نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي  
{وَلُوطًا إِذۡ قَالَ لِقَوۡمِهِۦٓ أَتَأۡتُونَ ٱلۡفَٰحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنۡ أَحَدٖ مِّنَ ٱلۡعَٰلَمِينَ} (80)

ولما أتم سبحانه ما وفى بمقصد هذه السورة في هذا السياق من قصتهم ، أتبعه من بعده{[32629]} ممن تعرفه العرب كما فعل فيما قبل فقال : { ولوطاً إذ قال } ولما كانت رسالته إلى مدن شتى ، وكأنهم كانوا قبائل شتى ، قيل : كانوا خمسة وهي المؤتفكات{[32630]} ، وقيل : كانوا أربعة آلاف بين الشام والمدينة الشريفة ، قال : { لقومه } وقد جوزوا أن يكون العامل فيه { أرسلنا } و { اذكر } ولا يلزم من تقدير { أرسلنا } أن يكون إرساله في وقت تفوهه لهم بهذا القول غير سابق عليه ، لأنه كما أن ذلك الزمن - المنطبق على أول قوله وآخره - وقت له فكذلك{[32631]} اليوم - الذي وقع فيه هذا القول - وقت له ، بل وذلك الشهر وتلك السنة وذلك القرن ، فإن من شأن العرب تسمية الأيام المشتركة في الفعل الواحد يوماً ، قالوا : يوم القادسية ، وهو أربعة أيام إن اعتبرنا مدة القتال فقط ، وعدة شهور إن اعتبرنا بالاجتماع{[32632]} له ، وكذا يوم صفين ، وقال تعالى في قصة بدر { وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم } إلى أن قال : { إذ تستغيثون ربكم } إلى أن قال : { إذ يغشيكم النعاس أمنة منه }{ إذ يوحي ربك إلى الملائكة }{[32633]} وكلها إبدال من قوله : { وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين } ولا ريب في أن{[32634]} زمان الكل لم يكن متحداً إلا{[32635]} بتأويل جميع الأيام المتعلقة بالوقعة من سير وقتال وغير ذلك - والله أعلم ، وعبر في قصة نوح عليه السلام{[32636]} ب{ أرسلنا نوحاً إلى قومه }[ الأعراف : 59 ] ثم نسق من بعده عليه فقيل :{ وإلى عاد أخاهم هوداً }[ الأعراف : 65 ] { وإلى ثمود أخاهم صالحاً }[ الأعراف : 73 ] { وإلى مدين أخاهم شعيباً }[ الأعراف : 85 ] وعدل عن هذا الأسلوب في قصة لوط فلم يقل : وإلى أهل أدوماً{[32637]} أخاهم لوطاً ، أو إلى أهل سدوم لوطاً{[32638]} أو وأرسلنا لوطاً إلى قومه ونحو ذلك كما سيأتي في قصة موسى عليه السلام ، لأن من أعظم المقاصد بسياق هذه القصص تسلية النبي صلى الله عليه وسلم ، في مخالفة قومه له وعدم استجابتهم وشدة أذاهم وإنذار{[32639]} قومه أن يحل بهم ما حل بهذه الأمم من العذاب ، وقصص من عدا قوم لوط مشابهة لقصة قريش في الشرك بالله{[32640]} والأذى لعباده المؤمنين ، وأما قصة قوم لوط فزائدة عن ذلك بأمر فظيع عظيم الشناعة شديد العار والفحش فعدل عن ذلك النسق تنبيهاً عليه تهويلاً للأمر وتبشيعاً له ، ليكون في التسلية أشد ، وفي استدعاء الحمد والشكر أتم ، وحينئذ يترجح أن يكون العامل { اذكر } لا { أرسلنا }{[32641]} أي واذكر لوطاً وما حصل عليه من قومه زيادة على شركهم من رؤيته فيهم هذا الأمر الذي لم يبق للشناعة موضعاً ، فالقصة في الحقيقة تسلية وتذكير{[32642]} بنعمة معافاة العرب من مثل هذا الحال وإنذار لهم سوء المآل مع ما شاركت{[32643]} فيه أخواتها من الدلالة على سوء جبلة هؤلاء القوم وشرارة جوهرهم المقتضي لتفردهم عن أهل الأرض بذلك الأمر الفاحش ، والدليل على أنه أشنع الشنع{[32644]} بعد الشرك - مع ما جعل الله تعالى في كل طبع سليم من النفرة عنه - اختصاصه بمشاركته للشرك في أنه لم يحل في ملة من الملل في وقت من الأوقات ولا مع وصف من الأوصاف ، وبقية{[32645]} المحرمات ليست كذلك ، فأما قتل النفوس فقد حل في {[32646]}القصاص والجهاد{[32647]} وغير ذلك ، والوطء{[32648]} في القبل{[32649]} لم يحرم إلا بقيد كونه زنى ، ولولا الوصف لحل ، وأكل المال الأصل فيه الحل ، وما حرم إلا بقيد كونه بالباطل - وكذا غير ذلك ؛ قال أبو حيان : ولما كان هذا الفعل معهوداً قبحه ومركوزاً في العقول فحشه ، أتى معرفاً - أي في قوله بعد إنكاره عليهم وتقريعه وتوبيخه لهم : { أتأتون الفاحشة } أي أتفعلون السيئة المتمادية في القبح وإن كان بينكم وبينها مسافة بعيدة - أو تكون{[32650]} " أل " فيه للجنس على سبيل المبالغة ، كأنه{[32651]} لشدة قبحه جعل جميع الفواحش ولبعد العرب عن ذلك البعد التام ، وذلك{[32652]} بخلاف الزنى فإنه قال فيه{[32653]} ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة }{[32654]}[ الإسراء : 32 ] .

