{ 141 } { وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ } لما ذكر تعالى تصرف المشركين في كثير مما أحله الله لهم من الحروث والأنعام ، ذكر تبارك وتعالى نعمته عليهم بذلك ، ووظيفتهم اللازمة عليهم في الحروث والأنعام فقال : { وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ } أي : بساتين ، فيها أنواع الأشجار المتنوعة ، والنباتات المختلفة .
{ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ } أي : بعض تلك الجنات ، مجعول لها عرش ، تنتشر عليه الأشجار ، ويعاونها في النهوض عن الأرض . وبعضها خال من العروش ، تنبت على ساق ، أو تنفرش في الأرض ، وفي هذا تنبيه على كثرة منافعها ، وخيراتها ، وأنه تعالى ، علم العباد كيف يعرشونها ، وينمونها .
{ وَ } أنشأ تعالى { النخل وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ } أي : كله في محل واحد ، ويشرب من ماء واحد ، ويفضل الله بعضه على بعض في الأكل .
وخص تعالى النخل والزرع على اختلاف أنواعه لكثرة منافعها ، ولكونها هي القوت لأكثر الخلق . { وَ } أنشأ تعالى { الزيتون وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا } في شجره { وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ } في ثمره وطعمه . كأنه قيل : لأي شيء أنشأ الله هذه الجنات ، وما عطف عليها ؟ فأخبر أنه أنشأها لمنافع العباد فقال : { كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ } أي : النخل والزرع { إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ } أي : أعطوا حق الزرع ، وهو الزكاة ذات الأنصباء المقدرة في الشرع ، أمرهم أن يعطوها يوم حصادها ، وذلك لأن حصاد الزرع بمنزلة حولان الحول ، لأنه الوقت الذي تتشوف إليه نفوس الفقراء ، ويسهل حينئذ إخراجه على أهل الزرع ، ويكون الأمر فيها ظاهرا لمن أخرجها ، حتى يتميز المخرج ممن لا يخرج .
وقوله : { وَلَا تُسْرِفُوا } يعم النهي عن الإسراف في الأكل ، وهو مجاوزة الحد والعادة ، وأن يأكل صاحب الزرع أكلا يضر بالزكاة ، والإسراف في إخراج حق الزرع بحيث يخرج فوق الواجب عليه ، ويضر نفسه أو عائلته أو غرماءه ، فكل هذا من الإسراف الذي نهى الله عنه ، الذي لا يحبه الله بل يبغضه ويمقت عليه .
وفي هذه الآية دليل على وجوب الزكاة في الثمار ، وأنه لا حول لها ، بل حولها حصادها في الزروع ، وجذاذ النخيل ، وأنه لا تتكرر فها الزكاة ، لو مكثت عند العبد أحوالا كثيرة ، إذا كانت لغير التجارة ، لأن الله لم يأمر بالإخراج منه إلا وقت حصاده .
وأنه لو أصابها آفة قبل ذلك بغير تفريط من صاحب الزرع والثمر ، أنه لا يضمنها ، وأنه يجوز الأكل من النخل والزرع قبل إخراج الزكاة منه ، وأنه لا يحسب ذلك من الزكاة ، بل يزكي المال الذي يبقى بعده .
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم ، يبعث خارصا ، يخرص للناس ثمارهم ، ويأمره أن يدع لأهلها الثلث ، أو الربع ، بحسب ما يعتريها من الأكل وغيره ، من أهلها ، وغيرهم .
بعد ذلك يردهم السياق إلى الحقيقة الأولية التي ضلوا عنها ، والتي أشار إليها إشارة في أول هذا الحديث بقوله : ( وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا ) . . يردهم إلى مصدر الحرث والأنعام التي يتصرفون في شأنها هذه التصرفات ؛ ويتلقون في شأنها من شياطين الإنس والجن الذين لم يخلقوها لهم ولم ينشئوها . . إن الله هو الذي ذرأ الحرث والأنعام ، متاعا للناس ونعمة ؛ ذرأها لهم ليشكروا له ؛ ويعبدوه - وما به سبحانه من حاجة إلى شكرهم وعبادتهم ، فهو الغني ذو الرحمة ؛ إنما هو صلاح حالهم في دينهم ودنياهم - فما بالهم يحكمون من لم يخلق شيئاً ، فيما ذرأ الله من الحرث والأنعام ؟ وما بالهم يجعلون لله نصيبا ، ولأولئك نصيبا ، ثم لا يقفون عند هذا الحد فيتلاعبون - تحت استهواء أصحاب المصلحة من الشياطين-في النصيب الذي جعلوه لله ؟ !
