تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{وَقَدِمۡنَآ إِلَىٰ مَا عَمِلُواْ مِنۡ عَمَلٖ فَجَعَلۡنَٰهُ هَبَآءٗ مَّنثُورًا} (23)

{ وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ } أي : أعمالهم التي رجوا أن تكون خيرا لهم وتعبوا فيها ، { فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا } أي باطلا مضمحلا قد خسروه وحرموا أجره وعوقبوا عليه وذلك لفقده الإيمان وصدوره عن مكذب لله ورسله ، فالعمل الذي يقبله الله ، ما صدر عن المؤمن المخلص المصدق للرسل المتبع لهم فيه .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَقَدِمۡنَآ إِلَىٰ مَا عَمِلُواْ مِنۡ عَمَلٖ فَجَعَلۡنَٰهُ هَبَآءٗ مَّنثُورًا} (23)

21

( وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا ) . .

هكذا في لحظة . والخيال يتبع حركة القدوم المجسمة المتخيلة - على طريقة القرآن في التجسيم والتخييل - وعملية الإثارة للأعمال ، والتذرية في الهواء ؛ فإذا كل ما عملوا في الدنيا من عمل صالح هباء . ذلك أنه لم يقم على الإيمان ، الذي يصل القلب بالله ، والذي يجعل العمل الصالح منهجا مرسوما وأصلا قاصدا ، لا خبط عشواء ، ولا نزوة طارئة ، ولا حركة مبتورة لا قصد لها ولا غاية . فلا قيمة لعمل مفرد لا يتصل بمنهج ، ولا فائدة لحركة مفردة ليست حلقة من سلسلة ذات هدف معلوم .

إن وجود الإنسان وحياته وعمله في نظرة الإسلام موصولة كلها بأصل هذا الكون ، وبالناموس الذي يحكمه ، والذي يصله كله بالله . بما فيه الإنسان وما يصدر عنه من نشاط . فإذا انفصل الإنسان بحياته عن المحور الرئيسي الذي يربطه ويربط الكون ، فإنه يصبح لقي ضائعا لا وزن له ولا قيمة ، ولا تقدير لعمله ولا حساب . بل لا وجود لهذا العمل ولا بقاء .

والإيمان هو الذي يصل الإنسان بربه ؛ فيجعل لعمله قيمة ووزنا ، ويجعل له مكانه في حساب هذا الكون وبنائه .

وهكذا تعدم أعمال أولئك المشركين . تعدم إعداما يصوره التعبير القرآني تلك الصورة الحسية المتخيلة :

( وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا ) . .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَقَدِمۡنَآ إِلَىٰ مَا عَمِلُواْ مِنۡ عَمَلٖ فَجَعَلۡنَٰهُ هَبَآءٗ مَّنثُورًا} (23)

كانوا في الجاهلية يعدّون الأعمال الصالحة مَجلبة لخير الدنيا لأنها ترضي الله تعالى فيجازيهم بنعم في الدنيا إذ كانوا لا يؤمنون بالبعث ، وقد قالت خديجة للنبيء صلى الله عليه وسلم حين تحيّر في أمر ما بدأه من الوحي وقالَ لها : « لقد خشِيتُ على نفسي » ، فقالت : « والله لا يخزيك الله أبداً . إنك لتصل الرحم وتَقري الضيف وتعين على نوائب الحق » . فالظاهر أن المشركين إذا سمعوا آيات الوعيد يقولون في أنفسهم : لئن كان البعث حقّاً لنجدنّ أعمالاً عملناها من البرّ تكون سبباً لنجاتنا ، فعلم الله ما في نفوسهم فأخبر بأن أعمالهم تكون كالعدم يومئذٍ .

والقدوم مستعمل في معنى العَمْد والإرادة ، وأفعال المشي والمجيء تجيء في الاستعمال لمعاني القصد والعَزم والشروع مثل : قَام يفعل ، وذَهب يقول ، وأقبل ، ونحوها . وأصل ذلك ناشىء عن تمثيل حال العامد إلى فعل باهتمام بحال من يَمشي إليه ، فموقعه في الكلام أرشق من أن يقول : وعَمَدْنا أو أردنا إلى ما عملوا .

و { مِن } في قوله : { من عمل } بيانية لإبهام { ما } وتنكير { عمل } للنوعية ، والمراد به عمل الخير ، أي إلى ما عملوه من جنس عمل الخير .

والهباء : كائنات جسمية دقيقة لا تُرى إلا في أشعة الشمس المنحصرة في كوّة ونحوها ، تلوح كأنها سَابحة في الهواء وهي أدق من الغبار ، أي فجعلناه كهباء منثور ، وهو تشبيه لأعمالهم في عدم الانتفاع بها مع كونها موجودة بالهَباء في عدم إمساكه مع كونه موجوداً ، وهذا تشبيه بليغ وهو هنا رشيق . ونظيره قوله تعالى : { وبُسّت الجبالُ بسّاً فكانت هباءً منبثاً } [ الواقعة : 5 ، 6 ] .

والمنثور : غير المنتظم ، وهو وصف كاشِف لأن الهباء لا يكون إلاّ منثوراً ، فذكر هذا الوصف للإشارة إلى ما في الهباء من الحقارة ومن التفرق .