اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَلُوطًا إِذۡ قَالَ لِقَوۡمِهِۦٓ أَتَأۡتُونَ ٱلۡفَٰحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنۡ أَحَدٖ مِّنَ ٱلۡعَٰلَمِينَ} (80)

قوله تعالى : { وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الفاحشة } القصة . في نصب " لُوطاً " وجهان :

أحدهما : أنه منصوب ب " أرْسَلْنَا " الأوَّلِ ، و " إذ " ظرف الإرسال .

والثاني : أنَّهُ منصوبٌ بإضمار " اذْكُرْ " ، وفي العامل في الظرف حينئذ وجهان :

أحدهما - وهو قول الزمخشريِّ أنَّهُ بدلٌ من " لوطاً " قال : " بمعنى : واذكر وقت إذ قال لقومه " وهذا على تسليم تصرف " إذ " .

والثاني : أنَّ العامل فيها مُقَدَّرٌ تقديره : " واذْكُرْ رسالةَ لُوط إذْ قَالَ " ف " إذ " منصوب ب " رسالة " . قاله أبُو البقاء{[16464]} ، والبدل حينئذٍ بدل اشتمال .

وصرّف نوح ولوط لخفَّتِه ، فإنَّهُ ساكنُ الوسط ، مركب من ثلاثة أحرف .

قال الزجاج{[16465]} : زعم بعض النحويين يعني الفراء : أن لوطا يجوز أن يكون مشتقا من لُطْتُ الحوض إذا ملسته بالطين ، وهذا غلط ؛ لأنَّ الأسماء الأعجميّة لا تشتق كإسْحَاق ، فلا يقال : إنه من السُّحق وهو البعد ؛ وإنَّمَا صرف لخفته ؛ لأنَّه على ثلاثة أحْرُف ساكن الوسط ، فأمَّا لطتُ الحوضَ ، وهذا أليط فصحيح ، ولكن الاسم أعجميّ كإبراهيم وإسحاق .

وهو : لوطُ بْنُ هَاران بْنِ تَارخ ابْنِ أخير إبراهيم ، كان في أرض بابل مع عمه إبراهيم ، ، فهاجر إلى الشَّام ، فنزل إبراهيمُ إلى فلسطين ، وأنزل لوطاً الأردن ، فأرسله اللَّهُ عز وجل إلى أهل سَدُوم .

قوله : " أتأتُونَ الفَاحِشَة " أتفعلون السيئة المتناهية في القبح ، وذكرها باسم الفاحشة ليبين أنَّها زنا{[16466]} لقوله تعالى : { وَلاَ تَقْرَبُواْ الزنى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً } [ الإسراء : 32 ] .

{ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّن العالمين } في هذه الجملة وجهان :

أحدهما : أنَّهَا مستأنفة لا محلَّ لها من الإعرابِ ، وعلى الاستئناف يحتمل أن تكون جواباً لسؤال وألا تكون جواباً .

قال الزَّمَخْشَرِيُّ{[16467]} : " فإن قلت : ما موقع هذه الجملة " ؟

قلت : لا مَحَلَّ لها لأنَّها مُسْتَأنفة ، أنكر عليهم أوّلاً بقوله : " أتَأتُونَ الفَاحِشَةَ " ثُمَّ وبخهم عليها فقال : أنتم أوَّلُ من عملها . أو تكون جواباً لسؤال مقدَّر ، كأنَّهُم قالوا : لِمَ لا تأتيها ؟ فقال : " ما سبقكم بها أحَدٌ ؛ فلا تفعلوا ما لم تُسْبَقُوا به " وعلى هذا فتكون صفة للفاحشة ، كقوله تعالى : { وَآيَةٌ لَّهُمُ الليل نَسْلَخُ مِنْهُ النهار } [ يس : 37 ] وقال الشَّاعِر : [ الكامل ]

وَلَقَدْ أمُرُّ على اللَّئِيم يَسُبُّني *** . . . {[16468]}

والباء في " بِهَا " فيها وجهان :

أظهرهما أنها حالية ، أي : ما سبقكم أحدٌ مصاحباً لها أي : ملتبساً بها .

والثاني : أنَّها للتعدية .