إن الخالق الرازق هو الرب المالك . الذي لا يجوز أن يُتصرف في هذا المال إلا بإذنه ممثلا في شرعه . وشرعه ممثل فيما جاء به رسوله من عنده ، لا فيما يدعي الأرباب المغتصبون لسلطان الله أنه شريعة الله !
( وهو الذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات ، والنخل والزرع مختلفا أكله ، والزيتون والرمان ، متشابها وغير متشابه . كلوا من ثمره إذا أثمر ، وآتوا حقه يوم حصاده ، ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين . ومن الأنعام حمولة وفرشا . كلوا مما رزقكم الله ، ولا تتبعوا خطوات الشيطان ، إنه لكم عدو مبين ) .
إن الله - سبحانه - هو الذي خلق هذه الجنات ابتداء - فهو الذي أخرج الحياة من الموات - وهذه الجنات منها الإنسيات المعروشات التي يتعهدها الإنسان بالعرائش والحوائط ؛ ومنها البريات التي تنبت بذاتها - بقدر الله - وتنمو بلا مساعدة من الإنسان ولا تنظيم . وإن الله هو الذي أنشأ النخل والزرع مختلف الألوان والطعوم والأشكال . وإن الله هو الذي خلق الزيتون والرمان ، منوع الصنوف متشابها وغير متشابه ، وإنه - سبحانه - هو الذي خلق هذه الأنعام وجعل منها( حمولة ) عالية القوائم بعيدة في الأرض حمالة للأثقال . وجعل منها ( فرشا ) صغيرة الأجسام قريبة من الأرض يتخذ من أصوافها وأشعارها الفرش . .
إنه هو - سبحانه - الذي بث الحياة في هذه الأرض ؛ ونوّعها هذا التنويع ؛ وجعلها مناسبة للوظائف التي تتطلبها حياة الناس في الأرض . . فكيف يذهب الناس - في مواجهة هذه الآيات وهذه الحقائق - إلى تحكيم غير الله في شأن الزروع والأنعام والأموال ؟
إن المنهج القرآني يكثر من عرض حقيقة الرزق الذي يختص الله بمنحه للناس ، ليتخذ منها برهانا على ضرورة إفراد الله سبحانه بالحاكمية في حياة الناس . فإن الخالق الرازق الكافل وحده ؛ هو الحقيق بأن تكون له الربوبية والحاكمية والسلطان وحده . . بلا جدال :
وهنا يحشد السياق مشاهد الزرع والإثمار ، ومشاهد الأنعام وما فيها من نعم الله . . يحشد هذه المؤثرات في صدد قضية الحاكمية ، كما حشدها من قبل في صدد قضية الألوهية . . فيدل على أن هذه وتلك قضية واحدة في العقيدة الإسلامية .
وعندما يذكر الزروع والثمار يقول :
( كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده ولا تسرفوا ، إنه لا يحب المسرفين ) . .
والأمر بإيتاء حقه يوم حصاده هو الذي جعل بعض الروايات تقول عن هذه الآية إنها مدنية . وقد قلنا في التقديم للسورة : إن الآية مكية ، لأن السياق في الجزء المكي من السورة لا يتصور تتابعه بدون هذه الآية . فإن ما بعدها ينقطع عما قبلها لو كانت قد تأخرت حتى نزلت في المدينة . وهذا الأمر بإيتاء حق الزرع يوم حصاده ، لا يتحتم أن يكون المقصود به الزكاة . وهناك روايات في الآية أن المقصود هو الصدقة غير المحددة . . أما الزكاة بأنصبتها المحددة فقد حددتها السنة بعد ذلك في السنة الثانية من الهجرة . .
( ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين ) . .
ينصرف إلى العطاء ، كما ينصرف إلى الأكل . فقد روي أنهم تباروا في العطاء حتى أسرفوا ، فقال الله سبحانه : ( ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين ) . .
كلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا ، ولا تتبعوا خطوات الشيطان ، إنه لكم عدو مبين . .
ذلك ليذكرهم أن هذا رزق الله وخلقه ، والشيطان لم يخلق شيئا . فما بالهم يتبعونه في رزق الله ؟ ثم ليذكرهم أن الشيطان لهم عدو مبين . فما بالهم يتبعون خطواته وهو العدو المبين ؟ !
{ وهو الذي أنشأ جنات } من الكروم . { معروشات } مرفوعات على ما يحملها . { وغير معروشات } ملقيات على وجه الأرض . وقيل المعروشات ما غرسه الناس فعرشوه وغير معروشات ما نبت في البراري والجبال . { والنخل والزرع مختلفا أكله } ثمره الذي يؤكل في الهيئة والكيفية ، والضمير للزرع والباقي مقيس عليه ، أو النخل والزرع داخل في حكمه لكونه معطوفا عليه ، أو للجميع على تقدير أكل ذلك أو كل واحد منهما ومختلفا حال مقدرة لأنه لم يكن ذلك عند الإنشاء . { والزيتون والرمان متشابها وغير متشابه } يتشابه بعض أفرادهما في اللون والطعم ولا يتشابه بعضهما . { كلوا من ثمره } من ثمر كل واحد من ذلك . { إذا أثمر } وإن لم يدرك ولم يينع بعد . وقيل فائدته رخصة المالك في الأكل منه قبل أداء حق الله تعالى . { وآتوا حقه يوم حصاده } يريد به ما كان يتصدق به يوم الحصاد لا الزكاة المقدرة لأنها فرضت بالمدينة والآية مكية ، وقيل الزكاة والآية مدنية والأمر بإيتائها يوم الحصاد ليهتم به حينئذ حتى لا يؤخر عن وقت الأداء وليعلم أن الوجوب بالإدراك لا بالتنقية . وقرأ ابن كثير ونافع وحمزة والكسائي { حصاده } بكسر الحاء وهو لغة فيه . { ولا تسرفوا } في التصدق كقوله تعالى : { ولا تبسطها كل البسط } { إنه لا يحب المسرفين } لا يرتضي فعلهم .
وقوله تعالى : { وهو الذي أنشأ جنات معروشات } الآية هذا تنبيه على مواضع الاعتبار و { أنشأ } معناه خلق واخترع «والجنة » مأخوذة من جن إذا ستر ، و { معروشات } قال ابن عباس : ذلك في ثمر العنب ، ومنها ما عرش وسمك ومنها ما لم يعرش وقال السدي «المعروشات » ما عرش كهيئة الكرم ، وغيره : البساتين وقيل : المعروش هو ما يعترشه بنو آدم من أنواع الشجر وغير المعروش ما يحدث في الجبال والصحراء ونحو ذلك وقيل : المعروش ما خلق بحائط وغير المعروش ما لم يخلق ، و { مختلفاً } : نصب على الحال على تقدير حصول الاختلاف في ثمرها لأنها حين الإنشاء لا ثمرة فيها فهي حال مقدرة تجيء بعد الإنشاء{[5121]} ، و { متشابهاً } يريد في المنظر ، { وغير متشابه } في المطعم قاله ابن جريج وغيره وقوله { كلوا من ثمره } نفس الإباحة وهو مضمن الإشارة إلى النعمة بذلك ، ويقرأ «من ثُمره » بضم الثاء وقد تقدم ، { وآتوا حقه يوم حصاده } فقالت طائفة من أهل العلم : هي في الزكاة المفروضة منهم ابن عباس وأنس بن مالك والحسن بن أبي الحسن وطاوس وجابر بن زيد وسعيد بن المسيب وقتادة ومحمد بن الحنفية والضحاك وزيد بن أسلم وابنه ، وقاله مالك بن أنس .
قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه : وهذا قول معترض بأن السورة مكية وهذه الآية على قول الجمهور غير مستثناة ، وحكى الزجّاج أن هذه الآية قيل فيها إنها نزلت بالمدينة ، ومعترض أيضاً بأنه لا زكاة فيما ذكر من الرمان وجميع ما هو في معناه ، وقال ابن الحنفية أيضاً وعطاء ومجاهد وغيرهم من أهل العلم : بل قوله { وآتوا حقه } ندب إلى إعطاء حقوق من المال غير الزكاة ، والسنة أن يعطي الرجل من زرعه عند الحصاد وعند الذرو وعند تكديسه في البيدر ، فإذا صفى وكال أخرج من ذلك الزكاة ، وقال الربيع بن أنس : حقه :إباحة لقط السنبل ، وقالت طائفة كان هذا حكم صدقات المسلمين حتى نزلت الزكاة المفروضة فنسختها .
وروي هذا عن ابن عباس وابن الحنفية وإبراهيم والحسن ، وقال السدي :الآية في هذه السورة مكية نسختها الزكاة ، فقال له سفيان عمن ؟ قال عن العلماء{[5122]} .
قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه : والنسخ غير مترتب في هذه الآية ، لأن هذه الآية وآية الزكاة{[5123]} لا تتعارض بل تنبني هذه على الندب وتلك على الفرض ، وقرأ ابن كثير ونافع وحمزة والكسائي «حِصاده »{[5124]} وقرأ عاصم وأبو عمرو وابن عامر «حَصاده » بفتح الحاء وهما لغتان في المصدر ، وقوله تعالى : { ولا تسرفوا } الآية ، من قال إن الآية في الزكاة المفروضة جعل هذا النهي عن الإسراف إما للناس عن التمنع عن أدائها لأن ذلك إسراف من الفعل وقاله سعيد بن المسيب ، وإما للولاة عن التشطط على الناس والإذاية لهم فذلك إسراف من الفعل ، وقاله ابن زيد ، ومن جعل الآية على جهة الندب إلى حقوق غير الزكاة ترتب له النهي عن الإسراف في تلك الحقوق لما في ذلك من الإجحاف بالمال وإضاعته{[5125]} .
وروي أن الآية نزلت بسبب لأن ثابت بن قيس بن شماس حصد غلة له فقال والله لا جاءني اليوم أحد إلا أطعمته فأمسى وليس عنده ثمرة ، فنزلت هذه الآية ، وقال أبو العالية كانوا يعطون شيئاً عند الحصاد ثم تباروا وأسرفوا فنزلت الآية ، ومن قال إنها منسوخة ترتب له النهي في وقت حكم الآية .
{ وهو الذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات والنخل والزرع مختلفا أكله والزيتون والرمان متشابها وغير متشابه }
الواو في : { وهو الذي أنشأ } للعطف ، فيكون عطف هذه الجملة على جملة { وحرّموا ما رزقهم الله } [ الأنعام : 140 ] تذكيراً بمنة الله تعالى على النّاس بما أنشأ لهم في الأرض ممّا ينفعهم ، فبعد أن بيّن سوء تصرّف المشركين فيما مَنّ به على النّاس كلّهم مع تسفيه آرائهم في تحريم بعضها على أنفسهم ، عطف عليه المنّة بذلك استنزالاً بهم إلى إدراك الحقّ والرّجوعِ عن الغي ، ولذلك أعيد في هذه الآية غالب ما ذكر في نظيرتها المتقدّمة في قوله : { وهو الذي أنزل من السماء ماء فأخرجنا به نبات كلّ شيء فأخرجنا منه خَضِراً نُخرِج منه حبّاً متراكباً ومن النّخل من طلعها قنوان دانية وجنّات من أعناب والزّيتون والرمّان مشتبهاً وغير متشابه انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه } [ الأنعام : 99 ] لأنّ المقصود من الآية الأولى الاستدلال على أنَّه الصّانع ، وأنَّه المنفرد بالخلق ، فكيف يشركون به غيره . ولذلك ذيّلها بقوله : { إنّ في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون } [ الأنعام : 99 ] ، وعطف عليها قوله : { وجعلوا لله شركاء الجنّ } [ الأنعام : 100 ] الآيات .
والمقصود من هذه : الامتنانُ وإبطالُ ما ينافي الامتنان ولذلك ذيّلت هذه بقوله : { كلوا من ثمره إذا أثمر } .
والكلام موجّه إلى المؤمنين والمشركين ، لأنَّه اعتبار وامتنان ، وللمؤمنين الحظّ العظيم من ذلك ، ولذلك أعقب بالأمر بأداء حق الله في ذلك بقوله : { وآتوا حقه يوم حصاده } إذ لا يصلح ذلك الخطاب للمشركين .
