما أدرك ذو البصيرة من أهل الكتاب ولا من غيرهم حقيقة دين الله، وحقيقة ما طرأ على التوراة والإنجيل من ضياع بعضها ونسيانه، وعبث رؤساء الدين بالبعض الآخر بإخفاء بعضه وتحريف البعض الآخر، ولظلوا في ظلمات الجهل والكفر لا يبصرون. والكتاب المبين هو القرآن، وهو بين في نفسه مبين لما يحتاج إليه الناس لهديتهم، ولولا عطفه على النور لما فسروا النور إلا به، فإن الأصل في العطف أن يكون المعطوف غير المعطوف عليه، ولكن العطف قد يرد للتفسير، وهو الذي أختاره هنا لتوافق هذه الآية وما بعدها قوله تعالى في أواخر سورة النساء {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا * فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ بِاللّهِ وَاعْتَصَمُواْ بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِّنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا} [النساء: 72] وقد قال هنا بعد ذكر هذا النور: يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ}.
مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير لابن باديس 1359 هـ :
وفي ندائهم بيا أهل الكتاب تشريف وتعظيم لهم بإضافتهم للكتب، وبعث لهم على قبول ما جاء به محمد -صلى الله عليه وآله وسلم – لأنه جاء بكتاب وهم أهل الكتاب، واحتجاج عليهم بأن الإيمان بالكتاب الذي عندهم يقتضي الإيمان بالكتاب الذي جاء به لأنه من جنسه...
هذا هو أدب الإسلام في دعوة غير أهله، ليعلمنا كيف ينبغي أن نختار عند الدعوة لأحد أحسن ما يدعى به، وكيف ننتقي ما يناسب ما نريد دعوته إليه: فدعاء الشخص بما يحب مما يلفته إليك، ويفتح لك سمعه وقلبه، ودعاؤه بما يكره يكون أول حائل يبعد بينك وبينه، وإذا كان هذا الأدب عاما في كل تداع وتخاطب، فأحق الناس بمراعاته هم الدعاة إلى الله، والمبينون لدينه سواء دعوا المسلمين أو غير المسلمين...
على الداعي إلى الله والمناظر في العلم، أن يقصد إحقاق الحق وإبطال الباطل، وإقناع الخصم بالحق وجلبه إليه؛ فيقتصر من كل حديثه على ما يحصل له ذلك، ويتجنب ذكر العيوب والمثالب، ولو كانت هنالك عيوب ومثالب؛ اقتداء بهذا الأدب القرآني النبوي في التجاوز مما في القوم عن كثير، وفي ذكر العيوب والمثالب خروج عن القصد وبعد عن الأدب، وتعد على الخصم وإبعاد له، وتنفير عن الاستماع والقبول، وهما المقصود من الدعوة والمناظر...
فبمحمد- صلى الله عليه وآله وسلم، وكتابه، تمت نعمة الله تعالى عن البشرية كلها، بإظهار وبيان كل ما تحتاج إلى إظهاره وبيانه. ولما دعا الله إلى تصديق رسوله بالحجة العلمية الخلقية من بيانه، وتجاوزه ذكر بهذه النعمة العظمى في قوله: "قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين". محمد (ص) والقرآن نور وبيان: في هذه الآية وصف محمد -صلى الله عليه وآله وسلم – بأنه نور، ووصف القرآن بأنه مبين، وفي آيات أخرى وصف القرآن بأنه نور، كقوله: "فآمنوا بالله ورسوله والنور الذي أنزلنا "ووصف الرسول بأنه مبين كقوله:"وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم، ولعلهم يتفكرون "وهذا ليبين لنا الله تعالى أن إظهار النبي- صلى الله عليه وآله وسلم – وبيانه وإظهار القرآن وبيانه واحد. وقد صدقت عائشة رضي الله عنها لما سئلت عن خلق النبي -صلى الله عليه وآله وسلم – فقالت:"كان خلقه القرآن".
