{ 80 - 84 } { وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ } إلى آخر القصة{[317]} .
أي : { و ْ } اذكر عبدنا { لُوطًا ْ } عليه الصلاة والسلام ، إذ أرسلناه إلى قومه يأمرهم بعبادة اللّه وحده ، وينهاهم عن الفاحشة التي ما سبقهم بها أحد من العالمين ، فقال : { أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ ْ } أي : الخصلة التي بلغت - في العظم والشناعة - إلى أن استغرقت أنواع الفحش ، { مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ ْ } فكونها فاحشة من أشنع الأشياء ، وكونهم ابتدعوها وابتكروها ، وسنوها لمن بعدهم ، من أشنع ما يكون أيضا .
وتمضي عجلة التاريخ ، فيظلنا عهد إبراهيم - عليه السلام - ولكن السياق لا يتعرض هنا لقصة إبراهيم . ذلك أن السياق يتحرى مصارع المكذبين ؛ متناسقاً مع ما جاء في أول السورة : ( وكم من قرية أهلكناها ، فجاءها بأسنا بياتاً أو هم قائلون ) . . وهذا القصص إنما هو تفصيل لهذا الإجمال في إهلاك القرى التي كذبت بالنذير . . وقوم إبراهيم لم يهلكوا لأن إبراهيم - عليه السلام - لم يطلب من ربه هلاكهم . بل اعتزلهم وما يدعون من دون الله . . إنما تجيء هنا قصة قوم لوط - ابن أخي إبراهيم - ومعاصره ، بما فيها من إنذار وتكذيب وإهلاك . يتمشى مع ظلال السياق ، على طريقة القرآن :
( ولوطا إذ قال لقومه : أتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين ؟ إنكم لتأتون الرجال - شهوة - من دون النساء . بل أنتم قوم مسرفون . وما كان جواب قومه إلا أن قالوا : أخرجوهم من قريتكم ، إنهمأناس يتطهرون . فأنجيناه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين . وأمطرنا عليهم مطراً ، فانظر كيف كان عاقبة المجرمين )
وتكشف لنا قصة قوم لوط عن لون خاص من انحراف الفطرة ؛ وعن قضية أخرى غير قضية الألوهية والتوحيد التي كانت مدار القصص السابق . ولكنها في الواقع ليست بعيدة عن قضية الألوهية والتوحيد . . إن الإعتقاد في الله الواحد يقود إلى الإسلام لسننه وشرعه . وقد شاءت سنة الله أن يخلق البشر ذكراً وأنثى ، وأن يجعلهما شقين للنفس الواحدة تتكامل بهما ، وأن يتم الامتداد في هذا الجنس عن طريق النسل ؛ وأن يكون النسل من التقاء ذكر وأنثى . . ومن ثم ركبهما وفق هذه السنة صالحين للالتقاء ، صالحين للنسل عن طريق هذا الإلتقاء ، مجهزين عضوياً ونفسياً لهذا الالتقاء . . وجعل اللذة التي ينالانها عندئذ عميقة ، والرغبة في إتيانها أصيلة ، وذلك لضمان أن يتلاقيا فيحققا مشيئة الله في امتداد الحياة ؛ ثم لتكون هذه الرغبة الأصيلة وتلك اللذة العميقة دافعاً في مقابل المتاعب التي يلقيانها بعد ذلك في الذرية . من حمل ووضع ورضاعة . ومن نفقة وتربية وكفالة . . ثم لتكون كذلك ضماناً لبقائهما ملتصقين في أسرة ، تكفل الأطفال الناشئين ، الذين تطول فترة حضانتهم أكثر من أطفال الحيوان ، ويحتاجون إلى رعاية أطول من الجيل القديم !
هذه هي سنة الله التي يتصل إدراكها والعمل بمقتضاها بالاعتقاد في الله وحكمته ولطف تدبيره وتقديره . ومن ثم يكون الانحراف عنها متصلاً بالانحراف عن العقيدة ، وعن منهج الله للحياة .