وتعريف المسند يفيد الاختصاص ، أي هو الّذي أنشأ لا غيره ، والمقصود من هذا الحصرِ إبطالُ أن يكون لغيره حظّ فيها ، لإبطال ما جعلوه من الحرث والأنعام من نصيب أنصامهم مع أنّ الله أنشأه .
والإنشاءُ : الإيجاد والخلق ، قال تعالى : { إنَّا أنشأناهنّ إنشاءً } [ الواقعة : 35 ] أي نساء الجنّة .
والجنّات هي المكان من الأرض النّابت فيه شجر كثير بحيث يَجِنّ أي يَستر الكائن فيه ، وقد تقدّم عند قوله : { كمثل جنّة برُبْوة } في سورة البقرة ( 265 ) . وإنشاؤها إنباتها وتيسير ذلك بإعطائها ما يعينها على النماء ، ودفععِ ما يفسدها أو يقطع نبتها ، كقوله : { أنتم تزرعونه أم نحن الزّارعون } [ الواقعة : 64 ] .
والمعروشات : المرفوعات . يقال : عرش الكرمة إذا رفعها على أعمدة ليكون نماؤها في ارتفاع لا على وجه الأرض ، لأنّ ذلك أجود لعنبها إذ لم يكن ملقى على وجه الأرض . وعَرش فعل مشتقّ من العَرْش وهو السقف ، ويقال للأعمدة التي تُرفع فوقها أغصان الشّجر فتصير كالسّقف يَستظلّ تحته الجالسُ : العَريشُ . ومنه ما يذكر في السيرة : العريش الّذي جُعل للنّبيء صلى الله عليه وسلم يومَ بدر ، وهو الّذي بني على بقعته مسجد بعد ذلك هو اليوم موجود ببدر . ووصف الجنّات بمعروشات مجاز عقلي ، وإنَّما هي معروش فيها ، والمعروش أشجارها .
وغير المعروشات المبقاة كرومها منبسطة على وجه الأرض وأرفع بقليل ، ومن محاسنها أنَّها تزيّن وجه الأرض فيرى الرائي جميعها أخضر .
وقوله : { معروشات وغير معروشات } صفة : ل { جنّات } قصد منها تحسين الموصوف والتّذكيرُ بنعمة الله أن ألْهَم الإنسان إلى جعلها على صفتين ، فإنّ ذكر محاسن ما أنشأه الله يزيد في المنّة ، كقوله في شأن الأنعام { ولكم فيها جَمَالٌ حين تريحون وحين تسرحون } [ النحل : 6 ] .
و { مختلفا أكلهُ } حال من الزّرع ، وهو أقرب المذكورات إلى اسم الحال ، ويعلم أنّ النّخل والجنّات كذلك ، والمقصود التّذكير بعجيب خلق الله ، فيفيد ذكرُ الحال مع أحد الأنواع تذكّر مثله في النوع الآخر ، وهذا كقوله تعالى : { وإذا رأوا تجارة أو لهواً انفضّوا إليها } [ الجمعة : 11 ] أي وإليه ، وهي حال مقدّرة على ظاهر قول النّحويين لأنَّها مستقبلة عن الإنشاء ، وعندي أنّ عامل الحال إذا كان ممّا يحصل مَعناه في أزمنة ، وكانت الحال مقارنة لبعض أزمنة عاملها ، فهي جديرة بأن تكون مقارنة ، كما هنا .
( والأُكْل ) بضمّ الهمزة وسكون الكاف لنافع وابن كثير ، و بضمّهما قرأه الباقون ، هو الشّيء الّذي يؤكل ، أي مختلفا مَا يؤكل منه .
وعُطف : { والزيتون والرمان } على : { جنّاتٍ . . . والنّخلَ والزّرعَ } . والمراد شجر الزّيتون وشجر الرمّان . وتقدّم القول في نظيره عند قوله تعالى : { وهو الذي أنزل من السّماء ماء } الآية في هذه السّورة ( 99 ) .
إلاّ أنَّه قال هناك : { مُشْتَبِها } [ الأنعام : 99 ] وقال هنا : { متشابها } وهما بمعنى واحد لأنّ التّشابه حاصل من جانبين فليست صيغة التّفاعل للمبالغة ألا ترى أنَّهما استويا في قوله : { وغير متشابه } في الآيتين .