نستفيد من هذا أولا – أن السنة النبوية والقرآن لا يتعارضان، ولهذا يرد خبر الواحد إذا خالف القطعي من القرآن. وثانيا – أن فقه القرآن يتوقف على فقه حياة النبي- صلى الله عليه وآله وسلم – وسنته، وفقه حياته -صلى الله عليه وآله وسلم – يتوقف على القرآن، وفقه الإسلام يتوقف على فقههما. اقتداء: هذا نبينا- صلى الله عليه وآله وسلم – نور وبيان، وهذا كتابنا نور وبيان؛ فالمسلم المؤمن بهما المتبع لهما له حظه من هذا البيان: فهو على ما يسر له من العلم ولو ضئيلا يبينه وينشره، يعرف به الجاهل ويرشد به الضال، وهو بذاك وبعلمه الصالح كالنور ويشع على من حوله، وتتسع دائرة إشعاعه وتضيق بحسب ما عنده من علم وعمل. فعلى المسلم أن يعلم هذا من نفسه، ويعمل عليه، ويضرع إلى الله دائما في دعواته أن يمده بنوره، وليدع بدعاء النبي -صلى الله عليه وآله وسلم – الذي كان يدعو به في ذلك وهو: "اللهم اجعل في قلبي نورا، وفي بصري نورا، وفي سمعي نورا، وعن يميني نورا، وعن يساري نورا، وتحتي نورا، وأمامي نورا، وخلفي نورا، واجعل لي نورا.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ويبين لهم طبيعة ما جاء به هذا الرسول، ووظيفته في الحياة البشرية، وما قدر الله من أثره في حياة الناس. (قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين. يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام. ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه، ويهديهم إلى صراط مستقيم).. وليس أدق ولا أصدق ولا أدل على طبيعة هذا الكتاب.. القرآن.. وعلى طبيعة هذا المنهج.. الإسلام.. من أنه (نور).. إنها حقيقة يجدها المؤمن في قلبه وفي كيانه وفي حياته وفي رؤيته وتقديره للأشياء والأحداث والأشخاص.. يجدها بمجرد أن يحد حقيقة الإيمان في قلبه.. (نور) نور تشرق به كينونته فتشف وتخف وترف. ويشرق به كل شيء أمامه فيتضح ويتكشف ويستقيم. ثقلة الطين في كيانه، وظلمة التراب، وكثافة اللحم والدم، وعرامة الشهوة والنزوة.. كل أولئك يشرق ويضيء ويتجلى.. تخف الثقلة، وتشرق الظلمة، وترق الكثافة، وترف العرامة.. واللبس والغبش في الرؤية، والتأرجح والتردد في الخطوة، والحيرة والشرود في الاتجاه والطريق البهيم الذي لا معالم فيه.. كل أولئك يشرق ويضيء ويتجلى.. يتضح الهدف ويستقيم الطريق إليه وتستقيم النفس على الطريق.. (نور. وكتاب مبين).. وصفان للشيء الواحد.. لهذا الذي جاء به الرسول الكريم..
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
..بعد أن ذكر من أحوال فريقي أهل الكتاب وأنبَائهم ما لا يعرفه غير علمائهم وما لا يستطيعون إنكاره أقبل عليهم بالخطاب بالموعظة؛ إذ قد تهيَّأ من ظهور صدق الرسول صلى الله عليه وسلم ما يسهّل إقامة الحجّة عليهم، ولذلك ابتدئ وصفُ الرسول بأنّه يبيَّن لهم كثيراً ممّا كانوا يخفون من الكتاب، ثم أعقبه بأنَّه يعفو عن كثير. ومعنى {يعفو} يُعرض ولا يُظهر، وهو أصل مادّة العفو. يقال: عفا الرسم، بمعنى لم يظهر، وعفاه: أزال ظهوره. ثم قالوا: عفا عن الذنب، بمعنى أعرض، ثم قالوا: عفا عن المذنب، بمعنى ستر عنه ذنبه، ويجوز أن يراد هنا معنى الصفح والمغفرة، أي ويصفح عن ذنوب كثيرة، أي يبيّن لكم دينكم ويعفو عن جهلكم.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
وقد أفرد الكتاب والنصارى واليهود لهم كتب وأسفار لا كتاب واحد، وكان الإفراد لأحد أمرين أو لهما معا أول الأمرين أن الكتاب يطلق ويراد به الجمع، لأن (أل) هنا للجنس، كما يقال: السوق أو: أهل العلم ويراد العلوم. وثاني الأمرين: أن العرب كانوا قسمين: أميين لا يقرءون أو ليست الكتابة رائجة عندهم، وأهل كتابة وعلم بالكتاب..
