إنهم إذا نادوا إليها اتخذوها هزوا ولعبا ، وذلك لعدم عقلهم ولجهلهم العظيم ، وإلا فلو كان لهم عقول لخضعوا لها ، ولعلموا أنها أكبر من جميع الفضائل التي تتصف بها النفوس .
فإذا علمتم -أيها المؤمنون- حال الكفار وشدة معاداتهم لكم ولدينكم ، فمن لم يعادهم بعد هذا دل على أن الإسلام عنده رخيص ، وأنه لا يبالي بمن قدح فيه أو قدح بالكفر والضلال ، وأنه ليس عنده من المروءة والإنسانية شيء .
فكيف تدعي لنفسك دينا قيما ، وأنه الدين الحق وما سواه باطل ، وترضى بموالاة من اتخذه هزوا ولعبا ، وسخر به وبأهله ، من أهل الجهل والحمق ؟ ! وهذا فيه من التهييج على عداوتهم ما هو معلوم لكل من له أدنى مفهوم .
وبعد فلقد سلك المنهج القرآني في هذا السياق طرقا منوعة ، لنهي الذين آمنوا عن تولي المخالفين لهم في عقيدتهم من أهل الكتاب والمشركين ، ولتقرير هذه القاعدة الإيمانية في ضمائرهم وإحساسهم وعقولهم . مما يدل على أهمية هذه القاعدة في التصور الإسلامي ؛ وفي الحركة الإسلامية على السواء . .
وقد رأينا من قبل أنه سلك في النداء الأول طريق النهي المباشر ، وطريق التخويف من أن يأتي الله بالفتح أو أمر من عنده ، فينكشف ستر المنافقين . . وسلك في النداء الثاني طريق التحذير من الردة بموالاة أعداء الله ورسوله والمؤمنين ؛ وطريق التحبيب في أن يكونوا من العصبة المختارة . ممن يحبهم الله ويحبونه ؛ وطريق الوعد بالنصر لحزب الله الغالب . .
فالآن نجده في النداء الثالث في هذا الدرس للذين آمنوا يثير في نفوسهم الحمية لدينهم ولعبادتهم ولصلاتهم التي يتخذها أعداؤهم هزوا ولعبا . ونجده يسوي في النهي عن الموالاة بين أهل الكتاب والكفار ، وينوط هذا النهي بتقوى الله ؛ ويعلق على الاستماع إليه صفة الإيمان ؛ ويقبح فعلة الكفار وأهل الكتاب ويصفهم بأنهم لا يعقلون :
( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا - من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار - أولياء ، واتقوا الله إن كنتم مؤمنين . وإذا ناديتم إلى الصلاة اتخذوها هزوا ولعبا . ذلك بأنهم قوم لا يعقلون ) . .
وهي ملابسة مثيرة لكل من له حمية المؤمن ؛ الذي لا يرى لنفسه كرامة إذا أهين دينه ، وأهينت عبادته ، وأهينت صلاته ، واتخذ موقفه بين يدي ربه مادة للهزء واللعب . . فكيف يقوم ولاء بين الذين آمنوا وبين أحد من هؤلاء الذين يرتكبون هذه الفعلة ؛ ويرتكبونها لنقص في عقولهم . فما يستهزىء بدين الله وعبادة المؤمنين به ، إنسان سوي العقل ؛ فالعقل - حين يصح ويستقيم - يرى في كل شيء من حوله موحيات الإيمان بالله .
وحين يختل وينحرف لا يرى هذه الموحيات ، لأنه حينئذ تفسد العلاقات بينه وبين هذا الوجود كله . فالوجود كله يوحي بأن له إلها يستحق العبادة والتعظيم . والعقل حين يصح ويستقيم يستشعر جمال العبادة لإله الكون وجلالها كذلك ، فلا يتخذها هزوا ولعبا وهو صحيح مستقيم .