{ كلوا من ثمره إذا أثمر وينعه وءاتوا حقه يوم حصاده ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين }
غُيّر أسلوبُ الحكاية عن أحوال المشركين فأُقبل على خطاب المؤمنين بهذه المنّة وهذا الحكم ؛ فهذه الجمل معترضة وهي تعريض بتسفيه أحلام المشركين لتحريمهم على أنفسهم ما مَنّ الله به عليهم .
والثَمَر : بفتح الثّاء والميم وبضمّهما وقرىء بهما كما تقدّم بيانه في نظيرتها .
والأمر للإباحة بقرينة أن الأكل من حقّ الإنسان الّذي لا يجب عليه أن يفعله ، فالقرينة ظاهرة . والمقصود الردّ على الّذين حجّروا على أنفسِهِم بعض الحرث .
و { إذا } مفيدة للتّوقيت لأنها ظرف ، أي : حين إثماره ، والمقصود من التّقييد بهذا الظّرف إباحة الأكل منه عند ظهوره وقبل حصاده تمهيداً لقوله : { وآتوا حقه يوم حصاده } أي : كلوا منه قبل أداء حقّه . وهذه رخصة ومنّة ، لأنّ العزيمة أن لا يأكلوا إلاّ بعد إعطاء حقّه كيلا يستأثروا بشيء منه على أصحاب الحقّ ، إلاّ أنّ الله رخّص للنّاس في الأكل توسعة عليهم أن يأكلوا منه أخضر قبل يبسه لأنَّهم يستطيبونه كذلك ، ولذلك عقّبه بقوله : { ولا تسرفوا } كما سيأتي .
وإفراد الضّميرين في قوله : { من ثمره إذا أثمر } على اعتبار تأويل المعاد بالمذكور .
والأمر في قوله : { وآتوا حقه يوم حصاده } خطاب خاصّ بالمؤمنين كما تقدم . وهذا الأمر ظاهر في الوجوب بقرينة تسمية المأمور به حقّاً .
وأضيف الحقّ إلى ضمير المذكور لأدنى ملابسة ، أي الحقّ الكائن فيه .
وقد أُجمل الحقّ اعتماداً على ما يعرفونه ، وهو : حقّ الفقير ، والقربى ، والضّعفاء ، والجيرة . فقد كان العرب ، إذا جَذّوا ثمارهم ، أعطوا منها من يحضر من المساكين والقرابة . وقد أشار إلى ذلك قوله تعالى : { فانطلقوا وهم يتخافتون أن لا يدخلنها اليوم عليكم مسكين } [ القلم : 23 ، 24 ] . فلمّا جاء الإسلام أوجب على المسلمين هذا الحقّ وسمَّاه حقاً كما في قوله تعالى : { والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم } [ المعارج : 24 ، 25 ] ، وسمّاه الله زكاة في آيات كثيرة ولكنّه أجمل مقداره وأجمل الأنواعَ الّتي فيها الحقّ ووكلهم في ذلك إلى حرصهم على الخير ، وكان هذا قبل شرع نصُبُها ومقاديرها . ثمّ شرعت الزّكاة وبيّنت السنّة نصبها ومقاديرها .
والحِصاد بكسر الحاء وبفتحها قطع الثّمر والحبّ من أصوله ، وهو مصدر على وزننِ الفِعال أو الفَعال . قال سيبويه « جاءوا بالمصادر حين أرادوا انتهاء الزّمان على مثال فِعال وذلك الصِّرام والجِزاز والجِدَاد والقِطاع والحِصاد ، وربَّما دخلتِ اللّغة في بعض هذا ( أي اختلفت اللّغاتُ فقال بعض القبائل حَصاد بفتح الحاء وقال بعضهم حصاد بكسر الحاء ) فكان فيه فعال وفَعال فإذا أرادوا الفعل على فَعَلْت قالوا حَصَدته حَصْداً وقَطَعْته قطعاً إنَّما تريد العمل لا انتهاء الغاية » .