ويبدو انحراف الفطرة واضحاً في قصة قوم لوط ، حتى أن لوطا ليجبههم بأنهم بدع دون خلق الله فيها ، وأنهم في هذا الانحراف الشنيع غير مسبوقين :
( ولوطاً إذ قال لقومه : أتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين ؟ )
عُطف { ولوطاً } على { نوحاً } في قوله : { لقد أرسلنا نوحاً } [ الأعراف : 59 ] فالتّقدير : وأرسلنا لوطاً ، وتغيير الأسلوب في ابتداء قصّة لوط وقومه إذ ابتُدئت بذكر ( لوطاً ) كما ابتدئت قصّة بذكر نوح لأنه لم يكن لقوم لوط اسم يعرفون به كما لم يكن لقوم نوح اسم يعرفون به . و ( إذ ) ظرف متعلّق ب ( أرسلنا ) المقدر يعني أرسلناه وقت قال لقومه وجعل وقت القول ظرفاً للإرسال لإفادة مبادرته بدعوة قومه إلى ما أرسله الله به ، والمقارنة التي تقتضيها الظّرفية بين وقت الإرسال ووقت قوله ، مقارنةٌ عرفية بمعنى شدّة القرب بأقصى ما يستطاع من مبادرة التّبليغ .
وقوم لوط كانوا خليطاً من الكنعانيين وممّن نزل حولهم . ولذلك لم يوصف بأنّه أخوهم إذ لم يكن من قبائلهم ، وإنّما نزل فيهم واستوطن ديارهم . ولوط عليه السّلام هو ابن أخِي إبراهيم عليه السّلام كما تقدّم في سورة الأنعام ، وكان لوط عليه السّلام قد نزل ببلاد ( سَدوم ) ولم يكن بينهم وبينه قرَابة .
والقوم الذين أرسل إليهم لوط عليه السّلام هم أهل قرية ( سدوم ) و ( عمُّورة ) من أرض كنعان ، وربّما أطلق اسم سدوم وعمُّورة على سكّانهما . وهو أسلاف الفنيقيين وكانتا على شاطىء السديم ، وهو بحر الملح ، كما جاء في التّوراة وهو البحر الميّت المدعو ( بحيرة لوط ) بقرب أرشليم . وكانت قرب سدوم ومن معهم أحدثوا فاحشة استمتاع الرّجال بالرّجال ، فأمر الله لوطاً عليه السّلام لما نزل بقريتهم سدوم في رحلته مع عمّه إبراهيم عليه السّلام أن ينهاهم ويغلظ عليهم .
فالاستفهام في { أتأتون } إنكاري توبيخي ، والإتيان المستفهم عنه مجاز في التّلبّس والعمل ، أي أتعملون الفاحشة ، وكني بالإتيان على العمل المخصوص وهي كناية مشهورة .
والفاحشه : الفعل الدّنيء الذّميم ، وقد تقدّم الكلام عليها عند تفسير قوله تعالى : { وإذا فعلوا فاحشة } [ الأعراف : 28 ] : والمراد هنا فاحشة معروفة ، فالتّعريف للعهد .
وجملة : { ما سبقكم بها من أحد من العالمين } مستأنفة استينافاً ابتدائياً ، فإنّه بعد أن أنكر عليهم إتيان الفاحشة ، وعبّر عنها بالفاحشة ، وبّخهم بأنّهم أحدثوها ، ولم تكن معروفة في البشر فقد سَنُّوا سنة سيّئة للفاحشين في ذلك .
ويجوز أن تكون جملة : { ما سبقكم بها من أحد } صفة للفاحشة ، ويجوز أن تكون حالا من ضمير : { تأتون } أو من : { الفاحشة } .
والسبق حقيقته : وصول الماشي إلى مكان مطلوب له ولغيره قبل وصول غيره ، ويستعمل مجازاً في التّقدّم في الزّمان ، أي الأوّلية والابتداءِ ، وهو المراد هنا ، والمقصود أنّهم سبقوا النّاس بهذه الفاحشة إذ لا يقصد بمثل هذا التّركيب أنّهم ابتدأوا مع غيرهم في وقت واحد .
والباء لتعدية فعل ( سبق ) لاستعماله بمعنى ( ابتدا ) فالباء ترشيح للتّبعيّة . و ( مِنْ ) الدّاخلة على ( أحدٍ ) لتوكيد النّفي للدّلالة على معنى الاستغراق في النّفي . و ( مِن ) الداخلة على { العالمين } للتبعيض .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.