{ لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } أي : مفاتيحها ، علما وتدبيرا ، ف { مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } فلما بين من عظمته ما يقتضي أن تمتلئ القلوب له إجلالا وإكراما ، ذكر حال من عكس القضية فلم يقدره حق قدره ، فقال : { وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ } الدالة على الحق اليقين والصراط المستقيم . { أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ } خسروا ما به تصلح القلوب من التأله والإخلاص للّه ، . وما به تصلح الألسن من إشغالها بذكر اللّه ، وما تصلح به الجوارح من طاعة اللّه ، . وتعوضوا عن ذلك كل مفسد للقلوب والأبدان ، وخسروا جنات النعيم ، وتعوضوا عنها بالعذاب الأليم .
وإلى الله قياد السماوات والأرض . فهو يصرفها وفق ما يريد ؛ وهي تسير وفق نظامه الذي قدره ؛ وما تتدخل إرادة غير إرادته في تصريفها ، على ما تشهد الفطرة ، وينطق الواقع ، ويقر العقل والضمير .
( والذين كفروا بآيات الله أولئك هم الخاسرون ) . .
خسروا الإدراك الذي يجعل حياتهم في الأرض متسقة مع حياة الكون كله ؛ وخسروا راحة الهدى وجمال الإيمان وطمأنينة الاعتقاد وحلاوة اليقين . وخسروا في الآخرة أنفسهم وأهليهم . فهم الخاسرون الذين ينطبق عليهم لفظ( الخاسرون ) !
وقال عثمان رضي الله عنه سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن { مقاليد السماوات والأرض } فقال : «لا إله إلا الله والله أكبر وسبحان الله والحمد لله ولا حول لا قوة إلا بالله ، هو الأول والآخر والظاهر والباطن ، يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير »{[9928]} .
الجملة الثالثة : { لَهُ مقَاليدُ السمواتِ والأرض } وجيء بها مفصولة لأنها تفيد بيان الجملة التي قبلها فإن الوكيل على شيء يكون هو المتصرف في العطاء والمنع .
والمقاليد : جمع إِقليد بكسر الهمزة وسكون القاف وهذا جمع على غير قياس ، وإقليد قيل معرب عن الفارسية ، وأصله ( كليد ) قيل من الرومية وأصله ( اقليدس ) وقيل كلمة يمانية وهو مما تقاربت فيه اللغات وهي كناية عن حفظ ذخائرها ، فذخائر الأرض عناصرها ومعادنها وكيفيات أجوائها وبحارها ، وذخائرُ السماوات سَير كواكبها وتصرفات أرواحها في عوالمها وعوالمنا وما لا يعلمه إلا الله تعالى . ولما كانت تلك العناصر والقُوى شديدة النفع للناس وكان الناس في حاجة إليها شبهت بنفائس المخزونات فصحّ أيضاً أن تكون المقاليد استعارة مكنية ، وهي أيضاً استعارة مصرحة للأمر الإِلهي التكويني والتسخيري الذي يُفيض به على الناس من تلك الذخائر المدَّخَرة كقوله تعالى : { وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم } [ الحجر : 21 ] .
وهذه المقدمة تشير إلى أن الله هو معطي ما يشاء لمن يشاء من خلقه ، ومن أعظم ذلك النبوءة وهديُ الشريعة فإن جهل المشركين بذلك هو الذي جرَّأَهم على أن أنكروا اختصاص محمد صلى الله عليه وسلم بالرسالة دونهم ، واختصاص أتباعه بالهُدى فقالوا : { أهؤلاء مَنَّ الله عليهم مِنْ بيننا } [ الأنعام : 53 ] . فهذه الجمل اشتملت على مقدمات ثلاث تقتضي كل واحدة منها دلالة على وحدانية الله بالخلق ، ثم بالتصرف المطلق في مخلوقاته ، ثم بوضع النظم والنواميس الفطرية والعقلية والتهذيبية في نظام العالم وفي نظام البشر . وكل ذلك موجب توحيده وتصديقَ رسوله صلى الله عليه وسلم والاستمساك بعروته كما رَشد بذلك أهل الإِيمان .
فأما الجملة الرابعة وهي : { والذين كفروا بآيات الله أولئك هم الخاسرون } فتحتمل الاعتراض ولكن اقترانها بالواو بعد نظائرها يرجح أن تكون الواو فيها عاطفة وأنها مقصودة بالعطف على ما قبلها لأن فيها زيادة على مفاد الجملة قبلها ، وتكون مقدمة رابعة للمقصود تجهيلاً للذين هم ضد المقصود من المقدمات فإن الاستدلال على الحق بإبطال ضده ضرب من ضروب الاستدلال . لأن الاستدلال يعود إلى ترغيب وتنفير فإذا كان الذين كفروا بآيات الله خاسرين لا جرم كان الذين آمنوا بآيات الله هم الفائزين ، فهذه الجملة تقابل جملة { وينجي الله الذين اتقوا بمفازتهم } [ الزمر : 61 ] المنتقل منها إلى هؤلاء الآيات ، وهي مع ذلك مفيدة إنذارهم وتأفين آرائهم ، لأن موقعها بعدَ دلائل الوحدانية وهي آيات دالّة على أن الله واحد يقتضي التنديدَ عليهم في عدم الاهتداء بها .
ووُصف { الذين كفروا بآيات الله } بأنهم الخاسرون لأنهم كفروا بآيات مَن له مقاليد خزائن الخير فعرَّضوا أنفسهم للحرمان مما في خزائنه وأعظمها خزائن خير الآخرة .
وآيات الله هي دلائل وجوده ووحدانيتِه التي أشارت إليها الجمل الثلاث السابقة .
والإِخبار عن الذين كفروا باسم الإِشارة للتنبيه عن أن المشار إليهم خسروا لأجْللِ ما وصفوا به قبلَ اسممِ الإِشارة وهو الكفر بآيات الله . وتوسطُ ضمير الفصل لإِفادة حصر الخسارة فِيهم وهو قصر ادعائي بناء على عدم الاعتداد بخسارة غيرهم بالنسبة إلى خسارتهم فخسارتهم أعظم خسارة .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.