وقرأه نافع ، وابن كثير ، وحمزة ، والكسائي ، وأبو جعفر ، وخلف بكسر الحاء . وقرأ أبُو عمرو ، وعاصم ، وابن عامر ، ويعقوب بفتح الحاء .
وقد فرضت الزّكاة في ابتداء الإسلام مع فرض الصّلاة ، أو بعده بقليل ، لأنّ افتراضها ضروري لإقامة أود الفقراء من المسلمين وهم كثيرون في صدر الإسلام ، لأنّ الّذين أسلموا قد نبذهم أهلوهم ومواليهم ، وجحدوا حقوقهم ، واستباحوا أموالهم ، فكان من الضّروري أن يسدّ أهل الجدة والقوّة من المسلمين خَلَّتهم . وقد جاء ذكر الزّكاة في آيات كثيرة ممّا نزل بمكّة مثل سورة المزمّل وسورة البيّنة وهي من أوائل سور القرآن ، فالزّكاة قرينة الصّلاة . وقول بعض المفسّرين : الزّكاة فرضت بالمدينة ، يحمل على ضبط مقاديرها بآية { خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها } [ التوبة : 103 ] وهي مدنيَّة ، ثمّ تطرّقوا فمنعوا أن يكون المراد بالحقّ هنا الزّكاة ، لأنّ هذه السّورة مكّيّة بالاتّفاق ، وإنَّما تلك الآية مؤكّدة للوجوب بعد الحلول بالمدينة ، ولأنّ المراد منها أخذها من المنافقين أيضاً ، وإنَّما ضبطت الزّكاة . ببيان الأنواع المزكاة ومقدار النُّصب والمُخْرَج منه ، بالمدينة ، فلا ينافي ذلك أن أصل وجوبها في مكّة ، وقد حملها مالك على الزّكاة المعيّنة المضبوطة في رواية ابن القاسم وابن وهب عنه وهو قول ابن عبّاس ، وأنس بن مالك ، وسعيد بن المسيّب ، وجمع من التّابعين كثير . ولعلّهم يرون الزّكاة فرضت ابتداء بتعيين النّصب والمقادير ، وحَملها ابنُ عمر ، وابنُ الحنفية ، وعليّ بن الحسين ، وعطاء ، وحمَّاد ، وابن جبير ، ومجاهد ، على غير الزّكاة وجعلوا الأمر للنّدب ، وحملها السُدّي ، والحسن ، وعطيّة العوفي ، والنّخعي ، وسعيد بن جبير ، في رواية عنه ، على صدقة واجبة ثمّ نسختها الزّكاة .
وإنَّما أوجب الله الحقّ في الثّمار والحبّ يوم الحصاد : لأنّ الحصاد إنَّما يراد للادّخار وإنَّما يَدّخِر المرء ما يريده للقوت ، فالادّخار هو مظنة الغني الموجبة لإعطاء الزّكاة ، والحصاد مبدأ تلك المظنة ، فالّذي ليست له إلاّ شجرة أو شجرتان فإنَّما يأكلُ ثمرها مخضوراً قبل أن ييبس ، فلذلك رخَّصت الشّريعة لصاحب الثّمرة أن يأكل من الثّمر إذا أثمر ، ولم توجب عليه إعطاء حقّ الفقراء إلاّ عند الحصاد . ثمّ إنّ حصاد الثّمار ، وهو جذاذها ، هو قطعها لادّخارها ، وأمَّا حصاد الزّرع فهو قطع السّنبل من جذور الزّرع ثمّ يُفرك الحبّ الّذي في السّنبل ليدّخر ، فاعتبر ذلك الفرك بقيّة للحصاد . ويظهر من هذا أنّ الحقّ إنَّما وجب فيما يحصد من المذكورات مثل الزّبيب والتَّمر والزّرع والزّيتون ، من زيته أو من حبّه ، بخلاف الرمّان والفواكه .
وعلى القول المختار : فهذه الآية غير منسوخة ، ولكنّها مخصّصة ومبيَّنة بآيات أخرى وبما يبيّنه النَّبيء صلى الله عليه وسلم فلا يُتعلّق بإطلاقها ، وعن السدّي أنَّها نسخت بآية الزّكاة يعني : { خذ من أموالهم صدقة } [ التوبة : 103 ] وقد كان المتقدّمون يسمّون التّخصيص نسخاً .