وعلى ذلك تكون كلمة "أهل الكتاب "ليست مقابلة فقط للمشركين وعبدة الأوثان بل هي مقابلة للأميين. وأهل الكتاب الذين صاحبهم الكتاب وكانوا له كالأهل الذين يرتبطون فيه...
وهنا نتساءل ما الذي أخفوه وبينه القرآن والجواب عن ذلك: هو كل ما جاء في القرآن من تكليفات دينية تتصل بالفطرة الإنسانية ولا تختص بقوم دون قوم، مثل الصدق وحسن المعاملة للناس وإعطاء الناس حقوقهم لا فرق بين جاهل وعالم، وأمي وغير أمي وقوم وقوم وجنس وجنس، وتحريم الربا وأكله من القريب والبعيد والقصاص العادل والعقوبات الزاجرة، وقد قال بعض العلماء: إن الذي أخفوه هو عقوبة الرجم،... وقد يكون هذا مما أخفوه، ولكن لا يمكن أن يكون كل الذي أخفوه، فإن الله تعالى يقول: {يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون} ولا يمكن أن يكون الشيء الواحد كثيرا بل إن الكثرة تقتضي التعدد، وأنهم أخفوا كثيرا فقد أخفوا البشرى بالنبي صلى الله عليه وسلم، وحرفوا القول لكيلا تعلم للناس وأخفوا العلم بما يكون بعد الموت من بعث ونشور والحساب والثواب والعقاب والجنة، والنار وما فيها من عذاب أليم حتى إنك تقرأ التوراة التي بأيدينا فلا تجد ذكرا للحياة الآخرة، وما يكون من جزاء على ما عمل المرء، إن خير فخير، وإن شرا فشر، وأخفوا تحريم أكل الربا من كل إنسان وحرفوه وقصروا المنع على أكل الربا من الإسرائيلي، وأخفوا محاولتهم عبادة الأوثان عقب إخراجهم مستنقذين من فرعون، وهكذا فقد أخفوا كثيرا وبين الله تعالى في القرآن الكريم كثيرا مما يتصل بلب الرسالة الإلهية. هذا بعض مما أخفوا وهذا بعض مما بين الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وأنه سبحانه بين الجوهر الذي أخفوه وهو كثير لأنه لب الرسالة الإلهية. ولقد قال تعالى: {ويعفو عن كثير} أي يترك كثيرا ما كنتم تخفون من غير بيان إذا لم يكن في تركه إهمال لحقيقة دينية، ويكون فيه افتضاح لأمركم...مما اشتملت عليه توراتكم التي ألفتموها وفيها الحق والباطل وفي التعبير بكلمة "العفو" إشارة إلى أن هذا الترك يتضمن معنى الصفح والغفران إن أحسنتم في حاضركم، لأنه ترك لأمر في ذكره مضرة وتحقير لكم.