قال الزمخشريُّ{[16469]} : الباءُ للتعدية من قولك : " سَبَقْته بالكُرة " إذا ضربتها قبله . ومنه قوله عليه الصلاة والسلام : " سَبَقَكَ بها عُكَّاشَةُ " {[16470]} .

قال أبو حيان : " والتّعدية هنا قلقة جداً ؛ لأنَّ " الباء " المعدِّية في الفعل المتعدي لواحد [ هي ] بجعل المفعولِ الأوَّلِ يفعل ذلك الفعل بما دخلت عليه الباء فهي كالهمزة ، وبيان ذلك أنَّك إذا قلت : " صَكَكْتُ الحجرَ بالحَجر " كان معناه : أصْكَكْت الحجرَ بالحجر أي : جَعَلْت الحجر يَصُكُّ الحجر ، فكذلك : دفعت زيداً بعمرو عن خالد ، معناه : أدْفَعْتُ زيداً عمراً عن خالد أي جعلت زيداً يدفع عمراً عن خالد فللمفعول الأوَّل تأثير في الثَّاني ولا يصحُّ هذا المعنى هنا ؛ إذْ لا يصحُّ أن يقدَّر : أسْبَقْتُ زيداً الكرة أي : جعلت زَيْداً يسبق الكَرَةَ غلا بمجاز متكلَّف ، وهو أن تجعل ضربك للكرةِ أول جَعْل ضربة قد سقبها أي : تقدَّمها في الزمان فلم يجتمعا " .

و " مِنْ " الأولى لتأكيد استغراق النفي والثانية للتبعيض .

والوجه الثاني من وجهي الجملة : أنَّها حال ، وفي صاحبها وجهان :

أحدهما : هو الفاعل أي : تأتون مبندئين بها .

والثاني : هو المفعول أي : أتأتونها مُبْتَدَأ بها غير مسبوقة من غيركم .

قال عمرو بن دينار : " ما يراد ذكر على ذكر في الدُّنيا حتى كان قوم لوط " .


[16464]:ينظر: الإملاء 1/279.
[16465]:ينظر: تفسير القرطبي 7/155.
[16466]:يرجم اللائط والملوط به متى كانا مكلفين، ويشترط في الرجم باللواطة بالنسبة للفاعل تكليفه، وبالنسبة للمفعول تكليفه، وتكليف الفاعل. ومن هذا يستنتج أن الفاعل لو كان مكلفا فقط لم يرجم المفعول، وأن الفاعل لو كان غير مكلف لم يرجم واحد منهما كما لو كانا غير مكلفين، ولما كانت اللواطة من فظائع الأمور، وكان المرتكب لها مخالفا للسنن الإلهية، وقد عاقب الله قوم لوط بأشد أنواع العذاب، قال تعالى في حقهم: {فجعلنا عاليها سافلها} عن ابن عباس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به" رواه الخمسة إلا النسائي. حكم الإمام مالك في اللواطة بالرجم (وهو مذهب الشعبي، والزهري، ومالك، وأحمد، والشافعي في قوله له)، وذهب جمع أنه يحرق بالنار منهم أبو بكر، وعبد الله بن الزبير، وهشام بن عبد الله. وذهب سعيد بن المسيب، وعطاء بن أبي رباح ، والحسن ، والثوري، والأوزاعي والإمام يحيى، والشافعي في قول له أنه كالزنا. وذهب أبو حنيفة، والشافعي في قول له، والمرتضى ، والمؤيد بالله إلى أنه يعزر اللوطي فقط. ولم يشترط ما اشترطه في الرجم من الإحصان والإسلام والحرية واختلفوا في الفاعل المكره فقيل يرجم بناء على المشهور من أن الانتشار اختيار وقيل لا يرجم لأن الإكراه شبهة تدرأ الحد. أما المفعول به المكره فينبغي أن لا يرجم قولا واحدا. إذا كان المرتكب لهذه الجريمة ممن لم يبلغوا الحلم، وقد كان مميزا فعقابه التأديب بما يراه الإمام زاجرا.
[16467]:ينظر: الكشاف 2/125.
[16468]:تقدم.
[16469]:ينظر: الكشاف 2/125.
[16470]:تقدم.