وقوله : { ولا تسرفوا } عطف على { كلوا } ، أي : كلوا غيرَ مسرفين . والإسراف والسّرف : تجاوز الكافي من إرضاء النّفس بالشّيء المشتهى . وتقدّم عند قوله تعالى : { ولا تأكلوها إسرافاً } في سورة النّساء ( 6 ) . وهذا إدماج للنّهي عن الإسراف ، وهو نهي إرشاد وإصلاح ، أي : لا تسرفوا في الأكل وهذا كقوله : { وكلوا واشربوا ولا تسرفوا } [ الأعراف : 31 ] . والإسراف إذا اعتاده المرء حمله على التّوسّع في تحصيل المرغوبات ، فيرتكب لذلك مَذمَّات كثيرة ، وينتقل من ملذّة إلى ملذّة فلا يقف عند حدّ .
وقيل عطف على { وآتوا حقه } أي ولا تسرفوا فيما بقي بعد إتيان حقّه فتنفقوا أكثر ممّا يجب ، وهذا لا يكون إلاّ في الإنفاق والأكل ونحوه ، فأمَّا بذله في الخيرْ ونفع النّاس فليس من السّرف ، ولذلك يعدّ من خطأ التّفسير : تفسيرُها بالنَّهي عن الإسراف في الصّدقة ، وبما ذكروه أنّ ثابتَ بن قيس صَرَم خمسمائة نخلة وفرّق ثمرها كلّه ولم يدخل منه شيئاً إلى منزله ، وأنّ الآية نزلت بسبب ذلك .
وقوله : { إنه لا يحب المسرفين } استئناف قصد به تعميم حكم النّهي عن الإسراف . وأكّد ب { إنّ } لزيادة تقرير الحكم ، فبيّن أنّ الإسراف من الأعمال التي لا يحبّها ، فهو من الأخلاق الّتي يلزم الانتهاء عنها ، ونفي المحبّة مختلف المراتب ، فيعلم أنّ نفي المحبّة يشتدّ بمقدار قوّة الإسراف ، وهذا حكم مجمل وهو ظاهر في التّحريم ، وبيان هذا الإجمال هو في مطاوي أدلّة أخرى والإجمال مقصود .
ولغموض تأويل هذا النّهي وقوله : { إنَّه لا يحبّ المسرفين } تفرّقت آراء المفسّرين في تفسير معنى الإسراف المنهي عنه ، ليعينوه في إسراف حرام ، حتّى قال بعضهم : إنَّها منسوخة ، وقد علمت المنجى من ذلك كلّه .
فوجه عدم محبّة الله إيّاهم أنّ الإفراط في تناول اللّذّات والطّيّبات ، والإكثار من بذل المال في تحصيلها ، يفضي غالباً إلى استنزاف الأموال والشّره إلى الاستكثار منها ، فإذا ضاقت على المسرف أمواله تطلب تحصيل المال من وجوه فاسدة ، ليخمد بذلك نهمته إلى اللّذات ، فيكون ذلك دأبه ، فربَّما ضاق عليه ماله ، فشقّ عليه الإقلاع عن معتاده ، فعاش في كرب وضيق ، وربَّما تطلّب المال من وجوه غير مشروعة ، فوقع فيما يؤاخذ عليه في الدّنيا أو في الآخرة ، ثمّ إنّ ذلك قد يعقب عياله خصاصة وضنك معيشة . وينشأ عن ذلك مَلام وتوبيخ وخصومات تفضي إلى ما لا يحمد في اختلال نظام العائلة . فأمَّا كثرة الإنفاق في وجوه البرّ فإنَّها لا توقع في مثل هذا ، لأنّ المنفق لا يبلغ فيها مبلغ المنفق لمحبّة لَذّاته ، لأنّ داعي الحكمة قابل للتأمّل والتّحديد بخلاف داعي الشّهوة . ولذلك قيل في الكلام الّذي يصحّ طَرْداً وعكساً : « لاَ خَيْرَ في السَّرف ، ولا سرف في الخير » وفي معنى هذه الآية قوله في سورة الأعراف ( 31 ) : { وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين } [ الأعراف : 31 ] وقول النَّبيء صلى الله عليه وسلم " ويُكره لكم قيل وقال وكثرة السُّؤال وإضاعة المال " .