ولقد كان هذا الاستهزاء واللعب يقع من الكفار ، كما كان يقع من اليهود خاصة من أهل الكتاب ، في الفترة التي كان هذا القرآن يتنزل فيها على قلب رسول الله [ ص ] للجماعة المسلمة في ذلك الحين . ولم نعرف من السيرة أن هذا كان يقع من النصارى . . ولكن الله - سبحانه - كان يضع للجماعة المسلمة قاعدة تصورها ومنهجها وحياتها الدائمة . وكان الله - سبحانه - يعلم ما سيكون على مدار الزمان مع أجيال المسلمين . وها نحن أولاء رأينا ونرى أن أعداء هذا الدين وأعداء الجماعة المسلمة على مدار التاريخ أمس واليوم من الذين قالوا : إنهم نصارى كانوا أكثر عددا من اليهود ومن الكفار مجتمعين ! فهؤلاء - كهؤلاء - قد ناصبوا الإسلام العداء ، وترصدوه القرون تلو القرون ، وحاربوه حربا لا هوادة فيها منذ أن اصطدم الإسلام بالدولة الرومانية على عهد أبى بكر وعمر - رضي الله عنهما - حتى كانت الحروب الصليبية ؛ ثم كانت " المسألة الشرقية " التي تكتلت فيها الدول الصليبية في أرجاء الأرض للإجهاز على الخلافة ؛ ثم كان الاستعمار الذي يخفي الصليبية بين أضلاعه فتبدو في فلتات لسانه ؛ ثم كان التبشير الذي مهد للاستعمار وسانده ؛ ثم كانت وما تزال تلك الحرب المشبوبة على كل طلائع البعث الإسلامي في أي مكان في الأرض . . وكلها حملات يشترك فيها اليهود والنصارى والكفار والوثنيون . .
وهذا القرآن جاء ليكون كتاب الأمة المسلمة في حياتها إلى يوم القيامة . الكتاب الذي يبني تصورها الاعتقادي ، كما يبني نظامها الاجتماعي ، كما يبني خطتها الحركية . . سواء . . وها هو ذا يعلمها ألا يكون ولاؤها إلا لله ولرسوله وللمؤمنين ؛ وينهاها أن يكون ولاؤها لليهود والنصارى والكافرين . ويجزم ذلك الجزم الحاسم في هذه القضية ، ويعرضها هذا العرض المنوع الأساليب .
إن هذا الدين يأمر أهله بالسماحة ، وبحسن معاملة أهل الكتاب ؛ والذين قالوا : إنهم نصارى منهم خاصة . . ولكنه ينهاهم عن الولاء لهؤلاء جميعا . . لأن السماحة وحسن المعاملة مسألة خلق وسلوك . أما الولاء فمسألة عقيدة ومسألة تنظيم . إن الولاء هو النصرة . هو التناصر بين فريق وفريق ؛ ولا تناصر بين المسلمين وأهل الكتاب - كما هو الشأن في الكفار - لأن التناصر في حياة المسلم هو - كما أسلفنا - تناصر في الدين ؛ وفي الجهاد لإقامة منهجه ونظامه في حياة الناس ؛ ففيم يكون التناصر في هذا بين المسلم وغير المسلم . وكيف يكون ؟ !
إنها قضية جازمة حاسمة لا تقبل التميع ، ولا يقبل الله فيها إلا الجد الصارم ؛ الجد الذي يليق بالمسلم في شأن الدين . .
قوله تعالى : { وإذا ناديتم } الآية إنحاء على اليهود وتبيين لسوء فعلهم فإنهم كانوا إذا سمعوا قيام المؤمنين إلى الصلاة قال بعضهم لبعض ، قد قاموا لا قاموا ، إلى غير هذا من الألفاظ التي يستخفون بها في وقت الأذان وغيره ، وكل ما ذكر من ذلك فهو مثال ، وقد ذكر السدي أنه كان رجل من النصارى بالمدينة فكان إذا سمع المؤذن يقول أشهد أن محمداً رسول الله ، قال حرق الله الكاذب ، فما زال كذلك حتى سقط مصباح في بيته ليلة فأحرقه واحترق النصراني لعنه الله ، ثم ذكر تعالى أن فعلهم هذا إنما هو لعدم عقولهم ، وإنما عدموها إذ لم تتصرف كما ينبغي لها ، فكأنها لم توجد .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.