التفسير الحديث لدروزة 1404 هـ :
ومدى ما فيها من دعوة صريحة لأهل الكتاب وروعة أسلوبها وهدفها ورسل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكتبه إلى ملوكهم. ومسألة تحريف وإخفاء الكتب السماوية السابقة الآيتان موجهتان إلى أهل الكتاب وعبارتهما واضحة. وفيهما إيذان لهم بأنه قد جاءهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ ليبين لهم كثيرا مما أخفوا وأهملوا من كتاب الله وأحكامه. وليتسامح معهم في أمور كثيرة. ومعه كتاب من الله ونور مبين من شأنهما هداية من حسنت نيته ورغب في رضاء الله ورضوانه إلى سبيل الأمن والسلام والطريق المستقيم وأخرجهم من الظلمات إلى النور. وينطوي في العبارة القرآنية تقرير كون ما جاء مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من كتاب ونور كفيلين بإنقاذ أهل الكتاب المخاطبين من الخلافات والإشكالات والانحرافات التي ارتكسوا فيها، فأدت إلى النتائج التي ذكرتها الآيات السابقة. ولقد روى الطبري عن عكرمة أن يهودا جاؤوا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم يسألونه عن الرجم، واجتمعوا في بيت فقال لهم: أيكم أعلم؟ فأشاروا إلى ابن صوريا، فناشده بالذي أنزل التوراة على موسى ورفع الطور، وبالمواثيق التي أخذت عليهم أن يقول الحق. فقال: إن نساءنا نساء حسان، فكثر فينا القتل فاختصرنا.. فجلدنا مائة، وحلقنا الرؤوس وخالفنا بين الرؤوس إلى الدواب. فحكم النبي صلى الله عليه وآله وسلم على الزاني منهم بالرجم، فأنزل الله: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ} الآية وأنزل فيهم كذلك هذه الآية: {وإذا خلا بعضكم إلى بعض قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم} (76). والآية الثانية من آيات سورة البقرة. وجعلنا كمناسبة للرواية غريب. وروي مثل هذه الرواية كمناسبة لنزول آيات أخرى من هذه السورة. وفحوى الآيتين اللتين نحن في صددهما والسياق السابق لهما يسوغ التوقف في الرواية، والقول إن الآيتين متصلتان بما سبقهما، وإنهما جاءتا على سبيل الاستطراد إلى دعوة أهل الكتاب عقب الآيات الثلاث التي احتوت حكاية ما كان من نقض اليهود والنصارى لمواثيق الله وانحرافهم عنها وتعرضهم لسخط الله ونقمته بسبب ذلك، وتقرير ما كان من واقع أمرهم عند نزولها لتهيب بهم إلى الانضواء إلى ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والاهتداء بهدي نور الله وكتابه. وأسلوب الدعوة في الآيتين قوي موجه إلى العقل والقلب معا كما هو ظاهر. والمتبادر أنه ينطوي فيه قصد التأنيس والتذكير بما يجمع بين هذه الدعوة وأهل الكتاب من رسالات الله وكتبه ومواثيقه. وتقرير كونها بمثابة إنقاذ لهم مما هم فيه من خلاف ونزاع. وفرصة للسير في طريق الأمن والسلام. ودعوة أهل الكتاب في هذه الآيات إلى الإيمان برسالة النبي صلى الله عليه وآله وسلم المصدقة لما عندهم ليست جديدة. فقد تكررت في القرآن المكي والمدني بأساليب متنوعة قبل هذه المرة، غير أنه يلحظ أنها جاءت هنا صريحة أكثر في بيان كون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد أرسل إليهم، وكون القرآن نورا وهدى لهم وأكثر تعميما وتوجيها في الخطاب. ولما كان فريق من أهل الكتاب من اليهود والنصارى قد آمنوا قبل نزول هذه الآية بالرسالة المحمدية في مكة، ثم في المدينة نتيجة للدعوة السابقة ولما رآه الذين آمنوا من تطابق بينها وبين ما عندهم على ما ذكرته من آيات عديدة مكية ومدنية أوردناها في مناسبات سابقة فتكون الدعوة في الآية استئنافية موجهة إلى الذين لم يؤمنوا بعد لأسباب متنوعة نبهنا عليها كذلك في مناسبات سابقة. ومن الغريب أن تكون هذه الصراحة في هذه الآية – وقد جاء بعد قليل آية أخرى فيها صراحة قوية بأسلوب آخر – ثم يصر المبشرون وبعض المستشرقين على القول: إن ما في القرآن من نصوص لا يدل على شمول رسالة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لغير العرب من الملل والنحل الأخرى. بل وإننا لنرى في هاتين الآيتين وفي الآية التي تأتي بعد قليل ما يمكن أن يكون فيه تأييد لما روته الروايات من إرسال النبي صلى الله عليه وآله وسلم رسله وكتبه إلى ملوك الأقطار المجاورة لجزيرة العرب وأكثرهم نصارى وهم ملوك الروم ومصر والحبشة وغسان والفرس يبلغهم أنه رسول الله إليهم، ويدعوهم إلى الإسلام من حيث إن هذه الآيات وأمثالها وبخاصة الآيتين (66 – 67) من هذه السورة اللتين سوف نشرحهما في مناسبتهما، هي التي حفزت النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى خطوات عملية في سبيل تبليغ دعوته إليهم وإلى غيرهم من ملوك وأمراء وزعماء الأنحاء البعيدة عن الحجاز من جزيرة العرب مثل: اليمن وحضرموت والبحرين وعمان. والروايات تذكر (1) أن هذا الأمر قد وقع بعد صلح الحديبية وفراغ بال النبي صلى الله عليه وآله وسلم من قريش واليهود في المدينة والقرى الأخرى. وهذه الآيات قد نزلت على ما يلهمه سياق السلسلة منذ بدء السورة بعد صلح الحديبية.