ولما كان غير مستبعد على صفاقة وجوههم ووقاحتهم أن يقولوا : لم تكون{[32655]} فعلتنا منكراً موبخاً عليها ؟ قال : { ما سبقكم بها } وأغرق في النفي بقوله : { من أحد } وعظم ذلك بتعميمه في قوله : { من العالمين* } فقد اخترعتم شيئاً لا يكون مثل فحشه لتذكروا{[32656]} به أسوأ ذكر ، كما{[32657]} أن ذوي الهمم العوال والفضل والكمال يستنبطون من المحاسن والمنافع ما يبقى لهم ذكره وينفعهم أجره ، وفي ذلك أعظم إشارة إلى تقبيح البدع والتشنيع على فاعليها ، لأن العقول لا تستقل بمعرفة المحاسن .


[32629]:- من ظ، وفي الأصل: بعدهم.
[32630]:- زيد من ظ.
[32631]:- في ظ: ذلك.
[32632]:- في ظ: الاجتماع.
[32633]:- سورة 8 آية7-12.
[32634]:- سقط من ظ.
[32635]:- في ظ:لا
[32636]:- زيد من ظ.
[32637]:- في تاج العروس: دوما- راجع "افك".
[32638]:- زيد من ظ.
[32639]:- من ظ، وفي الأصل: انذر.
[32640]:- في ظ: في الله.
[32641]:- في ظ: لا رسالنا-كذا
[32642]:- في ظ: تذكيرا.
[32643]:- من ظ، وفي الأصل: شركت.
[32644]:- سقط من ظ.
[32645]:- في ظ: قصة.
[32646]:- في ظ: الجهاد والقصاص.
[32647]:- في ظ: الجهاد والقصاص.
[32648]:- من ظ، وفي الأصل: لوط.
[32649]:- في ظ: الدبر.
[32650]:- من ظ والبحر المحيط 4/333، وفي الأصل: يكون.
[32651]:- من البحر، وفي الأصل: وظ: فإنه.
[32652]:- زيد من البحر.
[32653]:- سورة 17 آية 32.
[32654]:- من ظ، وفي الأصل: يكون.
[32655]:- من ظ، وفي الأصل: ليذكروا.
[32656]:- زيد من ظ.
[32657]:- وفي مصاحفنا. إنكم.