ولقد أثرت نصوص مختلفة لكتاب الدعوة الذي أرسله النبي صلى الله عليه وآله وسلم للملوك وأشهرها هذا النص المعنون إلى هرقل (بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم، السلام على من اتبع الهدى، أما بعد فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين {يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون (64)} (آل عمران). ونحن نعرف أن بعض المستشرقين يشككون في ذلك بسبب ثغرات وعلل زعموها في النصوص العديدة المروية. بل وبعضهم يقول: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن يفكر في خارج الحجاز أو على أبعد تقدير في خارج الجزيرة. ولم يكن ليجرأ على إرسال رسل وكتب إلى أكبر ملوك الأرض إذ ذاك. والثغرات المزعومة ليس من شأنها نفي أصل الخبر الذي أجمعت عليه الروايات القديمة. والقول بعدم التفكير في خارج الجزيرة يكذبه ما يكاد يكون يقينيا من الجيش الذي سيره النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الظروف التي رويت فيها الروايات إلى مؤتة في البلقاء للانتقام من الذين قتلوا بعض رسل النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومن الجيش العظيم الذي قاده بنفسه إلى تبوك لتأديب قبائل النصارى في مشارف الشام ومقابلة ما بلغه من تجمع الروم لغزو المدينة نتيجة لغزوة مؤتة. أما القول بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن ليجرأ على إرسال رسله إلى ملوك الأرض، فهو هراء بالنسبة إلى صاحب دعوة مؤمن بدعوته أعمق الإيمان، ومستغرق فيها أشد الاستغراق، ومعتقد بواجبه بنشرها في مشارق الأرض ومغاربها وإبلاغها لجميع البشر تنفيذا لأمر ربه القرآني أقوى الاعتقاد. وقد رأى علماء اليهود الراسخين في العلم قد آمنوا بها، ورأى النصارى الذين هم في الحجاز قد آمنوا بها، ورأى وفود النصارى الذين فيهم القسيسون والرهبان قد آمنوا بها، وقد فاضت أعينهم بالدموع مما عرفوا فيها من الحق على ما ذكرته الآيات العديدة التي أوردناها في مناسبات سابقة وبخاصة في مناسبة تفسير آية الأعراف (157).
وحين يعرض الحق لنا قضية النور الحسي يريد أن يأخذ بيدنا من النور الحسي إلى النور المعنوي فالنور الحسي يبدد ظلام الطريق حتى لا نصطدم بالأشياء أو نقع في هوة أو نكسر شيئا، لكن عندما يحمل الإنسان نورا فهو يمشي على بينة من أمره والنور الحسي يمنع تصادم الحركات في المخلوقات حتى لا تبدد الطاقة، فتبديد الطاقة يرهق الكون ولا يتم إنجاز ما.
فدين محمد صلى الله عليه وسلم جمع بين القيم المادية والقيم الروحية فكان دينا وسطا بين الاثنين فقال:"قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين" أي انتهزوا الفرصة لتصححوا أخطاءكم ولتستأنفوا حياة صافية تربطكم بالسماء رباطا يجمع بين دين قيمي يتطلب الدنيا ويتطلب حركة الآخرة.